السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تودع الأمة الإسلامية شهراً عظيماً وموسماً كريماً , تحزن لفراقه القلوب المؤمنة ألا وهو شهر رمضان المبارك فقد قوّضت خيامه على الرحيل وتصرمت أيامه , وقد كنا بالأمس القريب نتلقى التهاني بقدومه و نسأل الله بلوغه واليوم نتلقى التعازي برحيله و نسأل الله قبوله , بالأمس نترقبه بكل فرح وخشوع , واليوم نودعه بالأسى والدموع , وتلك سنة الله في خلقه , أيام تنقضي , و أعوام تنتهي , إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين .
مضى هذا الشهر الكريم وقد أحسن فيه من أناس و أساء آخرون , وهو شاهد لنا أو علينا , شاهد للمشمر بصيامه وقيامة وعلى المقصر بغفلته واعراضه , ولا ندري ـ يا عباد الله ـ هل سندركه مرة أخرى أم يحول بيننا وبينه هادم اللذات ومفرق الجماعات ؟ ! فسلام الله على شهر الصيام والقيام , لقد مر كلمحة برق أو غمض عين كان مضماراً يتنافس فيه المتنافسون , وميداناً يتسابق فيه المتسابقون , فكم من أكف ضارعة رفعت , ودموع ساخنة ذرفت , وعبرات حرّاء سكبت , وحُق لها ذلك في موسم المتاجرة مع الله وموسم الرحمة والمغفرة والعتق من النار .
لقد مر بنا هذا الشهر المبارك كطيف خيال , مر بخيراته وبركاته , مضى من أعمارنا وهو شاهد لنا أو علينا بما أودعناه فيه , فليفتح كل واحد منا صفحة المحاسبة لنفسه : ماذا عمل فيه ؟!! ماذا استفاد منه ؟!! ما أثره في النفوس ؟!! وما ثمراته في الواقع ؟!! وما مدى تأثيره على العمل والسلوك والأخلاق ؟ !! .
إن السؤال المطروح الآن بإلحاح : هل أخذنا بأسباب القبول بعد رمضان وعزمنا على مواصلة الأعمال الصالحة أو أن واقع الكثير من الناس على خلاف ذلك ؟!! هل تأسينا بالسلف الصالح رحمهم الله الذين توجل قلوبهم وتحزن نفوسهم عندما ينتهي رمضان لأنهم يخافون أن لا يتقبل منهم عملهم ؟!! لذا فقد كانوا يكثرون الدعاء بعد رمضان بالقبول .
ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله عن معلى بن الفضل أنهم كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يتقبله منهم 1 ( 1 ) , كما كانوا رحمهم الله يجتهدون في إتمام العمل و إكماله وإتقانه ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده , سألت عائشة رضي الله عنها الصديقة بنت الصديق رسول الله صلى الله علية وسام عن قولة سبحانه " والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة " ( المؤمنون من الآية : 60 ) أهم الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر ؟ قال : ( لا يا ابنة الصديق ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون ويخافون أن لا يتقبل منهم ) 2 ( 2 ) ويقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل ألم تسمعوا إلى قول الله عز وجل " إنما يتقبل الله من المتقين " ( المائدة من الآية : 27 ) 3 ( 3 ) وعن فضالة بن عبيد قال : لو أني أعلم أن الله تقبل مني مثقال حبة خردل أحب إلى من الدنيا وما فيها لأن الله يقول : " إنما يتقبل الله من المتقين " 4 ( 4 ) وقال عطاء : الحذر الإتقاء على العمل أن لا يكون لله 5 ( 5 ) , وقال ابن دينار : الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد من العمل 6 ( 6 ) .
وماذا بعد شهر رمضان ؟!! ماذا عن آثار الصيام التي عملها في نفوس الصائمين ؟!! لننظر في حالنا ولنتأمل في واقع أنفسنا ومجتمعاتنا و أمتنا ولنقارن بين حالنا قبل حلول شهر رمضان وحالتنا بعده , هل ملأت التقوى قلوبنا ؟!! هل صلحت أعمالنا ؟!! هل تحسنت أخلاقنا ؟!! هل استقام سلوكنا ؟!! هل اجتمعت كلماتنا وتوحدت صفوفنا ضد أعدائنا وزالت الضغائن والأحقاد من نفوسنا ؟!! هل تلاشت المنكرات والأفراح والمحرمات من أسرنا ومجتمعاتنا ؟!!
لقد جاءت النصوص الشرعية بالأمر بعبادة الله والإستقامة على شرعة عامة في كل زمان ومكان , ومطلقة في كل وقت و آن , وليست مخصصة بمرحلة من العمر , أو مقيدة بفترة من الدهر , بل ليس لها غاية إلا الموت , واقرأ قوله سبحانه : " واعبد ربك حتى يأتيك اليقين " ( الحجر : 99 ) 7 ( 7 ) , ولما سُئل بشر الحافي رحمه الله عن أناس يتعبدون في رمضان ويجتهدون , فإذا انسلخ رمضان تركوا , قال : بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان .
د . عبد الرحمن السديس .