وقار الشيب ونذارته
الشيخ إبراهيم بن صالح العجلان
إخوة الإيمان:
يقول الله - تعالى - في كتابه العظيم: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾ [الروم: 54].
المرء في دنياه يعيش بين ضعفين، ضعف في مبدأ طفولته، ووهن عند نهايته وشيخوخته، وهذا الضعف والنقص المحاط به الإنسان، هو من جملة آيات الله - تعالى - التي رسمها في خلقه؛ ﴿ سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53].
نقف - إخوة الإيمان - مع ضعفٍ يسبقنا، أو قد حلَّ ببعضنا، مع الشيب والمشيب، وهمه وهمومه، وحلوه ومُرِّه، وعِبره وعَبَراته.
إخوة الإيمان:
حياة الكهولة والمشيب محطة لا بد منها لمن أمدَّ الله في عمره، وأنسأ له في أثره، وهي حياة تبعث على الإشفاق، والرأفة، والرحمة.
مرحلة تحمل في طياتها تغيرًا كثيرًا في الخلقة، والطبع، والطبائع.
تأمل معي - أخي المبارك - عظيمَ قدرة الله وصنعه في عبده، فبينما الإنسان يعيش شبابه في أوج قوته، وعنفوان فتوته، ويملؤها بكل نشاط وحيوية، حتى إذا ما تعاقبت به السنون - وما أسرعَ تعاقبَها! - تغيَّرت أحواله، ورُحمت حاله، فابيضَّ شعره، وتجعَّد وجهه، واحدودب ظهرُه، وكلَّت حواسه، وتقاربت خطاه، وضعف هواه، ذَبل عزُّه، وبدأ ذُله، وضعفت ذاكرته، وتغيَّرت عافيته.
إِذَا اصْفَرَّ لَوْنُ المَرْءِ وَابْيَضَّ شَعْرُهُ == تَنَغَّصَ مِنْ أَيَّامِهِ مُسْتَطَابُهَا
وَعِزَّةُ عُمْرِ المَرْءِ قَبْلَ مَشِيبِهِ == وَقَدْ فَنِيَتْ نَفْسٌ تَوَلَّى شَبَابُهَا
الشيب - عباد الله - ناقوس الضعف، ونذير الفناء والرحيل، هو المرارة بعد الحلاوة، والعجز بعد القوة، وهو العلة التي لا تبرأ، والضيف الذي لا يرحل.
هذه نهاية عمر الإنسان، ومنتهى حياته، وصدق الله – تعالى -: ﴿ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ﴾ [يس: 68]، وأهل القلوب الحية يعتبرون هذا الشيب نذارةً من ربهم؛ ليستعدوا بالعمل، قبل حلول الأجل، فليس بعد هذا المشيب بضعفه ووهنه إلا رذائلُ الأعمار، والانتقال من هذه الدار.
إِذَا الرِّجَالُ وَلَدَتْ أَوْلاَدُهَا == وَبَلِيَتْ مِنْ كِبَرٍ أَجْسَادُهَا
وَجَعَلَتْ أَسْقَامهَا تَعْتَادُهَا == تِلْكَ زُرُوعٌ قَدْ دَنَا حَصَادُهَا
وإذا شاب المرءُ، فقدْ أعذَرَه ربُّه بتعميره، وإمدادِه في فسحة حياته، وقد اشتدَّ عتابُ الله على أقوام عاشوا طويلاً، وامتدت حياتهم، لكنهم لم ينتفعوا بأعمارهم؛ قال - تعالى -: ﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ﴾ [فاطر: 37]، فسَّر ابن عباس، وعكرمة، وسفيان بن عيينة، وغيرُهم، النذيرَ بالشيب، وفسره آخرون بالنبي - صلى الله عليه وسلم.
عباد الله:
المؤمن في حياته كلها في خير، وعلى خير، فهذا المشيب، وإن جاء بالضعف والعجز والانحدار، إلا أنه يحمل أبوابًا عظيمة من الأجر، لمن تحلى بالصبر، والإيمان بالقدر؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابتْه سراء شَكَر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له))؛ رواه مسلم في "صحيحه".
نعم، للشباب نشاطُه وحيويته، وزهرته ولذَّتُه، إلا أن لأهل الشيب في الإسلام ما ليس لمن دونهم، وثبت لهم من الفضائل ما تهفو له القلوب، وتتطلع إليه النفوس.
فمن فضائل الشيب:
- أن الله - تعالى - يبدلهـم بهذا الشيب نـورًا، ويكسوهم نورًا؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن شاب شيبة في الإسلام، كانت له نورًا يوم القيامة))؛ رواه ابن حبان بسند حسن.
- وطاب فضل الله - تعالى - وكرمه على أهل الشيب من المؤمنين، بأن كافأهم بالحسنات، وحطِّ الخطيئات، ورفعةِ الدرجات؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تنتفوا الشيب؛ فإنه نور يوم القيامة، ومن شاب شيبة في الإسلام كُتب له بها حسنة، وحُط عنه بها خطيئة، ورفع له بها درجة))؛ رواه ابن حبان وحسنه الألباني.
- طوبى لمن شاب رأسه، وابيض شعره، وهو ثابت على طاعة ربه، ملازم لمرضاته، يُسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الناس خير؟ قال: ((مَن طال عمره، وحسن عمله))، قيل: فأي الناس شر؟ قال: ((من طال عمره، وساء عمله)).
قال الحسن البصري: أفضل الناس ثوابًا يوم القيامة المؤمنُ المعمَّر.
- هنيئًا لأهل المشيب إكرام الله لهم، يوم أن قرن إجلاله بإجلالهم؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن مَن إجلال الله – تعالى - إكرامَ ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط))؛ رواه أبو داود، وهو حديث حسن.
- أهل المشيب إذا استقامت أعمالهم، وصلَحت أحوالهم، وحسنت سيرتهم، ونقت سريرتهم - كانوا من أقرب الناس إلى ربهم - عز وجل - وكانوا أهلاً للرحمة، وإجابة الدعاء من الكريم الرحيم المنان؛ ولذا قدَّم زكريا - عليه السلام - دعواتِه لربِّه بشكاية حاله، وضعف قوته، واشتعال شيبته؛ ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ﴾ [مريم: 4].
تذكَّرْ - يا من علاك الشيبُ - أن الفسحة في العمر نعمةٌ كبيرة يمنُّ الله بها على عباده، فاستثمر هذه النعمة فيما يرضي ربَّك، ويعلي منزلتَك، واستدرك ما فات، بالاستعداد لما هو آت، لتكن شعرات شيبك تؤزُّك للإنابة إلى ربك أزًّا، وتحرك مشاعر الندم في نفسك على تقصيرك، وتضيع عمرك فيما لا ينفع، فليس فيما بقي من العمر أطول مما فات، فبادرْ بالتوبة والعمل بقية أيامك، قبل أن تبادرك المنون، واجعل مسك ختام العمر طاعة وتقوى، صلاة وصيامًا، وصدقة واستغفارًا، سل الله حسن الخاتمة، فإنما الأعمال بالخواتيم، ومن عاش على شيء، مات عليه.
والموت على الطاعة من علامات أهل التقوى؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
إخوة الإيمان:
ويبقى الشيب - وإن أَنفَه الناس - عنوانَ الوقار، وتاجَ الهيبة، ورمز الإجلال والرزانة، فجديرٌ بمن لبس ثوبَ الوقار أن يتوقَّر، وحريٌّ بمن ابيض عارضاه أن يبيض صحيفته، والمصيبة والرزية أن يجمع العبد بين بياض الشعر وسواد الصحيفة.
عارٌ على مَن علاه الشيبُ أن يكون همه ويومه في شهوته وهواه، ولهوه وغفلته، يحمل مراهقة الشباب، وطيش المراهقين، لا يعرف للشيب وقارًا، ولا للكبر سمتًا.
وَيَقْبُحُ بِالفَتَى فِعْلُ التَّصَابِي == وَأَقْبَحُ مِنْهُ شَيْخٌ قَدْ تَفَتَّا
فيا لله من ظلم العبد لنفسه! حينما يشيخ وهو مصرٌّ على معصية الله، سقط حاجباه على عينيه، وهو ينظر بهما إلى الحرام، وثقل منه السمع إلا من سماع الغناء والآثام، عاكف على الفسق، ومستعلن به، قد ضيع الصلوات، واقترف المنكرات، واستهان بالمحرمات، لم يعرف لله قدرًا، ولا لرسوله حقًّا، تلك - وايم الله - عيش السوء، وحياة الشقاء، نعوذ بالله من الحرمان!
ويا مَن يرى المشيب ولـمَّا يعلوه، أيها الشاب اعتبر بغيرك، وادَّكر بما ترى، واعلم أخي المبارك - زادك الله صحة وقوة - أن مَيْعةَ الصبا، ويَنْعَ الفتوةِ ظلٌّ زائل، وبستان ذابل، وربيع لكنه إلى خريف.
تذكر أخي الشاب - إن كان للذكرى مكان في قلبك - أن زمن المشيب قريب، وأن شيوخ اليوم كانوا شباب الأمس، فالعمر يمضي، والسنون تنقضي، فما بين ليلة وأختها إلا وأنت على أعتاب الشيخوخة، فاملأ رصيد حياتك - رعاك الله - بالأعمال الصالحات، واستعن بقوة الشباب على استجلاب الحسنات.
وَأَيَّامَ الحَدَاثَةِ فَاغْتَنِمْهَا == أَلاَ إِنَّ الحَدَاثَةَ لاَ تَدُومُ
هذه حقيقة، فلا تغمض عينك عنها، ولا تخدعنَّك نفسُك الأمارة، فتمُد لك من الأماني مدًّا.
تذكر - أخي المبارك - أنك تعيش حالة غبطة وغبن، فكم مِن أعينٍ شابت حواجبها، وبكتْ على قوتها التي ذبلت، ونشاطها الذي كَلَّ وفَتَر.
بَكَيْتُ عَلَى الشَّبَابِ بِدَمْعِ عَيْنِي == فَمَا يُغْنِي البُكَاءُ وَلاَ النَّحِيبُ
فَيَا أَسَفًا أَسِفْتُ عَلَى شَبَابٍ == نَعَاهُ الشَّيْبُ وَالرَّأْسُ الخَضِيبُ
فَيَا لَيْتَ الشَّبَابَ يَعُودُ يَوْمًا == فَأُخْبِرَهُ بِمَا فَعَلَ المَشِيبُ
أقول ما سمعتم، وأستغفر ربي من كل إثم وخطيئة، فاستغفروه إن ربي غفور رحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وإذا كان للشباب ثوبُ القوة والفتوة، فإن للشيوخ رداءَ الرأي والحكمة، وإذا كان للشباب عزمٌ وإقدام، فإن للشيوخ تجاربَ وأحلامًا، ولا يزال الناس بخير ما ارتبط أصاغرهم بأكابرهم، فاستناروا بآرائهم، واستضاؤوا بتوجيهاتهم.
فهؤلاء الكبار عرَفوا الأيام، وعاشوا تقلبات الزمان، وحنكتهم التجارب، وصقلتهم الحياة، فحصلوا من معتركها رصيدًا من الحكمة، وذخرًا من الواقعية.
إِذَا طَالَ عُمْرُ المَرْءِ فِي غَيْرِ آفَةٍ == أَفَادَتْ لَهُ الأَيَّامُ فِي كَرِّهَا عَقْلاَ
ومن منثور الحكم: مَن طال عمره، نقصت قوة بدنه، وزادت قوة عقله.
ومن الأهمية في التربية والاستقامة المنهجية، ربط شباب الأمة بأكابرهم وشيوخهم من أهل الصلاح والديانة؛ فهو صمام أمان لهؤلاء الشباب - بعد توفيق الله - من الولوغ في شراك الثقافات الوافدة، أو الوقوع في التبعية، وسفه الرأي، وسوء التصرف.
إخوة الإيمان:
ومن حقِّ أهل الشيب أن يُوقَّروا ويُحترموا، ويُصغى لحديثهم، وتُقضي حوائجهم، مع تصديرهم في المجالس، وإيثار الأماكن لهم.
جاء شيخ غريب يريد النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأبطأ الناس أن يوسعوا له، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس منا مَن لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا))؛ رواه الترمذي وغيره، وهو حديث حسن بشواهده.
ومن الأدب الرفيع مع أهل المشيب:
ألاَّ يتقدم الشاب بالحديث بين يديهم؛ إجلالاً لشيبتهم، واحترامًا لسنِّهم، وقد تمثل هذا الأدبَ الرفيع عبدُالله بن عمر - رضي الله عنه - حينما سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل صحابتَه عن شَجَرةٍ مَثَلُها كمثل المؤمن، قال ابن عمر: "فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان؛ فكرهت أن أتكلم"، فقال رسول الله: ((هي النخلة))، قال عبدالله: "فحدَّثت أبي بما وقع في نفسي، فقال: لأنْ تكون قلتَها أحبُّ إليَّ من أن يكون كذا وكذا".
تلك - عباد الله - بعض المعالم عن المشيب وأهله، وشيء من عِبره، وعظاته، وآدابه.
نسأل الله - تعالى - أن يبارك لنا في شيوخنا وكبارنا، وأن يثبِّتهم على الإيمان، ويزيدهم إحسانًا، ويزيدهم تقًى، ويُلبسهم لباسَ الصحة والعافية.
هذا، وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على خير البرية محمد بن عبدالله.