بعض الأزواج يدخلون البيوت ، فيسكن من فيها بعد حركة ، وتجف قلوب الزوجات والأولاد من غوائلهم . وجوههم عابسة ، أجبُنُهم مقطّبة ، تنخلع القلوب لمرآهم ، وتنقبض النفوس حين تقع العيون عليهم .
ولا أعتقد هذا إلا جهلاً منهم بدورهم في الحياة الأسريّة ، وقوامتهم فيمن ولاّهم الله عليهم .
وكأنهم لم يقرأوا سيرة الرسول الكريم في بيته وبين أهله ونسائه ، ومعاملته إياهم بلطف المعشر وبشاشة الوجه وطيب الكلام .
فقد كان صلى الله عليه وسلم يبادر فيتقرب من نسائه ، ويمازحهن ، ويتباسط معهنّ ، فيدخل السرور إلى قلوبهنّ .
من هذا قوله لعائشة رضي الله عنها :
" كنت لك كأبي زرع لأم زرع "
وذلك حين حدثته السيدة عائشة رضي الله تعالى قائلة :
إنه اجتمع في الجاهلية إحدى عشرة امرأة في جلسة سمر ، فقلن بعضهُنّ لبعض :
تعالَين نتحدث عن أزواجنا ، دون أن نكتم من أخبارهم شيئاً مدحاً أو ذمّاً ، وأن نكون صادقاتٍ في وصفهم ، على ألاّ يصل هذا إليهم ...
فقالت الأولى : إن زوجي متكبر سيء الخُلُق ، لا أصل إلى رضاه إلا بشق النفس وبذل الجهد ، وشبّهته في رداءته بلحم جمل غثٍّ شديد الهزال على رأس جبل وعر لا يوصل إليه إلا بعسر ومشقّةٍ .
وقالت الثانية :لا أستطيع ذكر زوجي بسوء – وكله مساوئ – فقد يصل إليه ما قلت فيطلقني ، فأضيّع أطفالي ، وأخسر بيتي .
وقالت الثالثة : أما زوجي فهو سفيه أحمق ، عقله في لسانه ، لا يرعى لي ذمة ، ولا يحفظ لي مكانة ، أتحمله على مضض ، فلا أستطيع مجابهته فأطلَّق ، وإن سكتُّ فلا يأبه لي .
وقالت الرابعة: إن زوجي معتدل الأخلاق ، متوسط في رضاه وسخطه، وشبّهتْه بليل تهامة ( وتهامة مكةُ وجنوبُها ، والنسبة إليها تهاميّ) لا تجد فيه حراً ولا برداً ، ولا تخافه ولا تسأمه .
وقالت الخامسة : زوجي كريم جواد ، لا يسألني ما أفعله في البيت ، فإذا خرج فهو أسد في الحروب ، بطل في القتال .
وقالت السادسة : أما زوجي فإن أكل أو شرب لم يترك لعياله شيئاً ، فإذا نام لم يشعر بما حوله . أنانيٌّ لا يهتم بحال أهله إن مرضن أو اشتكين . شديد الرغبة في النساء .
وقالت السابعة : يا ويلي ، إن زوجي عيِيٌّ لا يحسن تدبير الأمور ، فيه غيٌّ وضلالة ، أحمق لا يهتدي للتصرف الصحيح ، يتخبط في أعماله ، سريع إلى الضرب ، فإما أن يشُجّ من خاصمه ، أو يكسر له ضلعاً من أضلاعه ، أو يجمع بين الشج والكسر ، فأنا منه على أسوإ حال .
وقالت الثامنة : أما زوجي فناعم الملمس ، كالأرنب لِيناً وعطفاً ، شديد الاعتناء بمظهره وطيب رائحته .
وقالت التاسعة : زوجي أصيل المنبِت ، فارع الجسم ، كريم اليد ، سريع إلى إغاثة الملهوف ، عظيم في قومه ، قريب إلى نفوسهم ، له الصدر في مجالسهم .
وقالت العاشرة : إن زوجي – مالكاً- له إبلٌ كثيرة باركة في فِناء منزله ، لا يوجّهها للكلإ والمرعى إلا قليلاً ، فهو لم يقْتَنِها لينمّيَها ، إنما جعلها للضيفان ، فيقريهم من ألبانها ولحومها . وقد عهِدتِ الإبل منه ذلك ، فإذا سمعن صوت المزاهر وآلات الطرب علمْنَ أنّ أجلَهنّ قد اقترب .
وقالت الحادية عشرة : أما زوجي أبو زرع – وما أدراك ما أبو زرع ؟- فقد انتزعني من بيت فقير وحياة بائسة إلى غنىً واسع وحياة رغيدة ، وأكرمني أيّما إكرام ، طعام كثير ، وخير وفير .. وذهبٌ ملأ يديّ ، ففرحت بما أُلْتُ إليه من نعمة ، وعظّمني فعَظُمَتْ نفسي عندي ، فقولي عنده القول الفصل ، والخدم من حولي يأتمرون بأمري ، ويسعَوْن إلى رضاي ... أم أبي زرع : تمتلك الكثير من المال ، وبيتها واسع رائع .... ابن أبي زرع : نشيط جميل المنظر ... بنت أبي زرع : من أجمل الفتيات ، ذات خلق رفيع ، تغار منها الأتراب ...حتى الخادمة : فإنها أمينة تكتم السر وتحافظ على البيت ، وتعتني به .
إلا أن هذه النعمة لم تدُمْ لي .. فقد خرج زوجي في بعض أعماله فرأى امرأة جميلة في مقتبل العمر ، تلاعب ولدين لها ، وتسقيهما من ثدييها لبن الأمومة اللذيذ ، فأعجَبَتْه ، فطلّق أم زرع ، وتزوّجها .
ولم تلبث ام زرع أن تزوّجت رجلاً أصيلاً غنيّاً ذا همّة عالية ، فأغدق عليها خيراً كثيراً ، وأمرها بصلة أهلها وإكرامهم . . إلاأن قلبها لم يكن له ، بل كان لأبي زرع ... ألم يقل الشاعر :
نقّل فؤادَك حيث شئت من الهوى *** ما الحبّ إلا للحبيب الأوّل
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى *** وحنينه أبـداً لأوّل منـزل ؟
فكانت تقول : فلو جمعْتُ كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغرَ ما أعطانيه أبو زرع .
فلما قال لها النبي الكريم صلوات الله تعالى وسلامه عليه :
" كنت لك كأبي زرع لأم زرع " .. قالت :
يارسول الله ، بل أنت خير من أبي زرع .
قال صلى الله عليه وسلم :" نعم ، فقد طلّقها ، وإنّي لا أطلقك ."
وتسـارع بنت الصدّيـق *** بكـلام حلـو ورقـيــق
بـل أيـن أبـو زرع أينـا *** من زوج بـر ورفيـق؟
أرسـول الله يشـابهـه الـ *** أغـيار بخلـق موثـوق ؟
قد صاغك ربي من نور *** وحباك بكـل التوفـيـق
أنت العـليـاء وذروتهــا *** وسواك بوهد التضييق