الاستعداد للموت والعناية بالوصية
الشيخ عبدالله بن صالح القصيِّر
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شُرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا.
أمَّا بعد:
فيا أيُّها الناس، اتَّقوا الله ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281]، ولا تغرَّنَّكم بسطة العيش وسعة الآمال، وما فُتِنَ به الكثيرون من الأشغال، التي ألهَتْهُم عن تذكُّر هول الرُّجوع والقِيام بين يدي الكبير المُتَعالِ.
عبادَ الله:
أمَا رأيتُم المأخُوذِين على غِرَّة، المزعجين بعد الطمأنينة، الذين أقاموا على الشُّبهات، وجنَحُوا إلى الشَّهوات، حتى أتَتْهم رُسُلُ ربهم؟ فلا ما كانوا أمَّلوا أدرَكُوا، ولا إلى ما فاتهم رجعوا، قدموا على ما عملوا، وندموا على ما خلفوا، فلم يُغنِهم الندم، وقد جفَّ القلم، فرحم الله امرأً قدَّم خيرًا، وأنفق قصدًا، وقال صدقًا، وملك دواعي شهواته ولم تملكه، وعصى إمرة نفسه فلم تهلكه، وأخَذ بالحزم في كلِّ شانه، فلم يفرط فيه ثم يتمنَّاه وقد فات أوانه.
ألاَ فحاسبوا أنفسكم قبل أنْ تحاسبوا، ومهِّدوا لها قبل أنْ تعذَّبوا، وخُذُوا بالحزم في أموركم قبل أنْ تفاجؤوا، وتزوَّدوا للرحيل قبل أنْ تُزعَجوا، فإنها موقف عدل، واقتضاء حق، وسؤال عن واجب، ولقد أبلغ في الإعذار، مَن تقدَّم في الإنذار؛ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 33 - 34].
أيها الناس:
إنَّ المسلم العاقل ينبغي له أنْ يأخذ بالحزم، وأن يتحلى بحلى أولي العزم؛ من التوثق في أمور حياته، لما بعد وفاته؛ لما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أنْ يُوصِي به يَبِيتُ ليلتين - وفي رواية: ثلاث - ووصيَّته مكتوبة عند رأسه))، قال ابن عمر: فلم تمض عليَّ ليلة إلاَّ ووصيَّتي مكتوبة عند رأسي، وهكذا كان السلف الصالح - رحمهم الله - يتأهَّبون بكتابة وَصاياهم وتخليدها في حال صحَّتهم، عملاً بوصيَّة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأخذًا بالحزم في شؤونهم.
أيها المسلمون:
تتأكَّد الوصيَّة في حقِّ مَن عليه حقوق للناس غير موثقة، وأحقُّ شيء يُوصِي به الشخص هو الخروج من المظالم وأداء الديون وسائر حقوق الناس؛ فإنَّ هذه الأمور لا يترك الله منها شيئًا، كما في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لتؤدنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)).
وفي "صحيح البخاري" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أيضًا عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن كانت عنده مَظلَمة لأخيه من عرضه أو من شيء، فليتحلَّله منه اليوم قبل ألاَّ يكون دينار ولا درهم، إنْ كان له عمل صالح، أخذ منه بمقدار مظلمته، وإن لم يكن له حسنات، أخذت من سيِّئات صاحبه فحمل عليه)).
وقد سُئِل - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن الشهيد يُقتَل في سبيل الله صابرًا محتسبًا مُقبِلاً غير مُدبِر: أتُكفَّر عنه خَطاياه؟ فقال: ((نعم، إلاَّ الدَّين)).
فالواجب على المسلم المؤمن بالموت والبعث والجزاء أنْ يؤدِّي حقوق الناس إليهم، وأنْ يخرج من مظالمهم في حال صحَّته وحياته، وما عجز عنه كتبه في وصيَّته؛ لعلَّ الله أنْ ييسِّر أداءه على يدي ورثته بعد وَفاته؛ ففي الترمذي وغيره عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((نفس المؤمن مُعلَّقة بدَيْنِه حتى يُقْضَى عنه)).
وبلَغ من تشديد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أمر الدَّين بادئ الأمر أنَّه كان لا يُصلِّي على مَن مات وعليه دين حتى يتحمَّل عنه، ولَمَّا ضمن أبو قتادة - رضي الله عنه - دَيْنَ ميت ليصلِّي عليه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يسأله إذا لقِيَه: ((هل أدَّيت دين الميت؟))، فلمَّا قال: نعم، قال: ((الآن بردت عليه جلده)).
فاتَّقوا الله - عباد الله - في ديونكم وأماناتكم، وحقوق الناس وودائعهم عندكم، أدوها إليهم في حال صحَّتكم وقوَّتكم وغِناكم، ولا تُماطِلوا فيها؛ فإنَّ مطل الغني ظُلمٌ يُبِيح عرضه وعقوبته، وما عجزتم عنه لفَقرِكم، أو تعذَّر وصوله إلى أهله في حَياتكم، فاكتُبُوه في وَصاياكم، واسألوا الله أنْ يوفِّيه عنكم؛ فإنَّ الله مع المَدِين ما دام ينوي أداء حقوق الناس، وفي الحديث: ((مَن أخَذ أموالَ الناس وهو يريد، أداءها أدَّى الله عنه، ومَن أخذها وهو يريد إتلافها، أتلفه الله)).
أيها المسلمون:
وممَّا ينبغي للتقي الغني أنْ ينفق من ماله في وجوه الخير وأبواب البر؛ من صلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران والأيتام، والإعانة على طلب العلم والجهاد في سبيل الله، وبناء المساجد، وإغاثة الملهوفين، وإسعاف المنكوبين، وقَضاء دين المعسرين، وستر المعوزين المتعفِّفين؛ فإنَّ أفضل الصدقة أن تَصَّدَّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان.
وفي الصحيح أنَّ أبا طلحة - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله، إنَّ الله - تعالى - يقول: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، وإنَّ أحب أموالي إلَيَّ بَيْرُحاء، وإنها صدقةٌ لله أرجو برَّها وذخرها، فضعْها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بخ بخ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح، وإني أرى أنْ تجعلها في الأقربين))، فقسمها أبو طلحة في أقاربه.
وقد دلَّت الأحاديث على أنَّ الصدقة على القريب صدقة وصلة، فتقرَّبوا إلى ربكم ببذل أموالكم في مَرضاته ما دامَتْ في أيديكم قبل بعدها عنكم.
أيها الناس:
وقد لطف الله بعِباده فتصدَّق عليهم بثلث أموالهم أو الربع، يوصون به عند وفاتهم لتُبذَل في وجوه الخير وأنواع البر؛ زيادة في الصالحات، وطلبًا لمضاعفة الحسنات، وسببًا لرفعة الدرجات، يتزوَّد بها المرء لآخِرته قبل انقِطاع عمله بموته، لكن بشرط أن تكون بالثلث فأقل، وألاَّ تكون لأحدٍ من الورثة؛ فإنَّ الله قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه فلا وصيَّة لوارث، فأوصوا بما يتيسَّر من أموالكم لغير الوارثين من قراباتكم وفي سائر وجوه الخير؛ طلبًا لمرضاة ربكم، وسَعيًا في تحصيل عظيم الأجور، والتجارة التي لن تبور، وإيَّاكم والجور في الوصيَّة بأنْ تخصُّوا أحد الورثة بشيءٍ دون الآخَرين؛ ففي الترمذي وغيره عن أبي هريرة - رضِي الله عنه - مرفوعًا: ((إنَّ الرجل أو المرأة ليَعمَلان بطاعة الله ستِّين سنة، فيُضارَّان بالوصيَّة؛ فتجب لهما النار))، ثم قرأ أبو هريرة: ﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ * تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [النساء: 12 - 14].
وفي "مصنف عبدالرزاق" عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كانوا يكتبون في صدور وَصاياهم: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به فلان بن فلان: أنَّه يشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأنَّ الساعة آتيةٌ لا ريب فيها، وأنَّ الله يبعث من في القبور، وأوصى مَن ترَك من أهله أنْ يتَّقوا الله، ويُصلِحوا ذاتَ بينهم، ويُطِيعوا الله ورسوله إنْ كانوا مؤمنين، وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوبُ ﴿ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 132].
وقال أحد السلف في وصيَّة: "هذا ما أوصى به فلان، وأشهد الله عليه وكفى بالله شهيدًا، وجازيًا لعباده الصالحين مثيبًا: أنِّي رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - نبيًّا، وأنِّي آمُر نفسي ومَن أطاعني أنْ يعبد الله في العابدين، ويحمده في الحامدين، وأنْ ينصح لجماعة المسلمين"، ثم يذكر ما عليه للناس وما عندهم له.
فاتَّقوا الله - عباد الله - وخذوا أهبتكم للوقوف بين يدي الله؛ فإنَّكم إلى ربِّكم مُنقَلبون، وبأعمالكم مجزيُّون، وعلى تفريطكم نادِمُون ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾ [الشعراء: 227].
بارَك الله لي ولكم في القُرآن العظيم، ونفعَنِي وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين والمؤمنين من كلِّ ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنَّه هو الغفور الرحيم.
المصدر: شبكة الألوكة