أغلب البشر يحبون أو يشعرون بالميل الشديد للحديث والتعبير أكثر من الاستماع، وتختلف حدة هذه الرغبة من ثقافة إلى أخرى، ويبدو أن الناس الأكثر استماعاً، أو الذين يمضون وقتاً للاستماع للمتحدث يكونوا أكثر ربحاً وتفهماً واتزاناً.
يتحدث المرء للأخر أو الأخرين ليثبت ذاته، ليقول أنا موجود من خلال الحديث، تدور حالات المتحدث في أمور كثيرة فهو يريد أن يحاور يدافع يبرر يتفاوض يدافع عن فكرته فيأخذه الحماس والاندفاع للوصول إلى الهدف من خلال الحديث أياً كان ذلك الهدف.
الكثير منا يفتقد لحاسية الإنصات والاستماع لأنه نشأ على أثبات الذات من خلال الحديث والدفاع عن فكرته أو الحصول على مبتغاه، وأزعم أني كنتُ أحد هؤلاء، وأحاول تجاوز هذا الأمر، وأشعر أني نجحت يوماً بعد يوم في الاستماع للآخرين، والحقيقة أني حققت مكاسب لا أعتقد أني كنتُ سأحققها لو أني في تلك المواقف تحدثت كثيراً، المكاسب قد تكون معنوية أو تجنبية أو تأجيل لأمر ما، أو فهم لموقف، أو احتواءً لشخص، أو ربح مادي، أو تفاوض في سعر، أو تفهماً لحالة يمر بها المتحدث، أو غير ذلك من أوضاع، والكثير من الناس خسروا بسبب الحديث أو كلمات قالوها لم ينتبهوا لخطورتها أو سلبيتها، بل حتى في المواقف السيئة التي تصدر من الأخرين من الجيد أن تجعل المتحدث يتحدث حتى ولو بكلام لايعجبنا أو فيه نوع من الهجوم، ومن ثم اتخاذ القرار بالحديث المناسب الذي تكسب فيه، وهذا قد يكون مجرد كلمة حاسمة منك أو كلمة طيبة، أو صمت، وكل قرار من هذه القرارات فيها مكسب لك على حسب الموقف الجاري، لأنكَ أحياناً تريد أن تنتصر، وقد لاينصرك الحديث والجدل والمبادرة في الكلام الطويل، وقد تريد الأجر فتصمت وتصبر، وغير ذلك من غايات، لقد كانوا يقولون أن المنتصر يفقد لذة انتصاره إذا ابتسم المهزوم، إن المهزوم لم يبرر ولم يهاجم بل ابتسم، وهذا سبب ألماً للمنتصر.
كنتُ أتحدث للبعض متحمساً وأرى منهم استماعاً وتركيزاً، ثم بعد أن يمضي الحوار، أفكر باستماعهم الجيد لحديثي، وكنتُ أقول لنفسي لماذا لا أكون مثلهم، فهم استمعوا لانفعالي واسترسالي، وبالأخير أتخذوا القرار إما بكلمات يسيرة أو بصمتٍ له مدلوله، ثم شعرت أن كل ذلك الحديث والجدل والانفعال لم يأتي ثمره أو يحقق مكاسباً كبيرة، ومع الزمن بدأت أدرب نفسي بقلة المقاطعة والاستماع والصمت، ثم بعد أن ينهي المتحدث حديثه أجيبه بما يتوفر لدي من رد أو دلائل أو منطق، وأكون حققت مكاسب كثيرة من هذا الفعل.
إننا في وسط مجتمعات تعشق الحديث كثيراً منذ أزمنة قديمة، وهكذا هو الحال مع كثير من المجتمعات الشرقية سواء اللاتينية أو العربية أو الشرق أوربية أو الهندية وغيرها، ولذلك فإنه من وجهة نظري أن الشخص الذي ينصت بشكل أكبر هو من يحقق مكاسب جيدة ومتنوعة في ظل هذا الضجيج.