بسم الله الرحمن ا لرحيم ..
أثارت الفتوى الصادرة من المجمع الفقهي في دورته الثامنة عشرة والمنعقدة بمكة المكرمة والمتعلقة بزواج المسيار ضجيجاً إعلامياً وصخباً سودت به كثير من صحفنا ، وانشغلت بها كثير من وسائل الأعلام المسموعة والمرئية ، ذلك أن تلك الفتوى تمس شريحة عريضة من المجتمع ذكورا وإناثا ، ومع أن هذه الفتوى لم تأت بجديد في نظري ، بيد أن ثقل المجمع وتنوع جنسيات المفتين فيه جذب أنظار ومسامع المتابع لهذه الفتوى ، حيث بات مشدوهاً محبطاً لتلك النتيجة المؤسفة والتي كانت بمثابة الصدمة غير المتوقعة ، وبعيد تلك الفتوى ظهرت نداءات وتعالت صرخات تندد بها ، وتحاول جهدها تقويضها والتشكيك في سلامتها ، تارة بوصف الفتوى بأنها فتوى ذكورية لم يؤخذ فيها رأي المرأة ، وأخرى بدعوى القصور في تتبع جوانب الموضوع الأخرى غير الموارد الفقهية الصلفة ، وقد حمل لواء هذه التوجه جمع المؤنث الذي اعتبر في كثير من كتاباته هذه الفتوى بأنها خارجة عن سياج الاحترام والتقدير لكيان المرأة ، وبأنها تشرعن للرجل سبل استغلال جسد المرأة لصالح شهواته وملاذه ، ومع ذلك فقد كتبت على هامش هذه الأطروحات الصارخة كتابات تميزت بالهدوء والعقلانية وبعد النظر ، بيد أنها كانت كالشامة البيضاء في جلد الثور الأسود ، ولعلي أن أجمل الحديث حول تأملات خاصة في الموضوع :
أولاً / ما يهمنا بالدرجة الأولى في هذه القضية هو سلامة تكييفها الفقهي ، وأنها تتماشى مع قواعد الشريعة وتلتحف بها ، وبالنظر في كون هذه الفتوى صادرة من المجمع الفقهي والذي يتكون من نخبة عالية من العلماء الذين أو كلت إليهم الأمة النظر في قضاياها التي هي أكثر تعقيداً وأشد وعورة ، مما يدل على الثقة الممنوحة لهذه القناة من عموم المسلمين ، وبناءً على ذلك فإن من المرفوض بتاتاً وصف هؤلاء المفتين بما لا يليق وصفهم به ، أو محاولة الحط من قدرهم ، بل الواجب علينا حتى في ساعة الاختلاف في الرأي أن نحفظ لهم المكانة لفظاً ومعنى ، وأن نلتمس لهم العذر ونطلب منهم مزيداً من التدقيق والنظر ، مع مراعاة الحلقات التي يمكن أن تكون قد فقدت في تلكم الفتوى ، وليس هذا مجال الحديث عن فلسفة الفتوى ، أو تناولها بالترجيح أو التضعيف بقدر ماهو دعوة لمزيد من الهدوء والتؤدة حتى لا نفقد الأدب والتقدير لجهة شرعية عالمية كهذه .
ثانيا/ حول الأسباب التي دعت لنشوء فكرة هذا الزواج الغريب على مجتمعنا ، إذ إن هذا الزواج وإن كان عمره يمتد إلى قريب من العشر سنين ، إلا أنه يعد فكرة طارئة ، وسلوكاً حديثاً ً لم يسمع به الآباء ولا الأمهات ، ولا شك أن هناك دوافع ومسببات أدت لظهوره وانتشاره ، وفي ظني أن تلك الأسباب لو لم تكن موجودة لم يجرؤ أحد على أن يقدم عليه ، ولا وجدت امرأة نفسها مضطرة لقبوله على أن فيه مافيه
ولعل من تلك الأسباب مايلي :
1) النظرة الظالمة للتعدد والتي لا تزال معششة في أذهان الكثير من النساء ، رغم انتشار الفتن التي تعصف بالشيب قبل الشبان ، مما يجعل الكثير من الأزواج يعجز عن الاكتفاء بواحدة ، وبدلاً من الوقوع في رذيلة الزنا فقد لجأ البعض إلى البحث عن هذا الزواج ، ولهذا ربما فكر في الزواج بهذه الطريقة من هو من أهل الدثور والغنى ، لا يمنعه من إظهاره وإشهاره إلا خوف المشكلات التي يخشى أن تعصف به وبأسرته في حال علم الزوجة أو أحد من أقاربها ، وكون هذا الزواج لا يشترط فيه غالباً المبيت فإن الزوج سيبقى في مأمن كبير من افتضاح أمره وذيوعه ،وهوما لا يقوى على مواجهته معظم الرجال .
ومن هنا يمكننا القول بأن جزءً من هذه المشكلة نابع من توارد الاعتراض على سنة التعدد من قبل الزوجات ، وهن بهذا السلوك يبنين المشكلة ويساهمن في نموها وتماسكها .
2) إن وجود هذا الزواج فرع عن رضى النساء به ، وهو مايعكس لنا عن حقيقة مهمة ، تحمل في محتواها دلائل ذات أهمية بالغة ، وهذه الحقيقة هي أن شريحةً ما تكثر أو تقل مقتنعة بجدوى هذا الزواج ، وإلا لما وجد أصلاً ، لأجل هذا يمكننا أن نورد مجموعة من التساؤلات الملحة ، لم توافق المرأة على شروط قاسية كهذه ؟ ، وما هي الأسباب التي تجعل المرأة تتنازل عن حقوقها إلى هذه الدرجة ، وترضى أن تعيش شاذة بين مجتمعها ؟، في حين أن كل من حولها من النساء يتمتعن بحياة هانئة مطمئنة ، فمن التي لا ترغب في أن يكون زوجها لها وحدها ، وأن يبيت ليلته معها ، وأن ينفق عليها ولو كانت ذات يسار وغنى ، تماماً مثلها مثل الأخريات ، وكذلك سنسأل ونقول لم اختلفت نظرة النساء بعضها عن بعض ؟ ففي حين تعترض بعض النساء على هذه الفتوى تراها الأخرى واقعية جداً ومتفهمة لظروف حياتها ، أعتقد أن ثمة حقائق ستنبعث من رحم هذه التساؤلات ، لعل من أهمها أن ظروف النساء مختلفة جداً ، فالمرأة التي تعيش أميرة في بيت زوجها تغرف من بحر حنانه وتجد فيه الغنية والعفاف عن الحرام ، وتزدان حياتها بما أنجبته من الأولاد ، هذ الحياة الهانئة المستقرة تفتقر إليها شريحة عريضة من النساء الآتي يعانين من شبح العنوسة المخيف ، أو اللواتي فاتهن قطار الزواج ، فوصلن إلى سن لا يرجين فيه زوجاً ولا ولداً ، إذن فعندما توافق بعض النساء بهذا الوضع لاشك أنهن رأين فيه مصالح وفوائد تتناسب مع أوضاعهن ، الأمر الذي يجعلنا نعيد النظر والتأمل في رفض هذا الزواج الرفض المطلق ، وعليه فإني أنصح تلك الأقلام الثائرة أن تربع على أنفاسها ، وأن تضع كل كاتبة نفسها مكان أختها التي رضيت بهذا الزواج ثم لترجع البصر هل تعود بنفس الحدة والرفض ؟
أعتقد أن الأمر سوف يكون أكثر روية وأعقل طرحا .
3) كثرة دواعي الفتن وانفتاح أسباب الشر ، وذيوع المنكرات التي تجلد شهوات الشيب قبل الشبان ، فإن المراقب للأوضاع في السنوات العشر الأخيرة يرصد كماً هائلا من الانفتاح المحموم على ثقافة الغرب البائسة ، والتي أصبحت تعيش معنا في بيوتنا ، وتهتك كل لحظة معقلاً من معاقل العفاف والطهر ، انتشرت هذه الأوبئة حتى تسربلت بها عقول الكثير ، و أصبح التفكير في الشهوة والمعاشرة هاجساً لا يفارق البعض ، ولا نزال نسمع منذ مدة استفتاءات لم تكن معهودة من قبل حول طرق الاستمتاع وأساليب المباضعة ، هذه الشهوة المسعورة لابد أن تؤثر في واقع الناس ، كردة فعل طبيعية إزاء ذلك التهييج وتلك الإثارة ، وأعتقد أنه من المعقول جداً أن تجد المرأة التي لم يتسر لها الزواج التقليدي في زواج المسيار مندوحة عن الوقوع في الحرام الذي لا يختلف في حرمته اثنان ، فهو وإن كان ليس تاماً من كل وجه إلا أن فيه ما يحفظ للمرأة عفافها وحصانتها ، وكذلك نجد بعض الرجال الذين يبحثون عن هذا الزواج إنما يبحثون عنه سداً للجوعة الجنسية التي لم تعد الواحدة كفيلة بسدادها .
4) عقدة الحياة وتأزم العيش بها ، جعلت بعض الرجال الذين لا يستطيعون تحمل أعباء وتكاليف الزوجة الجديدة يلجأ إلى هذا الزواج الذي يوفر له الحصانة والعفاف بأقل كلفة .
وبعد هذا العرض الموجز لبعض مسببات هذا الزواج فإني أرى لزاماً علي أن أكتب ملاحظات لا تقل أهمية عن أسباب نشوئه :
الأمر الأول : أن زواج المسيار وإن كنا نقول بجوازه شرعاً بعد توفر شروط وأركان النكاح المعروفة فإنه يقع في مرتبة دونية بلا شك ولا ريب ، فالغاية من النكاح ليس هو إشباع الغريزة فحسب ، بل إن من أعظم مقاصد الزواج الديمومة والثبات واستقرار البيت المسلم ، وهو ما لا يوجد في كثير من حالات هذا النوع من الزواج ، ولهذا فإني أدعو أولئك الرجال ألا ينظروا هذه النظرة الشهوانية القاصرة ، فالزواج أسمى وأرفع من أن يكون مقصوراً في لذة آنية ، ومثل هذا لا يرضاه أحد في أخته أو بنته أو واحدة من قرابته ، فإذا كان الأمر كذلك فلم يرضاه لبنات المسلمين ؟ وهن أخواته في الله وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) ولا يوجد عاقل رشيد يحب لمن هي تحته من أخت أو بنت أن تتزوج بهذه الطريقة التي لا تأمن فيها على مستقبلها ، ولا تجد فيها راحتها .
ثانياً / زواج المسيار أصبح ماركة مسجلة تجمع كل زواج يحصل فيه تنازل من قبل المرأة عن مبيت أو نفقة ، وهو بهذا المسمى يحمل وصمة عار تلاحق المرأة ، والحق أن هذا الزواج يختلف من حالة لأخرى ، ومن الظلم التعميم على كل صورة من صوره بأنها ظلم وامتهان لذات المرأة ، وقد تمت بعض حالات هذا الزواج بصورة قريبة من الزواج التقليدي ، حيث يتفق الطرفان على إسقاط المبيت وتأخير الإنجاب لفترة محددة ، كما أن الزوج ربما تكررت زيارته لها أكثر من مرة ، و البعض من الرجال يقوم بمساعدة زوجته من حيث إيصالها لعملها وإرجاعها ، وقضاء مستلزمات منزلها ، ويجد معها أنساً ومحبة ، وهو مع ذلك يعتبر هذا الوضع مؤقتاً ، إما لحين تحسين وضعه المادي ، أو لحين تجاوز مشكلة معينة تمنعه من إعلان الزواج ، وهذا الوضع بشكله المؤقت مقبول به سيما مع ما سبق من دواعي زواج المسيار .
وفي الجانب الآخر فيوجد مع كل أسف من الرجال من تناهت شهامته وتضائل نبله ، حتى أصبح ينطر إلى المرأة نظرة سلعة شهوانية يقضي معها الشهر أو الشهرين ، ثم يطلقها ليبحث عن أخرى يفعل بها مثل ما فعل بالأولى وهكذا يصبح ذواقاً للنساء لا يهمه أن يخلف بعده مطلقة مهما كان عمرها ، ولا يفكر فيما سيصيبها من الهم والحزن ، متجاهلاً في سخافة متناهية تلك الثقة التي منحه وليها ، إنها صورة سيئة للغاية ، تحكي لنا نمطاً من أنماط الفوقية الذكورية الغاشمة ، وإهانة لا يرضاها أحد لابنته أو أخته ، وإن الذي حدى بهؤلاء لأن يفعلوا ذلك إنما هو حب الذات والأنانية المفرطة ، ونظرة الدون التي لا تزال تتسخ بها عقول الجهلة من الرجال ، وهنا أقول للقارئين إن هذه التصرفات غير اللائقة لا ترضي أولئك العلماء المفتين بجواز المسيار ، والظن بهم قطعا أنهم لم يقصدوا التبرير لهذا الصنف بهذه الممارسات المزرية ، وإن هؤلاء هم من يتحمل في الحقيقة المسؤولية تجاه هذه الرفض التام من قبل النساء لهذا الزواج ، الذين رأين فيه استغلالاً لهن لا يصب إلا في صالح الرجل فقط ، وأما هن فلا بيتاً عمرن ولا أسرة كوّنّ ، وبعض البسطاء من الرجال ينظر إلى جانب استمتاع المرأة على أنه كفيل بأن يجعلها تتنازل عن لب الزواج وقدسيته للأبد ، وهيهات هيهات أن يصح هذا التفكير فالمرأة لا تنظر من هذا الغربال المهتريء ، وإنما تبحث عن الطمأنينة والحنان التي لا توجد إلا حيث يوجد من يفهم هذه اللغة من الرجال الأكفاء .