سألني، وهو حديث عهده بالزواج: هل ما يحدث بيننا عادي ؟
أجبته: مستغرباً يحدث بينك وبين من.. وما هو ؟
قال: بيني وبين زوجتي! فقد تكرر أن نكون جلوساً بالبيت نشاهد التلفاز أو بالسيارة تصمت وأصمت ويطول صمتنا أحياناً فلا نجد ما نقوله.. وينفض مجلس الصمت هذا ببقايا كلمات أو همهمة كادت أن لا تخرج لولا الحرج !
سألته: هل تحبها.. ..؟
أجاب: نعم، كل الحب.. وما دخل الحب في الصمت ؟
أجبته: أبداً.. أن تصمت وأنت تحب أفضل من أن تتحدث وأنت تكره ! الم تسمع بالمثل الذي يقول "إن في صمت المحبين كلام". للصمت لذة أحياناً وتعبير أبلغ من الكلام؛ ثم أردفت أقول له؛ يا أخي: أنت مازلت حديث عهدك بالزواج ولم يرزقكم الله بعد بالذرية فلا تستعجل وتبحث عن الكلام والثرثرة "إن غداً لناظره قريب" أنعم بالصمت الآن قبل أن تتمناه غداً ولا تجده.
سكت ونظر ليِّ نظرة حيرى.. وكأن عيناه تقول لي "ماذا أقصد بكلامي هذا.. ..؟"
لم أدع له فرصة لسؤالي مرة أخرى.. ووجهت حديثي إليه: هل عندما تكون مع زوجتك.. تجلس بعيداً عنها أم بقربها أو لصقها ؟ سؤالي بريء يا صديقي ولا أقصد من ورائه أية أفكار شيطانية.
أجاب بأن لا توجد حالة معينة لجلوسه معها، فهو أحياناً قريب.. وأحياناً لصيق.. وأحياناً بعيد.. عادي ذي كل المتزوجين..
قلت له أحمد الله إذن لأن هنالك من يتمنى حياة مثل حياتك.. وما تراه غير عادي إنما هو نمط الحياة التي نعيشها كل يوم.. وكل الذي تحتاجه أن تملأ الفراغ الذي تحسه بشي مفيد أو غير مفيد وحاول أن تشرك زوجتك فلعلها تتساءل أيضاً في صمتها عن سر صمتك.
دار هذا الحوار بيننا ثم افترقنا .. ومضت شهور على لقاءنا ذاك ثم التقينا صدفة في إحدى المناسبات، وذهلت من أول وهلة فملامح وجهه لم تكن مثل تلك التي عرفته بها، حتى شعر رأسه امتلأ بياضا، كأنها دهور وليست شهور فترة غيابنا عن بعض.
سألته مندهشاً مالك.. ماذا حلّ بك ؟
كأنه فهم قصدي من السؤال.. وفي لحظة تغيرت ملامح وجهه ورسمت عيناه نظرة حزن، ومن دون قصد خرجت آهة فؤاد مكلوم.. ثم قال: في رحاب المولى محبوبتي وفي جنة الفردوس بإذن الله مسكنها.. لقد أدركتها المنية وهي تضع طفلنا.. لم تقوى على تحمل الألم كان كلاهما يصرخ.. لم أدري ساعتها وأنا أعيش أمل رؤيتهما خارج غرفة الولادة بأن صراخ الطفل البريء الذي سمعته وهو يستقبل الحياة، لم يكن إلا وداع لأمه التي أنجبته.. وصراخها وهي تستقبله إلا وداع له.. وأن الحركة الغريبة في الغرفة والهمهمة إنما كانت تشير إلى انتهاء أجل وبداية آخر.. لم أدري وأنا في حيرة من أمري ماذا أصنع وقتها غير الابتهال والتضرع لله بأن ينتهي كل شيء على خير وأن نعود ثلاثتنا فرحين مستبشرين بالوافد الجديد ليعطر سماء حياتنا ويملاها حركة وضجيج ويزيل ذلك الصمت والجمود عن حياتنا.. لكن.. أتت إرادة المولى ولا راد لقضائية وابتلاءه لي بأن تكون "منتهى" وهو اسم الطفلة التي أنجبتها زوجتي ذكرى عطره وخير خلف إن شاء الله لخير سلف.
"إنا لله وإنا إليه راجعون" صبرك الله يا أخي وعوضك خيراً وخلف عليك.. كان هذا ختام لقاءنا الثاني وافترقنا ومضى كل منا في طريق وأحزنني الموقف لكن ما باليد حيلة "أنا أريد وأنت تريد والله يفعل ما يريد".
أخي.. أختي.. رفقاء المنتدى
لم يكن قصدي من سرد القصة أعلاه تظليل واجهة منتدانا المشرق هذا بلمسة حزن وكآبة وإنما للاعتبار، فالحياة ليست إلا رحلة قد يطول سفرنا فيها وقد يقصر والفطن منا من يدرك بأن الخاتمة حتمية ويعد لها حسابها ويتزين بالصفات الحميدة.. وليس عيباً أن نبحث عن ما فينا من عيون لنتداركها وحتى نتزين ونعد أنفسنا ليوم لا راد لقضائه.