من تجالس؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فهذه وريقات جمعتها من أقوال النبي صل الله عليه وسلم ، وأقاويل العلماء والحكماء في الحث على الجليس الصالح، والتحذير من الجليس السوء، وبيان أثر هذا وذاك.
لم يكن لي من جهد في ذلك سوى الانتقاء والتقييد، والحصر في موضع واحد، لتكون بين ناظري إخواني في الله من الشباب الطموح.
أخي الشاب: اجعل من هذه الأقوال والأحكام نبراسًا تستضيء به، ولا تجعل اختيارك للصديق خاضعًا للمحبة الطبيعية أو الذوق أو المزاج، فكم من إنسان يحتمي من طعام يحبه أو شهوة تتطلع إليها نفسه، خوفًا من مغبتها في العاجل أو في الآجل.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عبد الله بن علي الجعيثن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد.
فإن الله– سبحانه وتعالى– حدّد الغاية من خلق الجن والإنس بأنها عبادته وحده لا شريك له، فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 1، 2]. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على تحديد الهدف من إيجاد الناس, وأنه عبادة الله وحده.
وقد اقتضت حكمة الله في خلقه أن جعل الإنسان ميالاً بطبعه إلى مخالطة الآخرين ومجالستهم والاجتماع بهم.
وهذه المجالسة والمقارنة لها أثرها الواضح في فكر الإنسان ومنهجه وسلوكه، وهي سبب فعال في مصير الإنسان وسعادته الدنيوية والأخروية. فالمرء يتأثر بجليسه، ويصطبغ بصبغته، فكرًا ومعتقدًا وسلوكًا وعملاً.
وقد دل على ذلك الشرع والعقل والواقع والتجربة والمشاهدة.
فمن دلالة الشرع ما أخبر به سبحانه عن ندم الظالم يوم القيامة, وتأسفه على مصاحبته لمن ضل وانحرف، وكان سببًا في انحرافه وضلاله. قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27-29].
قال ابن جرير رحمه الله في تفسيره ([1]):
(ويوم يعض الظالم المشرك بربه على يديه ندمًا وأسفًا، على ما فرط في جنب الله، وأوبق نفسه بالكفر في طاعة خليله الذي صده عن سبيل ربه، يقول: يا ليتني اتخذت في الدنيا مع الرسول سبيلاً، يعني طريقًا إلى النجاة من عذاب الله). وقوله: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي}. يقول– جل ثناؤه– مخبرًا عن هذا النادم على ما سلف منه في الدنيا من معصية ربه في طاعة خليله: (لقد أضلني عن الإيمان بالقرآن، وهو الذكر، بعد إذ جاءني من عند الله فصدني عنه)([2]).اهـ.
وقال سبحانه وتعالى: }الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ{ [الزخرف: 67]. فالمتآخون والمتصاحبون على غير طاعة الله بعضهم لبعض عدو يوم القيامة، ومرد هذه العداوة وسببها هو كون بعضهم مُعينًا لبعض على الباطل، وداعيًا له إلى الانحراف والضلال, وأما الأخلاء المتقون فإن محبة بعضهم لبعض يوم القيامة أبلغ وأقوى منها في الدنيا، وذلك لأن بعضهم كان لبعض مُعينًا على الخير، ومشجعًا على الطاعة، ومحذرًا له من الشر.
وقال عليه الصلاة والسلام: «إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة»([3]).
فبين عليه الصلاة والسلام أن الجليس له تأثير على جليسه سلبًا أو إيجابًا، بحسب صلاحه وفساده، حيث شبه الجليس الصالح بحامل المسك، فإنك إذا جالسته لا بد أن يحصل لك منه واحدة من ثلاث، إما أن يحذيك، أي: يعطيك ويهدي إليك، أو تشتري منه، أو على الأقل تجد منه الرائحة الطيبة المؤثرة على نفسك وبدنك وثيابك. فكذلك جليسك الصالح لا بد أن تستفيد منه، وتنتفع بمجالسته، كما سأذكر بعد قليل في فوائد مجالسة الصالحين وأهل الخير.
وشبه عليه السلام الجليس السوء بنافخ الكير– وهو زقّ أو جلد غليظ ينفخ به النار ([4])– فهو إما أن يتطاير عليك من شرر ناره فيحرق ثيابك، أو على الأقل تجد منه رائحة كريهة تُصيب بدنك وثوبك. وكذلك جليس السوء لا بد أن تتضرر بمجالسته، كما سيأتي تفصيل ذلك.
قال النووي رحمه الله في الكلام على هذا الحديث:
(فيه فضيلة مجالسة الصالحين وأهل الخير، والمروءة ومكارم الأخلاق، والورع والعلم والأدب، والنهي عن مجالسة أهل الشر وأهل البدع، ومن يغتاب الناس أو يكثر فُجره وبطالته, ونحو ذلك من الأنواع المذمومة)([5]).اهـ.
وقال ابن حجر رحمه الله:
(وفي الحديث النهي عن مجالسة من يتأذى بمجالسته في الدين والدنيا، والترغيب في مجالسة من ينتفع بمجالسته فيهما)([6]).
وقال السعدي رحمه الله:
(مثَّل النبي صلى الله عليه وسلم بهذين المثالين مبينًا أن الجليس الصالح جميع أحوالك معه وأنت في مغنم وخير، كحامل المسك الذي تنتفع بما معه من المسك، إما بهبة أو بعوض. وأقل ذلك مدة جلوسك معه, وأنت قرير النفس برائحة المسك، فالخير الذي يصيبه العبد من جليسه الصالح أبلغ وأفضل من المسك الأذفر، فإنه إما أن يعلمك ما ينفعك في دينك ودنياك، أو يهدي لك نصيحة، أو يحذرك من الإقامة على ما يضرك، فيحثك على طاعة الله وبر الوالدين وصلة الأرحام، ويبصرك بعيوب نفسك، ويدعوك إلى مكارم الأخلاق ومحاسنها، بقوله وفعله وحاله، فإن الإنسان مجبول على الاقتداء بصاحبه وجليسه، والطباع والأرواح جنود مجندة، يقود بعضها بعضًا إلى الخير أو إلى ضده. وأقل ما تستفيده من الجليس الصالح– وهي فائدة لا يُستهان بها– أن تنكف بسببه عن السيئات والمعاصي، رعاية للصحبة، ومنافسة في الخير، وترفعًا عن الشر، وأن يحفظك في حضرتك ومغيبك، وأن تنفعك محبته ودعاؤه في حال حياتك, وبعد مماتك، وأن يدافع عنك بسبب اتصاله بك ومحبته لك, وتلك أمور لا تباشر أنت مدافعتها كما أنه قد يصلك بأشخاص وأعمال ينفعك اتصالك بهم ... إلى آخر ما قال– رحمه الله تعالى-»([7]).
وفي الأسطر المقبلة سأتعرض بشيء من التفصيل للجليس, وأثره سلبًا وإيجابًا، فأذكر بعض الثمرات التي تجنى من الجليس الصالح، وما لصحبته من الأثر الخير على الإنسان في الدنيا والآخرة، وأذيل ذلك بذكر فضائل المحبة في الله وأثرها؛ لأن هناك نوعًا من التلازم بين المجالسة والمحبة، ثم أذكر بعض حصاد مجالس أهل الشر والفساد، وما يحصل لمجالسهم من الضرر والهلاك، ثم أختم البحث بذكر بعض ما أُثر من الترغيب في اختيار الجليس.
ومما لا شك فيه أن الناس يتفاوتون فيما بينهم، فمنهم من هو مفتاح للخير دال عليه، ومنهم من هو مفتاح للشر جالب إليه، كما قال r: «إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر، مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه» [أخرجه ابن ماجه ([8]) وحسنه الألباني ([9])].