عائشة عبد الرحمن الجلال
3 ـ تنمية فكره وصقل مواهبه:
إن تدريب الطفل على التفكير والتأمل باستمرار، بالإضافة إلى تزويده بالمعلومات والمعارف، هو السبيل إلى نموه العقلي، ونضجه الفكري ولا سيما وأن الطفل لديه قابلية شديدة، للتعلم في الصغر.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه (قلب الحدث كالأراضي الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته، وإنما كان ذلك لأن الصغير أفرغ قلباً، وأقل شغلاً، وأيسر تبدلاً، وأكثر تواضعاً).
وأول ما ينبغي تعليمه للأولاد، القرآن الكريم.
قال ابن خلدون: ((إعلم أن تعليم الولدان للقرآن، شعار الدين أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم، لم يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث، وصار القرآن اصل التعليم الذي يبني عليه ما يحصل بعد من الملكات، وسبب ذلك أن التعلم في الصغر أشد رسوخاً وهو أصل لما بعده لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات، وعلى الأساس وأساليبه يكون حال من يبنى عليه)).
((ولقد نصح ابن سينا في كتاب السياسة بالبدء بتعليم الولد القرآن الكريم بمجرد استعداده جسمياً وعقلياً لهذا التعليم، ليرضع منذ الصغر اللغة العربية الأصيلة، وترسخ في نفسه معالم الإيمان)).
ويقول الغزالي: ((ثم يشغل في المكتب، فيتعلم القرآن، وأحاديث الأخبار، وحكايات الأبرار وأحوالهم، لينغرس في نفسه حب الصالحين، ويحفظ من الأشعار التي فيها ذكر العشق وأهله، ويحفظ من مخالطة الأدباء الذين يزعمون أن ذلك من الظرف ورقة الطبع، فإن ذلك يغرس في نفوس الصبيان بذور الفساد))، هنا يوضح الغزالي العلوم التي يجب تعليمها للطفل، والعلوم التي يجب إبعاده عنها، وكما تلاحظ فإنه جعل أول ما ينبغي تعليمه، للطفل هو القرآن الكريم.
والوالدان مكلفان بتعليم أولادهما، ما يعرفان من العلوم والمعارف بنفسيهما، بالإضافة إلى أن الأب مكلف شرعاً بالإنفاق على تعليم أولاده سواء بإحضار معلم فاضل لهم، أو إرسالهم إلى المدارس ودور العلم، قال رسول الله (ص): ((حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتابة والسباحة وألا يرزقه إلا طيباً)).
قال ابن القيم: ((فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدى، فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كباراً)).
هذا وبالنظر إلى هناك فروق فردية بين الأطفال تجعل كلاً منهم يختلف عن الآخر في جميع جوانب شخصيته، فكل طفل لديه قدرات خاصة، وطاقة معينة، وميول مختلفة.
وعلى الوالدين. أخذ ذلك كله في الاعتبار، أثناء عملية التعليم، والتوجيه للمهنة والعمل مستقبلاً.
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ((قيمة كل امرئ ما يحسن)).
وقال ابن سينا: ((لكل إنسان باب من المعارف، أو فن من الصناعات قد سمح له به طبعه، ونادته إياه غريزته، فصار لديه كالسجية التي لا حيلة في تركها)).
بناءً على هذا فواجب الوالدين، يقتضي حرصهما على تعليم جميع أولادهما القرآن الكريم، وعلوم الشريعة الإسلامية، التي هي فرض عين على كل مسلم، لتكون عوناً لهم على فهم مقاصد الإسلام، وتطبيق أوامر الله سبحانه وتعالى، وبعد ذلك يوجهان كل ولد إلى الفرع الدراسي الذي يلائم طبعه، ويوافق ميوله، وليس فيه مخالفة للشرع (مثل علوم السحر، والموسيقى ... ).
وليس عيباً أن تتجه ميول الولد، إلى تعلم الحرف، مثل (الحدادة، والنجارة ... ) فهذه الحرف وأمثالها من مقتضيات عمارة الكون ومن الصناعات التي لا يستغني عنها أي مجتمع من المجتمعات.
ولكن العيب يكمن في دفع الولد إلى اختيار ما يخالف ميوله واتجاهاته من العلوم والمعارف، لأن النتيجة غالباً هي الفشل في الدراسة. فيخسر الوالدان ما دفعاه في تعليم الولد من جهد ومال، ويعيش الولد في قلق وتوتر، وضياع، نتيجة لقضاء سنوات طويلة من عمره في جهد لم يفلح فيه، وربما كان ذلك عائقاً له عن الاستقرار الاقتصادي والوظيفي مستقبلاً.
كما يخسر المجتمع الإسلامي، شخصية إسلامية، كان من الممكن أنت كون عضواً نافعاً من أعضاء الأمة الإسلامية، لو وجهت الوجهة الصحيحة.
إذاً فالمهم هو التوجيه السليم للولد ليختار ما يناسب ميوله من التخصصات وفروع العلم والمعرفة، مع تدريبه على الإتقان والإبداع في مجال تخصصه، وإقناعه بأهمية ذلك الإتقان والإبداع، وإقناعه أيضاً بأهمية التخصص الذي اختاره، وحاجة الأمة الإسلامية إليه، وذلك ليزرع الثقة في نفسه، ففي هذا تحفيز له على الرضا بما منحه الله من قدرات وطاقات، وبما يسره له من فروع العلم والعمل، وهذا يدفعه بالتالي إلى إتقان علمه وعمله ويجعله عضواً صالحاً لعمارة الكون.
وهكذا يتضح لنا أن لكل من الأبوين دوره الفعال في تربية الطفل وإعداده للحياة، وفي الواقع ليس هناك ما يفصل العناية بتهذيب وجدان الطفل عن الاهتمام بتنمية جسده وتوعية عقله.
فالطفل وحدة واحدة، مكونة من جسم، وعقل وروح. وهذه الوحدة تنمو بشكل مطرد ومترابط، والعناية بأحد جوانب هذه الوحدة، يؤثر تأثيراً مباشراً في جوانبها الأخرى.
فالعناية بصحة الطفل والاهتمام بجسده يشعره بالسعادة النفسية، فتشرق روحه، وتصفو نفسه فيصبح مستعداً لتقبل ما يبذر في تلك النفوس من البذور، فإذا كانت البذور، هي بذور الإيمان، والخلق القويم، ازدادت إشراقة نفسه، وانفتحت مداركه، واندفع إلى التفكير في عجائب الكون، وهذا التفكير يقوده بالتالي، وعن طريق التوجيه إلى التعرف على ما حوله من العجائب، فيزداد إيمانه بالله،وينقاد لأوامره ويجتنب نواهيه، فيزداد صحة جسمية ونفسية وعقلية، وهكذا ...
بقي أن نشير إلى نقطة مهمة جداً وهي: مراعاة الوالدين لمطالب كل مرحلة ـ من مراحل النمو ـ والعمل على إشباع تلك المطالب بما يتفق مع الهدف التربوي الإسلامي، ومراعاة الفروق الفردية بين أولادهما، والمساواة في معاملتهم وعدم تفضيل الذكور على الإناث، لأنهم جميعاً هبة من الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: (يهب لمن يشاء إناثاً، ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً، ويجعل مَن يشاء عقيماً).
وعلى الوالدين أيضاً، مراعاة التدرج في تربية الطفل وتعليمه، حسب سنه وكيفما يتفق مع مداركه، وقدرته على الفهم والاستيعاب.
وهذه قصة طريفة تبين مدى اهتمام السلف الصالح باتباع التدرج في تهذيب وتعليم الأطفال ((قال سهل بن عبدالله التستري، كنت وأنا ابن ثلاث سنوات، أقوم بالليل فأنظر إلى صلاة خالي محمد بن سوار فقال لي يوماً: ألا تذكر الله الذي خلقك؟ فقلت: كيف أذكره، قال: قل بقلبك عند تقلبك في ثيابك ثلاث مرات، من غير أن تحرك به لسانك الله معي، الله ناظر إليّ، الله شاهد، فقلت: ذلك ليالي، ثم أعلمته فقال: قل في كل ليلة سبع مرات، فقلت ذلك ثم أعلمته، فقال: قل ذلك كل ليلة إحدى عشر مرة، فقلته، فوقع في قلبي حلاوته، فلما كان بعد سنة، قال لي خالي، احفظ ما علمتك، ودم عليه إلى أن تدخل القبر، فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة.
فلم أزل على ذلك سنين، فوجدت لذلك حلاوة في سري، ثم قال لي خالي يوماً: يا سهل مَن كان الله معه، وناظر إليه، وشاهد، أيعصيه، إياك والمعصية، فكنت أخلو بنفسي، فبعثوا بي إلى المكتب، فقلت: إني لأخشى، أن يتفرق علي همي، ولكن شارطوا المعلم، أني أذهب إليه ساعة فأتعلم، ثم أرجع، فمضيت إلى الكتاب، فتعلمت القرآن وحفظته وأنا ابن ست سنين، أو سبع سنين)).
ففي هذه القصة نلاحظ، أن خال سهل، ألقى ببذور الإيمان في قلبه منذ حداثته، ثم ترك تلك البذور تنمو مع ملاحظتها، وتدعيم نموها، بالتدرج إلى أن أينعت وقطف سهل الثمار الشهية، حيث استقرت حلاوة الإيمان في قلبه، وحفظ القرآن الكريم، وأصب من عباد الله الصالحين المتقين. لذلك حثت التربية الإسلامية الآباء والأمهات والمربين عموماً، على الرحمة والمحبة والعطف، والشفقة، فتعليم الأطفال وتهذيبهم، بهذا الأسلوب هو الضمان بإذن الله لنجاح الجهود التربوية.
وفيما يلي نذكر حديثين لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) والتي تبين مدى اهتمامه (ص) بالشفقة والرحمة والعطف على الأطفال.
1 ـ عن أبي هريرة (رضي الله عنه): ((قبّل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالس فقال: (إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً)، فنظر إليه رسول الله (ص) ثم قال: مَن لا يَرحم لا يُرحم)).
2 ـ قال أسامة بن زيد (رض): (كان رسول الله (ص) يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى، ثم يضمهما ثم يقول: ((أللهم ارحمهما فإني أرحمهما)) ).
ولكي يتمكن الوالدان من تأدية دورهما في تربية الأولاد، وتهذيب أخلاقهم بنجاح، لابد أن يكونا قدوة صالحة لهم.
فالطفل وخاصة في مراحل طفولته الأولى يرهف سمعه لكل كلمة يقولها الأبوان، ويترصد كل حركة تصدر عنهما، ثم يقلدهما في كل ما سمع ورأى. ومن الأبيان الشعرية الطريفة التي كتبت بهذا الخصوص ما يلي:
مشى السرطان يوماً باعوجاج فقلد شكل مشيته بنوه
فقال: علام تنحرفون؟ قالوا: بدأتَ به ونحن مقلدوه
ويـنشأ ناشئ الفـتيان منّا على ما كان عوده أبوه
ونظراً لأهمية القدوة الحسنة فقد أمر الله تعالى الآباء بإصلاح أنفسهم قبل تربيتهم لأولادهم فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة).
ففي هذه الآية أمر من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين بأن يقوا أنفسهم أولاً وأهليهم ثانياً، من النار، وذلك بتطبيق شرع الله، وحث الأهل بما فيهم الأولاد والزوجة على التطبيق السليم.
وهكذا نرى أنه ((إذا كانت القدوة حسنة، فهناك أمل راجح في صلاح الطفل، وإن كانت القدوة سيئة فهناك احتمال أرجح بفساده.
وقدوة الطفل على الالتقاط ـ الواعي وغير الواعي ـ ، كبيرة جداً أكبر مما نظن عادة، ونحن ننظر إليه على أنه كائن صغير لا يدرك ولا يعي.
نعم، حتى وهو لا يدرك، كل ما يراه، فإنه يتأثر به كله، فهناك جهازان شديدا الحساسية في نفسه هما: جهاز الالتقاط، وجهاز المحاكاة، وقد يتأخر الوعي قليلاً أو كثيراً، ولكن هذا لا يغير شيئاً من الأمر، فهو يلتقط بغير وعي، أو بغير وعي كامل، وهو يقلد بغير وعي أو بغير وعي كامل كل ما يراه أو يسمعه)).
((إن حاجة الناس إلى القدوة نابعة من غريزة تكمن في نفوس البشر أجمع وهي: التقليد، وهي رغبة ملحة تدفع الطفل الضعيف والمرؤوس إلى محاكاة سلوك الرجل القوي والرئيس، كما تدفع غريزة الانقياد في القطيع، جميع أفراده إلى اتباعه واقتفاء أثره)).
إذاً على الوالدين أن يكونا على فهم تام بحقيقة دورهما، وضخامة مسؤوليتهما تجاه أولادهما، فليست المسؤولية، تنحصر في توفير الغذاء، واللباس والعناية بالجسم فقط، بل هذا جزء من المسؤولية، وهي التي تتمثل في تربية وتنمية جميع جوانب شخصية الطفل الجسمية والعقلية، والروحية.
إن الطفل نعمة من نعم الله لوالديه، وزينة لهما، يدخل وجوده على حياتهما البهجة والسرور، كما قال تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا).
لكنه في نفس الوقت امتحان من الله لوالديه، كما قال تعالى: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة).
فإذا أحسن الوالدان تربية أولادهما، حصلا على سعادة الدنيا والآخرة، واجتازا الامتحان بنجاح بإذن الله، وإن أصلا هذه التربية كان لهما سوء العاقبة في الدنيا والآخرة.
ففي الدنيا يخسران أولادهما، حيث ينشأ أولئك الأولاد، نشأة غير صالحة، فيكونون عناصر هدامة في المجتمع، ضرهم أكثر من نفعهم، فيسببون للوالدين المشاكل التي لا تنتهي، فكثير من الأولاد الذين لا يحسن الوالدان تربيتهم يسيئون إلى والديهم بالعقوق والعصيان والتمرد.
أما سوء العاقبة في الآخرة، فهو عقاب الله ومحاسبته على التفريط، وإضاعة الأمانة، وقد قال (ص): ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الرجل راع في أهل بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها)).
( وَذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ* وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ)