الإنسان في دنياه يمشي على ظهر البسيطة وهو يطمع بل يطمح أن يكون محبوبًا ومحبًا محبوبًا من أشخاص مقربين ؛ ليكون محط عنايتهم ورعايتهم واهتمامهم ، وهؤلاء كثر ؛ بدءًا من والديه وإخوانه ، وانتهاء بأبنائه وأحفاده ؛ هذا غير الأتراب(1) من الأصدقاء ، والخلان(2)، والزملاء .
لكن واسطة العقد فيهم كلهم وآكدهم وآثرهم ؛ الذي يمضي معه لاستكمال عمره = شريك الحياة ؛ من تسكن نفسه معه(3)، ويبادله الحب والعشق والهيام (4).
فالحبيب يرى حبيبه ـ بالنسبة له ـ كالهواء الذي يتنفسه ، والغذاء الذي يقتات به ليعيش ، ويحيا معه في كنفه(5) وجواره ، يحوطه ويحرسه ، ويبذل له الغالي والنفيس ؛ يأنس بقربه وينعم برؤياه ؛ ليسكن معه في راحة تامة ، وسعادة غامرة ، وهناءة ساحرة ، وحياة وارفة (6) الظلال ، بلا سآمة (7) أو ملال ؛ حتى آخر رمق له في الحياة .
يبدأ الحب حينما يلتقيان ، ويزداد بالاحترام والإحسان والامتنان ، ويكون على أشده حينما يقدّر بعضهما بعضًا ولا يختلفان ، بل يترابطان وينسجمان ، ويتركان مساحة لما اختلف فيه الرأيان ، وإيجاد أحسن المخـارج والأعـذار لمن قصر في حق الآخـر بعد أن يتعـاتبا ؛ لأنهما
حبيبان حميمان مخلصان .
ولا ينتهي الحب بينهما أبدًا وإن فرق بينهما ريب المنون(1)، ولو أتت على ذلك شهور بل سنون ، ويظل الآخر يعيش على ذكرى حبيبه الذي رحل ، يتذكره في كل أوان ومكان وزمان ، في ضحكاته وهمساته وابتساماته ، وجلوسه وقيامه ، وذهابه وإيابه ، وربما غضبه ورضاه ، ومزحه وجده وهزله ، وحديثه الذي لا أعذب منه ولا أجمل .
كيف كان يحيا معه ، وينعم بقربه ، ويأنس بجواره ، ثم فجأة رحل وقد ترك مساحة كبيرة في حياته ، لا يملؤها من محبة البشر شيئٌ ، غير العيش على الذكريات الغالية الأثيرة لديه فتنهمل الدموع ، ثم تسكب العبرات من المآقي(2)دون أن يشعر ، ثم يتبعها بكاء يقطّع القلب ويحزنه ، وفي نهاية الأمر ترتاح النفس وتسكن .
لكن مع طول العشرة وخوض غمار(3) الحياة ، لابد من اختلاف وجهات النظر ، والأمزجة والأحوال ، فيحصل بعض الجفاء والقصور والفتور في العلاقة بين الحبيبين .
قد لا يجد حبيب من حبيبه تجاوبًا في بعض الأحوال ، فيريد أن يجدد العهد ، ويبشر بالوعد ، ويذهب وَحْرَ(4) الصدر ، لكن حبيبه لا يستجيب ، وربما كان في شاطئ فكر
مرساه (5) غير قريب ، فتختلج (6) في نفسه أنّات وزفرات وآهات (7) ، وتظلم الدنيا في وجهه ، كيف يكون الحال والنفس مؤرقة(8) ، والحبيب وإن كان ليس في خلاف معه ، لكنه ليس في درب مركبه يشاطره أفراحه وأتراحه ، فيقول في نفسه : ما الذي شغله عني ؟ وربما لم يأنس بقربي ؟ هل سببتُ له ألمًا وجرحًا فطواه عني ؟ ، أو أنني لم أبح له ما في صدري ونفسي وقلبي فلذلك رأيته ابتعد عني ؟ أو ربما لم يفهم ما يحمله الحبيب من هموم مزعجة قد لا يستطيع البوح بها حتى لا يخسر أو يجرح حبيبه ، أو لا يريد أن يجعله يحس بما يحس به من ألم فيحزنه ويغمه ، فيعيشها بمفرده ، مؤثرًا السلامة لرفيق دربه ، في سبيل ألا يسبب له المتاعب ؛ لأنه في النهاية حبيب .
كلها أحاسيس مرهفة ، تارة محبوبة ، وأخرى مكلومة مكبوتة (1) لم يرد الحبيب البوح بها لحبيبه ، بل أحب أن تكتب بمداد الحب ؛ ليجد في طيات نفسه ـ أحيانًا ـ لها تساؤلات ، وربما بعض الإجابات ، ومن ثم لينفس عن نفسه عبر هذا الكتاب : ( بوحُ(2) إحساسٍ ) .
هذا الكتاب الذي لم تنتظم (3) مواضيعه ولآلِئه عبر سلك(4) واحد ، لكن يجمعها أنها تدور حول محور واحد : أحاسيسُ تحتاج من يفهمها ، ويتعايش معها في كل حال بما تستحق .
كتبه
محمد بن محمد الجيلاني
عفا الله عنه
جدة ـ الإثنين 16/7/1439هـ
ما رأيكم أخواني وأخواتي