زهرة الدنيا
**[زهرة الدنيا]**
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد ...
فهذه جوابات على سؤالات
طرحتها الدكتورة الفاضلة / أمل فهر بارك الله فيها وفي سائر الإخوة والإخوات
أردت أن أجعلها في منشور مستقل .. ليعم بها النفع وتزيد بها الفائدة وتستقل
ودونكم هذه السؤالات .. نفعنا الله وإياكم بها وبجوابها في الحياة وبعد الممات
السؤال الأول :ما تفسير قوله تعالى في سورة الحديد :
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ
كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا
وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ
السؤال الثاني : ما هو المقصود بقوله تعالى : ولا تنس نصيبك من الدنيا؟
السؤال الثالث : ما هو ضابط الزهد وأنواعه وكيفية تحصيله في ظل التوسع الزائد في متاع الدنيا ؟
السؤال الرابع : كيفية الجمع والموازنة بين الدنيا ومتاعها والزهد والعبادة ولذتها ؟
والله المستعان ... وعليه التكلان
ولا حول ولا قوة إلا به سبحانه
صورة
**[السؤال الأول : تفسير آية الحديد]**
اعلموا أرشدكم الله أن الفهم الصحيح لأي آية قرءانية لا يتم ويكتمل إلا بالنظر في دلالة سياقها
ومعرفة سباقها ولحاقها
صورة
**[أولا : معرفة سباق الآية]**
سبقت هذه الآية العظيمة بعتاب الله للمؤمنين .. وأمرهم بالخشوع لذكر الله وما نزل من القرءان ...
ونهاهم عن التشبه بأهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين طال عليهم الزمن بينهم وبين أنبيائهم فقست قلوبهم
ولم تخشع لذكر الله وما نزل من الحق
فقال تعالى :
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ
وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)
ثم بشرهم جل وعلا بقدرته على إحياء قلوبهم بالخشوع بعد قسوتها
كقدرته على إحياء الأرض بالماء بعد موتها
فقال تعالى :
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
ثم حثهم جل وعلا على الصدقة والنفقة وبشرهم بالأجر المضاعف الكريم
ومع كون المال ملك لله تعالى كما في قوله : وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ
سمى الصدقة قرضا ! .. وهذا بيان لعظيم فضل الله على عباده
أعطاهم المال .. واستخلفهم فيه .. ثم طلبه منهم وأثابهم عليه !!
فقال تعالى :
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)
ثم بين جل وعلا جزاء المؤمنين المصدقين وجزاء الكافرين المكذبين فقال :
وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
والحاصل أن هذه الآيات حذرت من الوقوع في ثلاث مخالفات :
الأولى : عدم خشوع القلب لذكر الله وما نزل من الحق
الثانية : البخل والإمساك عن النفقة
الثالثة : الكفر والتكذيب بآيات الله رب العالمين
ولما كان السبب الرئيسي في هذه المخالفات الثلاث
حب الدنيا وتعلق القلب بحطامها الزائل قال جل وعلا :
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ
كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا
وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ
يقول تعالى :
اعلموا أيها المؤمنون .. اعلموا أيها البخلاء الممسكون .. اعلموا أيها الكافرون المكذبون
أن هذه الحياة الدنيا ..
لعب يُرَغّب اللاعب في حبها .. ولهو يُلْهـِي اللاهي عن الآخرة ونعيمها
وزينة لا حقيقة فيها .. كالزهرة التي سرعان ما تضمحل بما فيها
وتفاخر بينكم بالأحساب والأنساب
وتكاثر بينكم في الأموال والأولاد .. تتطاولون بهما على بعضكم البعض
وما الدنيا في حقيقة أمرها وسرعة زوالها واضمحلالها
إلا كمطر أعجب الزراع نباته ثم ما يمر عليه وقت قصير إلا وييبس فتراه مصفرا
ثم يكون حطاما وهشيما تذروه الرياح وتأكل منه الدواب والأنعام
وفي الآخرة عذاب شديد لمن آثر الدنيا عليها ومغفرة من الله ورضوان لمن لم يؤثر الدنيا عليها
وما متاع الحياة الدنيا إلا متاع الغرور
يغتر به كل مغرور بها .. لا يعمل فيها لآخرته خوفا من عذابها وطمعا في نعيمها
صورة
**[ثانيا : معرفة اللحاق]**
قال جل وعلا بعد هذه الآية العظيمة :
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
وهذا حث على المسابقة إلى مغفرة الله وجنته الواسعة
بدلا من المسابقة في التفاخر والتكاثر في الأموال والأولاد
وبين جل وعلا أن هذا الفضل العظيم .. الكائن في مغفرته والنعيم المقيم
يؤتيه من يشاء .. فلا مانع لما أعطى .. ولا معطي لما منع سبحانه
والله صاحب الفضل العظيم
وحاصل ما دلت عليه هذه الآية العظيمة أن
**[الدنيا مهما طالت فهي قصيرة .. ومهما عظمت فهي حقيرة]**
صورة
**[الدنيا مهما طالت فهي قصيرة]**
فعمرها في قصر عمر النبات
إخضرار فاصفرار فانكسار فانتشار فاندثار
والتمثيل بهذه الأطوار دلت عليه هذه الآية مع قوله تعالى في سورة الكهف :
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ
وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا
فضرب الله في هذه الآيات للدنيا مثلا بأطوار النبات
وضرب في غيرها لزينتها مثلا بأزهار النبات
لأنها أقصر أطوار النبات وأقربها للزينة
كما في قوله تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم في سورة طه :
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ
وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى
يقول تعالى :
لا تمدن عينيك يا محمد إلى متاع الدنيا الذي متعنا به أصنافا من الكافرين
فما هذا المتاع إلا زهرة الحياة الدنيا وزينتها لنفتنهم به
بأن يزدادوا طغيانا على طغيانهم .. ويظنوا أن الله رضي عن كفرهم
ولذا قال الله لنبينا صلى الله عليه وسلم :
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ
وقال جل وعلا :
وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا
فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ
وقال جل وعلا :
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ *
وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ *
كَلَّا
و[كلا] هذه إبطال لما سبقها
وأمر الرب جل وعلا لنبينا صلى الله عليه وسلم بعدم مد عينيه إلى الدنيا
جاء في غير موضع من القرءان
فقال جل وعلا في سورة الحجر :
وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ *
لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ
وذكر القرءان في هذا السياق قبل هذا النهي له مناسبة عظيمة
فكأن الله تبارك وتعالى يقول للنبي صلى الله عليه وسلم :
لا تفرح بالدنيا وافرح بالقرءان
كما في قوله جل وعلا في سورة يونس :
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ *
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ
فلما كان القرءان موعظة وشفاء وهدى ورحمة
وجب علينا أن نفرح به .. لأنه خير مما يجمعون من حطام الدنيا الزائل
وقال تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم في سورة الكهف :
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ
وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا
سبحان الله ! .. يقول تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم
الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأسلم شيطانه كما في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود :
ولا تنصرف عيناك عن أهل الدين تريد زينة الحياة الدنيا عند أهل الدنيا
ولا تطع من أغفلنا قلبه من أهل الدنيا عن ذكرنا لانشغاله بها .. واتبع هواه وكان أمره إسرافا في متاعها
فما ظنكم بنا نحن !
صورة
**[امتثال النبي صلى الله عليه وسلم لأمر الله]**
امتثل النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر امتثالا يحير العقول ويأخذ بالألباب
ففي الصحيحين من حديث ابن عباس واللفظ لمسلم :
قال عمر رضي الله عنه في وصف المكان الذي يجلس فيه النبي صلى الله عليه وسلم :
وإنه [صلى الله عليه وسلم] لعلي حصير ما بينه وبينه شيء
وتحت رأسه وسادة من أَدَم [جلد مدبوغ] حشوها ليف
وإن عند رجليه قَرَظا [ورق شجر يدبغ به] مضبورا [مجموعا]
وعند رأسه أُهُبا [جلد غير مدبوغ] معلقة
فرأيت أثر الحصير في جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكيت
فقال : ما يبكيك ؟
فقلت يا رسول الله ! .. إن كسرى وقيصر فيما هما فيه .. وأنت رسول الله !
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
أما ترضى أن تكون لهما الدنيا ولك الآخرة.
ياالله
صلى الله عليه وسلم
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن متقللا من الدنيا فحسب .. لا
بل كان معرضا عن أي مظهر من مظاهر السكون والركون إليها
فعند الترمذي وابن ماجة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال :
نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير ، فقام وقد أثر في جنبه
فقلنا: يا رسول الله ، لو اتخذنا لك وِطاء[أي : فراشا لينا]
فقال : ما لي وما للدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ، ثم راح وتركها.
سبحان الله !
يقول صلى الله عليه وسلم : ما لي وما للدنيا لمجرد أنهم عرضوا عليه فراشا لينا !
وليس هذا فحسب .. بل كان النبي صلى الله عليه وسلم
معرضا عن مجرد النظر لأي زينة من زينتها حتى لو كانت قليلة !
فعند أبي داود وابن ماجة بإسناد حسن من حديث سفينة
أن رجلا أضاف على بن أبى طالب فصنع له طعاما
فقالت فاطمة لو دعونا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل معنا !
فدعوه .. فجاء فوضع يده على عضادتى الباب ..
فرأى القِرَام [ستار من صوف ملون] قد ضُرِبَ به فى ناحية البيت فرجع
فقالت فاطمة : لعلى الحقه فانظر ما رجعه ،
فتبعته فقلت : يا رسول الله ! .. ما ردك ؟
فقال صلى الله عليه وسلم :
إنه ليس لى أو لنبى أن يدخل بيتا مُزوقا [مزينا]
رحماك يا رب
فكيف لو دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيوتنا
ورأى ما فيها من الترف الزائد والسرف السائد !!
ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو
-كما عند أبي داود والترمذي وابن ماجة-
لما مر به وهو يعالج خصا[أي : يصلح بيتا من الخوص]
قال : ما هذا؟ .. فقال ابن عمرو: خُص لنا وَهِى [أي سقط] ، نحن نصلحه
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك.
قال الطيبي رحمه الله :
أي كوننا في الدنيا ، كعابر سبيل أو راكب مستظل تحت شجرة ،
أسرع مما أنت فيه من اشتغالك بالبناء.!!
سبحان الله !
فهم رائق فائق لحقيقة الدنيا وقصرها وسرعة انقضائها
ولذا قال صلى الله عليه وسلم لابن عمر وهو آخذ بمنكبيه كما عند البخاري
كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل.
زاد الترمذي وابن ماجة في رواية :
وعد نفسك من أهل القبور
وكان ابن عمر يقول :
إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء
وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك.
صورة
**[ الدنيا مهما عظمت فهي حقيرة ]**
[الدنيا ملعونة]
عند الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها
إلا ذكر الله وما والاه ، وعالما أو متعلما.
[الدنيا كغائط الإنسان]
عند الطبراني في الكبير وابن حبان عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
إن مطعم ابن آدم قد ضُرِبَ مثلا للدنيا وإِنْ قَزَّحَه ومَلَّحَه ، فانظر إلى ما يصير.
فمهما زين الإنسان طعامه بأنواع البهار وألوان الثمار
فمصيره في النهاية إلى هيئة واحدة منفرة للكبار والصغار
وهذه هي الدنيا ! .. مهما زينتها وزخرفتها .. فمآلها إلى سفول واحتقار
احتقار من الملك الجبار
لدرجة أنها أهون عليه من ميتة الحمار .. ولا تعدل عنده جناح بعوضة ولذا أعطاها للكفار
ففي صحيح مسلم من حديث جابر
أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالسوق داخلا من بعض العالية والناس كنفته [جانبه]
فمر بجدي أَسَك [صغير الأذنين] ميت ، فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال :
أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ ، فقالوا : ما نحب أنه لنا بشيء ، وما نصنع به
قال : أتحبون أنه لكم؟ .. قالوا : والله لو كان حيا كان عيبا فيه ؛ لأنه أسك ، فكيف وهو ميت
فقال : فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم.
وعند الترمذي عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء.
ولكنه جل وعلا أعطاها للمسلم والكافر والبر والفاجر
لماذا ؟
لأنها لا تساوي عنده جناح بعوضة في قيمتها !
ولذا قال صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم من حديث عن المستورد بن شداد :
والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه وأشار يحيى بالسبابة في اليم
فلينظر بم يرجع !
ولذا جعل الله ثواب أدنى أهل الجنة منزلة عشرة أمثال الدنيا !
ففي صحيح مسلم من حديث المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
سأل موسى ربه .. ما أدنى أهل الجنة منزلة؟
قال : هو رجل يجيء بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة .. فيقال له : ادخل الجنة
فيقول أي رب ! .. كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم ؟
فيقال له : أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا ؟.. فيقول : رضيت رب !
فيقول لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله .. فقال في الخامسة : رضيت رب
فيقول هذا لك وعشرة أمثاله .. ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك .. فيقول رضيت رب
قال رب فأعلاهم منزلة؟ .. قال : أولئك الذين أردت .. غرست كرامتهم بيدي ..وختمت عليها
فلم ترعين .. ولم تسمع أذن .. ولم يخطر على قلب بشر
قال ومصداقة في كتاب الله عز وجل : فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ
ويظن هذا الرجل المسكين .. الذي هو أدني أهل الجنة منزلة
من فرط فرحته أن الله يسخر منه في ذلك
ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولا الجنة
رجل يخرج من النار حبوا فيقول الله تبارك وتعالى له : اذهب فادخل الجنة
فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى .. فيرجع فيقول : يا رب ! .. وجدتها ملأى
فيقول الله تبارك وتعالى له اذهب فادخل الجنة ..
قال : فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى .. فيرجع فيقول : يا رب ! .. وجدتها ملأى
فيقول الله له اذهب فادخل الجنة ..فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها أو إن لك عشرة أمثال الدنيا
قال : فيقول أتسخر بي أو أتضحك بي وأنت الملك !
قال : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه
قال : فكان يقال ذاك أدنى أهل الجنة منزلة
وفي ضوء هذا الفارق الشاسع بين ملك الدنيا بأسرها وملك أدنى أهل الجنة منزلة
نستطيع أن نفهم قوله صلى الله عليه وسلم
فيما رواه مسلم من حديث أبي هريرة :
الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر
قال الإمام النووي رحمه الله في [شرح مسلم] :
[معناه أن كل مؤمن مسجون ممنوع فى الدنيا من الشهوات المحرمة والمكروهة مكلف بفعل الطاعات الشاقة
فإذا مات استراح من هذا وانقلب إلى ما أعد الله تعالى له من النعيم الدائم والراحة الخالصة من النقصان
وأما الكافر فإنما له من ذلك ما حصل فى الدنيا مع قلته وتكديره بالمنغصات
فإذا مات صار إلى العذاب الدائم وشقاء الأبد.]اهـ
قال المناوي رحمه الله تعالى في [فيض القدير] :
[ذكروا أن الحافظ ابن حجر لما كان قاضي القضاة مر يوما بالسوق في موكب عظيم وهيئة جميلة
فهجم عليه يهودي يبيع الزيت الحار ، وأثوابه ملطخة بالزيت ، وهو في غاية الرثاثة والشناعة
فقبض على لجام بغلته وقال :
يا شيخ الإسلام ، تزعم أن نبيكم قال : الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر
فأي سجن أنت فيه وأي جنة أنا فيها ؟!
فقال : أنا بالنسبة لما أعد الله لي في الآخرة من النعيم كأني الآن في السجن
وأنت بالنسبة لما أعد لك في الآخرة من العذاب الأليم كأنك في جنة
فأسلم اليهودي.]اهـ
قلت :
فالدنيا سجن للمؤمن مقارنة بما ينتظره من النعيم المقيم
وجنة الكافر مقارنة بما ينتظره من العذاب والجحيم
ويشهد لهذا المعنى ما رواه مسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة ، فيصبغ في النار صبغة ثم يقال :
يا بن آدم هل رأيت خيرا قط ، هل مر بك نعيم قط
فيقول : لا والله يا رب
ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة ، فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له :
يا بن آدم هل رأيت بؤسا قط ، هل مر بك شدة قط
فيقول : لا والله يا رب ، ما مر بي بؤس قط ، ولا رأيت شدة قط
صورة
**[السؤال الثاني]**
ما هو المقصود بقوله تعالى : ولا تنس نصيبك من الدنيا؟
قال ابن الجوزي رحمه الله في [زاد المسير] :
ولا تنس نصيبك من الدنيا فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أن يعمل في الدنيا للآخرة .. قاله ابن عباس ومجاهد والجمهور
والثاني : أن يقدم الفضل ويمسك ما يغنيه .. قاله الحسن
والثالث : أن يستغني بالحلال عن الحرام .. قاله قتادة
والمعنى الأول هو المعتمد عند المحققين وجمهور المفسرين
أي : ولا تنس نصيبك من طاعة الله في الدنيا .. وتنشغل بمتاعها عن الوصول إلى الله من طريقها
فالنسيان هنا بمعنى الغفلة والإعراض ... لا بمعناه المشهور الذي هو نقيض التذكر
ذلك أن النسيان في لسان العرب له معنيان :
الأول : نقيض التذكر .. ومنه قوله تعالى : وما كان ربك نسيا
والثاني : الإعراض .. ومنه قوله تعالى : نسوا الله فنسيهم ..
أي : أعرضوا عن الله فأعرض الله عنهم .. وهذا هو المقصود في هذه الآية العظيمة
وبناء على ذلك يتضح الخطأ [الفاحش]
في الاستدلال بهذه الآية الكريمة على جواز اللهو ببعض المعاصي والمخالفات
أو الإيغال والتوسع والإسراف في ترف الدنيا الزائل !!
والدنيا ما سميت دنيا إلا لدنوها وقربها عن الآخرة
كما قال الجوهري رحمه الله في [الصحاح]
فما هي إلا طريق للآخرة
ولذا وصفها الله تعالى بالعاجلة في قوله :
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا *
وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا
وفي قوله تعالى :
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ
وفي قوله تعالى :
إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا
والله المستعان .
صورة
**[السؤال الثالث]**
الثالث : ما هو ضابط الزهد وأنواعه وكيفية تحصيله ؟
**[ضابط الزهد]**
قال ابن القيم رحمه الله في [مدارج السالكين] :
[سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول :
الزهد : ترك مالا ينفع في الآخرة
والورع : ترك ما تخاف ضرره في الآخرة
وهذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد والورع وأجمعها.]اهـ
وعليه فترك كل ما لا ينفع في الآخرة يدخل تحت مسمى الزهد شرعا
صورة
**[أنواع الزهد]**
قسم ابن القيم رحمه الله في [طريق الهجرتين] الزهد إلى أربعة أقسام :
أحدها : الزهد عن الحرام .. وهذا واجب
والثاني : الزهد عن المكروهات وفضول المباحات .. وهذا مستحب
الثالث : الزهد في الدنيا .. وبين رحمه الله أن الذي يصحح هذا الزهد ثلاثة أشياء :
* علم العبد أنها ظل زائل وخيال زائر
* علمه أن وراءها دارا أعظم منها قدرا وأجل خطرا وهي دار البقاء
* معرفته أن زهده فيها لا يمنعه شيئا كتب له منها ، وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يقض له منها
الرابع : الزهد في النفس
وهذا الأخير قال فيه ابن القيم رحمه الله :
[وهو أصعب الأقسام وأشقها.]اهـ
ثم شرع في بيانه فقال رحمه الله :
[وهو ذبحها بغير سكين .. وهو نوعان :
أحدهما وسيلة وبداية :وهو أن تميتها فلا يبقى لها عندك من القدر شيء
فلا تغضب لها ولا ترضى لها ولا تنتصر لها ولا تنتقم لها قد سَبَّلت عِرْضَها ليوم فقرها وفاقتها
فهي أهون عليك من أن تنتصر لها أو تنتقم لها
أو تجيبها إذا دعتك أو تكرمها إذا عصتك أو تغضب لها إذا ذمت
بل هي عندك أخس مما قيل فيها أو ترفهها عما فيه حظك وفلاحك وإن كان صعبا عليها
وهذا وإن كان ذبحا لها وإماتة عن طباعها وأخلاقها فهو عين حياتها وصحتها
ولا حياة لها بدون هذا البتة
وهذه العقبة هي آخر عقبة يشرف منها على منازل المقربين
وينحدر منها إلى وادي البقاء ويشرب من عين الحياة
ويخلص روحه من سجون المحن والبلاء وأسر الشهوات وتتعلق بربها ومعبودها ومولاها الحق
فيا قرة عينها به ويا نعيمها وسرورها بقربه ويا بهجتها بالخلاص من عدوها
واللجوء إلى مولاها ومالك أمرها ومتولي مصالحها
وهذا الزهد هو أول نقدة من مهر الحب فيا مفلس تأخر
والنوع الثاني غاية وكمال
وهو أن يبذلها للمحبوب جملة .. بحيث لا يستبقي منها شيئا
بل يزهد فيها زهد المحب في قدر خسيس من ماله قد تعلقت رغبة محبوبه به
فهل يجد من قلبه رغبة في إمساك ذلك القدر وحبسه عن محبوبه
فهكذا زهد المحب الصادق في نفسه قد خرج عنها وسلمها لربه فهو يبذلها له دائما بتعرض منه لقبولها.]اهـ
ثم قال رحمه الله في خاتمة كلامه :
[وجميع مراتب الزهد المتقدمة مباد ووسائل لهذه المرتبة .. ولكن لا يصح إلا بتلك المراتب
فمن رام الوصول إلى هذه المرتبة بدون ما قبلها فمُتَعَنٍ مُتَمَنٍ
كمن رام الصعود إلى أعلى المنارة بلا سلم
قال بعض السلف إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول .. فمن ضيع الأصول حرم الوصول.]اهـ
صورة
**[السؤال الرابع]**
كيف الجمع والموازنة بين الدنيا ومتاعها والزهد فيها ؟
اعلموا أرشدكم الله أنه لا تعارض في الجمع بين الدنيا والآخرة
إذا كانت الدنيا في اليد ... والآخرة في القلب
أما إذا كانت الدنيا في القلب .. فلا يمكن أن تجتمع معها الآخرة فيه
ومثل من يريد الجمع بين الدنيا والآخرة في قلبه
كمثل من وضعه جسده في وحل عميق ويريد أن يطهره بالماء وهو منغمس فيه !!
لابد من إخراج الجسد أولا من هذا الوحل
فحب الدنيا وحل .. يغرق فيه القلب
فمهما طلب المسلم طهارة قلبه وهو منغمس فيه لا يستطيع إلى ذلك سبيلا
فالفقير الذي تعلق بالدنيا .. وجعلها في قلبه .. فاسد
والغني الذي أمسك الدنيا بيده .. ونزعها من قلبه .. وتعلق بالآخرة .. زاهد عابد
ولذا قال ابن القيم رحمه الله في [طريق الهجرتين] مبينا للمراد بالزهد في الدنيا :
[ وليس المراد تخليها من اليد ، ولا إخراجها وقعوده صفرا منها
وإنما المراد إخراجها من قلبه بالكلية ، فلا يلتفت إليها ولا يدعها تساكن قلبه وإن كانت في يده
فليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك وهي في قلبك
وإنما الزهد أن تتركها من قلبك وهي في يدك
وهذا كحال الخلفاء الراشدين وعمر بن عبدالعزيز الذي يضرب بزهده المثل مع أن خزائن الأموال تحت يده
بل كحال سيد ولد آدم حين فتح الله عليه من الدنيا ما فتح ولا يزيده ذلك إلا زهدا.] اهـ
فهذا نبي الله سليمان عليه السلام سخر الله له الإنس والجن والطير والريح ..
وفتح له أبواب الرزق وقال له : هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ
ومع هذا جميعا قال له ربنا سبحانه في الآية التي تليها :
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ
فغنى سليمان وملكه الواسع لم يكن حاجبا بينه وبين الله
بل أثنى الله عليه بقوله : نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ
وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم كان من أكابر وجهاء قريش ..
وكان صلى الله عليه وسلم مع نسبه الرفيع قائما على تجارة أنسب امرأة في قريش ..
خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ..
ومع هذا كان صلى الله عليه وسلم معرضا عن الدنيا .. مقبلا على الآخرة
وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر
كما جاء عند مسلم عن أنس رضي الله عنه قال :
ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه ،
ولقد جاءه رجل ، فأعطاه غنما بين جبلين ، فرجع إلى قومه ،
فقال : يا قوم أسلموا ؛ فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر .
ثم قال رضي الله عنه :
وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا ،
فما يلبث إلا يسيرا حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها .
وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه كان من أغنى الأغنياء
لدرجة أنه حفر بئرا على نفقته .. وجهز جيشا كاملا على نفقته
فعند البخاري معلقا بصيغة الجزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
من يحفر بئر رومة فله الجنة فحفرها عثمان
وقال : من جهز جيش العُسرة فله الجنة فجهزه عثمان.
ومع ذلك كان رضي الله عنه من العشرة المبشرين بالجنة ..
وكان زاهدا عابدا .. قام بالقرءان كاملا في ركعة وتر واحدة !
والحاصل أن الغني الزاهد
[ يكون المال عنده بمنزلة الخلاء
الذي يحتاج إليه من غير أن يكون له في القلب مكانة
والسعي فيه إذا سعى كإصلاح الخلاء.]
كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في [الوصية الصغرى]
سبحان الله
الدنيا عند العلماء كالخلاء .. نحتاج إليه من غير تعلق قلبي واحتفاء
ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجة عن زيد ابن ثابت
[من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له
ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة.]
هذا هو الفاصل بين الزهد وعدمه
القلب .. والهم .. والنية
أين قلبك؟ .. وأين همك؟ .. وأين نيتك؟
فإن كانت الآخرة نيتك وهمك
جمع الله عليك شملك .. فيرتاح بالك وتطمئن نفسك
وجعل غناك في قلبك .. فلا تخاف من فقرك
وأتتك الدنيا وهي راغمة .. لهوانها على الله وتذليلها لأولياء الله
قال تعالى في سورة الطلاق :
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ
إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا
يقول تعالى :
[ومن يتق الله] بفعل المأمور وترك المحظور
[يجعل له] في أمور المعاش والمعاد [مخرجا] من كروب الدنيا والآخرة
[ومن يتوكل على الله] بالاعتماد عليه والثقة به مع الأخذ بالأسباب المباحة
[فهو] سبحانه [حسبه] أي كافيه
[إن الله بالغ أمره ] أي : منفذ مراده سبحانه .. لا يعجزه شيء عن ذلك
[قد جعل الله لكل شيء قدرا ] معلوما وميقاتا محتوما
وإن كانت الدنيا نيتك وهمك
فرق الله عليك أمرك .. وأصبت بالتشتت والحيرة في شأنك
وجعل فقرك بين عينيك .. فتخاف دائما منه وتراه مقبلا بين يديك
وأخيرا : بعد تعبك ونصبك وجهدك وبذلك .. لن يأتيك من الدنيا إلا ما كتب لك !!
فهؤلاء خافوا من وعيد الشيطان الرجيم .. وأعرضوا عن وعد الله الواسع العليم
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ
وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
قال الجلال السيوطي رحمه الله في [تفسير الجلالين] :
{ الشيطان يعدكم الفقر } يخوفكم به إن تصدقتم فتمسكوا
{ ويأمركم بالفحشاء } البخل ومنع الزكاة
{ والله يعدكم } على الإنفاق { مغفرة منه } لذنوبكم { وفضلا } رزقا خلفا منه
{ والله واسع } فضله { عليم } بالمنفق
قال ابن القيم رحمه الله في [طريق الهجرتين] :
[وهذا إجماع من المفسرين أن الفحشاء هنا البخل.]اهـ
فالله أسأل أن يجعلني وإياكم من أهل الآخرة لا من أهل الدنيا
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
صورة
كتبه الفقير إلى عفو ربه العلي
أبو الحارث ضياء بدور الشافعي
__________________
أما تذكر الموت المفاجيكَ فى غدٍ وميزان قسط للعباد سينصبُ