اتصلت بنا ( فوزيه ) في العيادة تشكو من أن زوجها (عبدالله) يضربها بقسوة بعد أن يقوم بتقييدها ليتركها حبيسة أحزانها ويغادر المنزل الذي يتحول إلى سجن مغلق المخارج بينما النيران تسري في جنباته المظلمة.
يتكرر هذا المشهد الحزين والواقع المرير مرتين أسبوعيا..
"هو يمنعني من الخروج إلا لأهله وقليلاً مايسمح لي بزيارة أهلي، ومع أنني مريضه ومكتئبة إلا انه لايسمح لي بالخروج للعلاج". ماذا افعل ؟!. تتساءل بحرقة وحيرة!!.
وبين نوبات البكاء الطويلة اسأل فوزيه:
- هل شكوته إلى أهله؟
- والده مسافر دائماً. ليس لديه وقت لنا.
- وماذا تقول أمك؟
- اصبري شوفيني صابره!!.
- وماذا تقول أمه؟
- أزين. تستأهلين، عشان يعقلك. ترى جوال الرجل مايتفتش يابنت الناس. أن فتشتِ مالقيتي فيه إلا القراده (يعني: أمور لاتعجبك ). عقلك براسك تعرفين خلاصك.
- ووالدك؟
- يعيدني إلى منزل زوجي في كل مرة ألجأ إليه رغماً عني. يأخذني إلى السيارة وأنا أصرخ وأستغيث ويرميني عند باب الجحيم الذي هربت منه.
الحوار السابق لم يكن جزء من نص أدبي بل هو قطعة من معاناة واقعية لامرأة تشهد من زوجها صنوف الإيذاء النفسي والجسدي دون أن تجد حلاً يحفظ لها كرامتها وإنسانيتها التي تنتهك من شريك حياتها!!، ويواجه كل ذلك بالتجاهل من أسرتها لتصبح أسيرة الخيارات المحفوفة بالمخاطر.
تروي لنا الدكتورة هناء المطلق أستاذة علم النفس بجامعة الملك سعود الجزء السابق من حكاية امرأة اتصلت بها في العيادة تبحث عن مخرج لعذاباتها النفسية والجسدية جرّاء ماتلاقيه من قبل زوجها. تقول الدكتورة المطلق أنه لم يكن أمامها من طريق لمساعدة فوزيه إلا أن تدربها من خلال الهاتف على طريقه لاستخراج الغضب عن طريق التنفس. "فوزيه مره تطيعنا ومره تفضل البكاء والشكوى" تقول الدكتورة هناء.
وترى الدكتورة المطلق أن فوزيه ليست ضعيفة الشخصية، إلا أن قوتها مشلولة!!. " شلها فقدان العون على الرغم من كثرة أقاربها، وعجزها عن طلب الطلاق خوفاً على الأطفال ومن طرد أبيها لها " ثم تمضي الدكتورة المطلق في سرد تفاصيل القصة:
في الأسبوع الماضي كانت المفاجأة. وشر البلية مايضحك.
اتصلت فوزيه عصراً وكان في صوتها -لأول مره- قوة وانتصار غريبين. قالت أنها سوف (تتصرف) بعد أن ضربها ذلك الصباح.
- أنا مستعدة له الليلة سوف اضربه "لحد مايطلع له صاحب".
- فوزيه هل جننتي؟!، اسمعيني..
-لا أسمع ولا أرى. لقد طفح الكيل .. ذهبتُ إلى مزرعة أخي وأحضرت ثلاثة عمال هنود " شوفيهم بالحديقة ينتظرونه.. واحد طويل عريض للتكتيف، والاثنين يعني...سمان شوي لكن يصلحون للمساعدة ". أصلاً، لن اسمح لأحد أن يضربه فأنا سوف اضربه وبأثر رجعي لخمس سنوات ماضيه.
"قالت ذلك فوزيه وأقفلت سماعة الهاتف. ولم تعد ترد على محاولاتي المتكررة في الاتصال بها منذ ذلك الوقت".
هكذا حدثتنا الدكتورة هناء المطلق وهي تشير إلى أن هذه القصة هي الأكثر إيلاماً لها من بين قصصاً أخرى عديدة تأتي في نفس السياق، سواءً كانت المكالمة الأخيرة تعلن حقيقة، أو فنتازيا.
قضية ضرب الزوجات في المجتمع السعودي لايستطيع أحد إنكار وجودها رغم أن الجميع يعجز عن تقديم إحصاءات حقيقة تبين مدى شيوعها، لكن الموقف الاجتماعي من هذه القضية متذبذب وغير حاسم. عادة مايرتبط ضرب الزوجات بالإيذاء النفسي والمعنوي عبر الإهانة اللفظية والتحقير والإهمال لكن بعض الحالات الأخرى وفقاً لبعض الباحثين الاجتماعيين تتعرض للعنف اللفظي بمعزل عن الضرب وهو الأمر الأكثر شيوعاً.
الحوار المفقود
الدكتور عبدالله الصبيح أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض والذي عمل متعاوناً لفترة زمنية في مركز الإرشاد الاجتماعي بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية يرى بأن العنف اللفظي والمعنوي تجاه الزوجة أكثر شيوعاً في المجتمع السعودي من العنف الجسدي، ويشير إلى أنه كان يتلقى هو وزملاء آخرون متعددوا الاختصاصات في الجوانب النفسية والاجتماعية والقضائية، العشرات من المكالمات الهاتفية اليومية تتركز معظمها حول حالات متعددة من الخلاف العائلي لكنه يؤكد أن دور المركز لايتجاوز الجانب الإرشادي. ويضيف أن بعض الاتصالات الهاتفية هي لزوجات تعرضن للضرب من قبل أزواجهن لكنها ليست بتلك الكثرة، ويعتقد بأن معظم حالات الضرب لا تصل للمركز بل تذهب مباشرة إلى أقسام الشرطة والمحاكم أو تضل في البيوت لا يعرف عنها أحد شيء.
يقول الدكتور الصبيح: الضرب المتبادل بين الأزواج لايكاد يخلو منه مجتمع من المجتمعات. فقد قرأت مؤخراً أن هناك 10% من الشابات البريطانيات يرين أن ضربهن لأزواجهن أمر طبيعي، و20% من الشباب البريطاني يرى أن ضربه لشريكة حياته أمر طبيعي. هذا في بريطانيا التي يتوفر لدى المرأة فيها وعي بحقوقها وتستطيع أن تذهب للمحكمة بيسر وتدافع عن حقها. فالضرب موجود في جميع المجتمعات الإنسانية ولكن بنسب متفاوتة.
يواصل حديثه قائلاً: بالنسبة للمجتمع السعودي فأنا لا أستطيع أن أعتبر الضرب ظاهرة. صحيح أنه في بعض مناطق المملكة هناك النظرة الدونية للمرأة لكن لايمكن تعميمه على الجميع.
....
............. ويرى الدكتور الصبيح أن ذلك تعبير عن الاحتقار والنظرة الدونية للمرأة عند أولئك. لكنها مرتبطة بحالات انفعالية وليست دائمة، وتختلف من منطقة لأخرى إلا أن ذلك كله لايستلزم الضرب في جميع الأحوال، فقيم المجتمع ترى أنه من العيب ضرب المرأة.
ويشير أستاذ علم النفس الاجتماعي إلى أن هناك تناسب عكسي بين زيادة التعليم والوعي والمستوى الاقتصادي لدى الزوج وبين استخدامه للعنف تجاه زوجته سواء كان ذلك على المستوى المعنوي عبر ألفاظ الاحتقار أو المادي عن طريق الضرب.
ويكشف لنا أن معظم الاتصالات التي كانت ترده عبر الهاتف في مركز الإرشاد الاجتماعي هي لزوجات عسكريين يشتكين من ضرب أزواجهن وما يلاقينه من احتقار. ويضيف : يبدو لي أن هناك تناسب عكسي أحياناً بين العسكرية ومستوى الوعي الاجتماعي فقد يكبر الفرد من ناحية الدخل الاقتصادي لكن الوعي الثقافي ومستوى التعليم يبقى محدود.
وينقلنا الدكتور الصبيح إلى الضفة الأخرى من القضية وهو وعي الفتاة بحقوقها ووعيها بمسؤوليتها ومقدرتها على أن تُعبر عن نفسها سواء كانت متزوجة أو آنسه، فخوف المرأة من العار والفضيحة أكبر عوامل ابتزاز المرأة في المجتمع سواء كان ذلك من قبل الزوج أو من شخص غريب. كما أن غياب الحوار بين الزوجين وأفراد الأسرة عموماً يقود إلى تفاقم المشاكل التي قد تبدأ صغيرة.
ويطالب أستاذ علم النفس الاجتماعي الدكتور عبدالله الصبيح بإنشاء لجان للإصلاح الاجتماعي في الأحياء والمدن تكون تابعة لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية تأخذ على عاتقها التدخل والقيام بالادعاء العام لحماية المرأة أو الزوجة من اعتداء الأزواج أو مايحدث من بعض الآباء الذين يمنعون بناتهم من الزواج حتى يصلن إلى حالات نفسية متردية أو ينحرفن سلوكياً. ويقترح أن تتكون تلك اللجان من متخصصين اجتماعيين ونفسانيين ومن أئمة المساجد ليبحثوا حل المشكلات الاجتماعية في مهدها سواء كان ذلك مع الزوج، أو الأب في بعض الحالات، على أن يكون من حقهم، في حال عجزوا عن حل المشكلة ودياً، رفع الدعوى على الشخص المعني في المحكمة. ويرى بأنه مالم يتم شيء من هذا فيصعب حماية المرأة. ويستطرد: كما وضعنا هاتف مجاني للإرشاد الأسري والإصلاح الاجتماعي نؤسس لجان مختصة ونعلن عن عناوينها وهواتفها ونبين أن من حقها رفع دعوى قضائية والقيام بحق الادعاء العام من أجل حفظ حق المرأة وحق الأسرة.
تعديل...توت بري