المثالية الزائدة عن الحد
'يا أنيس أذهبت حيث أمرتك؟'
هدى والتقدير:
عندما عادت هدى إلى المنزل من المدرسة ومعها تقرير نهاية الفصل الدراسي، وأعطته إلى والدها ليطلع عليه وهي فرحة مسرورة، كان تقرير هدى يحتوي على سبعة مواد بتقدير ممتاز ومادة واحدة بتقدير جيد، وبسرعة بعد أن ألقى والدها نظرة سريعة عليه قال لها:
ما هذا يا هدى جيد فقط في هذه المادة؟
أنا أعرف أنك قادرة على أن تحصلي على ممتاز فيها أيضًا.
في المرة القادمة أريد أن يكون تقديرك ممتاز في كل المواد.
ثم أعطى هدى التقرير دون أي تعليق على المواد التي حصلت فيها على تقدير ممتاز.
علي والبطاقة:
جَدُّ عليّ أرسل إليه هدية بمناسبة العيد فأسرع عليّ إلى الحاسب الآلي الخاص بوالده وطبع عليه بطاقة شكر لجده. وعندما عرضها على أمه قالت له:
هذا معقول، ولكن السطر الأخير من الكتابة فيه اعوجاج، اذهب واكتب بطاقة أخرى جميلة.
سليمة وحنان:
سليمة تلميذة في الصف الأول وعمرها ست سنوات تعيش مع والديها وأختها حنان التي تبلغ من العمر أربع سنوات وفي إحدى اليالي جلست الأم مع الطفلتين تساعد سليمة في واجباتها المدرسة بينما انشغلت حنان بتلوين بعض الصور في كراسة التلوين.
سليمة عليها أن تكتب صفحة كاملة من الحرف [س].
بمجرد أن انتهت سليمة من كتابة سطر واحد عرضت ما كتبته على الأم التي نظرت إليه نظرة فاحصة، وبدأت تعدد لها الأخطاء الموجودة من عدم كتابة الحروف على السطر، أو أن بعض أسنان الحرف أكبر من الأسنان الأخرى، وهكذا طلبت الأم من سليمة محو السطر بأكمله وإعادة كتابته بطريقة متقنة جدًا أو منمقة..
بعد نصف ساعة، سليمة لم تنه إلا نصف الصفحة، وطلبت منها أمها مرة بل مرات إعادة الكتابة، نظرت سليمة إلى والدتها في أسى وعيناها مملوءة بالدموع وقالت: أنا متعبة .. أريد أن أنام .. لا أريد أن أتعلم شيئًا آخر.
فردت الأم: عليك أن تنهي واجباتك قبل أن تنامي.
فقالت سليمة وهي تبكي: حقًا لا أستطيع .. أنا متعبة.
فقالت الأم: حسنًا يمكنك أخذ بعض الراحة ولوني مع أختك حتى أحضر لكما بعض اللبن والبسكويت بعد قليل.
انطلقت سليمة وحنان إلى أمهما حتى ترى الصور التي قاما بتلوينها، وبمجرد أن رأت الأم صورة حنان بدأت تعدد العيوب فيها:
'انظري يا حنان إن الألوان غير متناسقة، انظري هذا اللون خارج عن حدود الرسم والخط انظري إلى هذه البقعة الحمراء لقد ضغطي على قلم الألوان شدة في تلك البقعة، عليك أن تحسني من ألوانك .. خذي هذه صورة أخرى وحاولي في هذه المرة تلوينها بدقة وتفادي أخطاء الصورة الأولى.
ثم التفتت إلى سليمة تطلب منها أن تريها صورتها ولكن سليمة خبأت الصورة خلفها وبدأت في البكاء والصراخ بصوت عال.
استاءت الأم وامتعضت وقالت: أنا لا أفهم لماذا تصرخين؟ إنني فقط أحاول تعليمك إتقان عملك. إن كل ما أريده هو أن تكوني أفضل طفلة [أولادنا أكبادنا].
تحليل ودراسة:
نلاحظ في القصص الثلاثة السابقة أن الآباء يتخذون مع أبنائهم أسلوبًا غير سليم في التربية، فهم يطالبونهم بما لا يطيقونه، يريدونهم دائمًا في صورة مثالية نموذجية لا يرضون بأي خطأ أو تقصير أو زلل، وهذه المعاملة لا تصلح مع البشر.
لا بد أن يعلم الآباء أن أبناءهم ليسوا ملائكة بل لا بد أن يعلموا أنهم ما زالوا في مرحلة التعليم واكتساب الخبرات وأن ما يعرفونه أقل بكثير مما لا يعرفون.
إننا في معاملتنا لأبنائنا نركز دائمًا على أسلوب الهدم وليس البناء.
نركز دائمًا على تصيد الأخطاء والتغافل عن المزايا والمميزات.
وهذا ما يضعف ثقة أبنائنا في أنفسهم ويجعلهم دائمًا إلى الوراء.
وإننا لو تأملنا أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في التربية سنجده دائمًا يركز على جانب البناء وليس الهدم، فالناس عبيدي المدح والإحسان، والكلمة الطيبة والحسنة لها أثرها في النفوس الأثر الكبير ما لا يحدثه ألف سوط.
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلق السوط في بيته للتخويف فقط .. ولم يكن هذا السوط في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
انظر ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن عمر عندما حكى له الرؤيا التي رآها وكان فزعًا منها.
هل أخافه رسول الله؟ هل فزعه؟ هل ذكره بعيوبه؟
كلا..بل انظر إلى المنهج القويم السديد في التربية.
قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل'.
قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم جانب المدح أولاً، ثم بعد ذلك بدأ يوضح النصيحة لعبد الله بن عمر.
فكيف إذن كانت استجابة عبد الله بن عمر للنصيحة بعد هذا المدح والثناء؟
كانت النتيجة الحتمية أن عبد الله بن عمر لم يترك قيام الليل إلى أن وافته المنية.
وانظر أيضًا إلى تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنس بن مالك خادمه، اسمع كلام أنس ذلك الشاب يحكي كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يربيه.
يقول أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقًا وأرحبهم صدرًا وأوفرهم حنانًا.
وقد أرسلني يومًا لحاجة فخرجت وقصدتُ صبيانًا يلعبون في السوق لألعب معهم ولم أذهب إلى ما أمرني به، فلما صرت إليهم شعرتُ بإنسان يقف خلفي ويأخذ بثوبي .. فالتفتُّ فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم ويقول: 'يا أُنيس أذهبت حيث أمرتك؟'.
فارتبكت وقلت: نعم إنني ذاهب الآن يا رسول الله.
والله لقد خدمته عشر سنين فما قال لشيء صنعته: لم صنعته؟ ولا لشيء تركته: لم تركته؟ [صور من حياة الصحابة ـ الباشا]
انظروا أيها الآباء إلى هذا الأب العظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم واقتدوا به, إنه يدرك طفولة أنس رضي الله عنه ويعامله على أساسها، يعامله كما ينبغي أن يعامل الطفل ... يتأخر أنس فيأتيه الرسول صلي الله عليه وسلم مبتسمًا بل ويناديه بأحب أسمائه 'يا أُنيس', فلو أن أحد أطفالنا بالله عليكم أرسلناه في حاجة ثم تأخر عنها أو لعب مع الأطفال كيف سنعامله؟ بل كيف سنعاقبه؟
بالتأكيد إما سنضربه .. أو نهينه أمام الناس .. أو نحرمه من مصروفه ... هكذا للأسف سيكون تعاملنا .. لأننا لا نعاملهم على أنهم أطفال .. بل نعاملهم على أنهم كبار، لهم عقول كعقولنا.
إن المثالية الزائدة عن الحد في معاملتنا لأطفالنا هي التي أخرتنا كثيرًا حيث إننا نطلب منهم أكثر مما نعطيهم من دفء وعطف وحنان, مما يجعل الطفل في حالة ذهول أو اندهاش لأنه لا يدرك ما الذنب أو الجرم الذي أجرمه.
فأما والد هدى:
فكان عليه أن يقوم من مجلسه في انشراح فور رؤيته لابنته يأخذها في أحضانه ثم يقول لها في سعادة: مبروك عليك الشهادة .. أكيد ممتازة مثل كل مرة.
ثم يطالبها والابتسامة لا تفارق عينيه، وعندما يقرأ المادة التي تقديرها جيد يتعجب ويقول: أكيد هدى مظلومة في هذه المادة .. أنا أعرف مستواها ممتاز في كل المواد ثم يصر أن يذهب في اليوم التالي ليسأل عن سبب هذا الخطأ... عندها تزداد ثقة هدى بنفسها ويزداد أيضًا حبها لوالدها وثقتها فيه واحترامها له.
وأما أم علي:
فكان عليها أن تبتسم في وجه وليدها وتبدي إعجابها وانبهارها بعمله للبطاقة وتقول بصيغة الإعجاب: ما أجمل هذه البطاقة مستواك يا علي يرتفع يومًا بعد يوم, ثم تشير إلى الخطأ بصورة عابرة لا تحدث انزعاج عند علي فتقول: خطك الجميل هذا في السطر الأخير سيكون أجمل لو أصلحت الاعوجاج فيه, تعال أساعدك ... وهكذا... هكذا يكون التفاعل الإيجابي مع الطفل.
وأما أم سليمة وحنان:
فكان عليها ألا تتصيد الأخطاء وأن تساعد سليمة بهدوء دون أن تمسح كل ما كتبته حتى لا تشعرها بالإحباط .. وكان لابد أيضًا أن تراعي حالة سليمة النفسية وأن تعذرها إذا كانت متعبة أو تريد النوم، وكان لا بد لها أن تغرس فيها حب المذاكرة ولا تشعرها بأنه هم ثقيل لا بد أن تحمله، ويكون ذلك مثلاً بأن تحدد لها جائزة إذا انتهت من أداء واجبها،وأن توفر لها المكان الهادئ والمناسب للمذاكرة وكذلك الأدوات الجميلة التي تشجعها على المذاكرة وأن تفهم أن المراد من تكرار كتابة ذات الجملة مرات عديدة هو أنها بلا شك ستخطئ في المرة الأولى ثم بعد ذلك سيتحسن أداؤها وليتربي الطفل على أن كل شيء بالمثابرة ينال.
أما مع الطفلة الصغيرة حنان:
فلم يكن الصواب أن تتصيد أخطاء الرسم، فكل هذا متوقع من طفلة صغيرة قدرتها على التركيز وتجنب الأخطاء قليلة. لهذا فلا يكون إلا التشجيع وإبداء الإعجاب والتقدير والاحترام.
إن قيمة أبنائنا من ذكاء وقدرات وإمكانيات وتأثير في المجتمع وتفوق في الميادين ما هو إلا محصلة ما يفعله الآباء معهم من تشجيع ورفع معنوياتهم ومستواهم وثقتهم بأنفسهم فهلا وعينا ذلك فأحسنا معاملتهم.
mankool