روى مسلم (1) عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم. حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم".
مسمتعىَّ الكرام
يبين لنا هذا الحديث الشريف عاقبة الظلم ومصيرَ الظالمين، ذلك المصير المشئوم لأنه يكون يوم القيامة ظلامًا حالكًا يحل بصاحبه فلا يرى طريقه ولا يعرف إلى أين يمضى أو كيف يسير ؟
بهذا التعبير الموجز عن مصير الظالمين ينفر النبىُّ صلى الله عليه وسلم من الظلم بجميع أشكاله وألوانه، ويُحذر من عاقبته التى هى أسوأ عاقبة (وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون) [الشعراء 227] وليس هذا فحسب، بل إن الظالم سينتقم الله تعالى منه فى الدنيا قبل الآخرة، فإذا تأخر عنه العذاب، فليس هذا إهمالاً من الله، بل إنه زيادة فى عذاب هذا الظالم
واستدراج له، وفى ذلك يقول صلى الله عليه وسلم : "إن الله تعالى يُملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وتلا قوله تعالى (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهى ظالمة إن أخذه أليم شديد)" [هود 102].
وأقبح أنواع الظلم وأبشعُه صورةً أن يظلم المرء قريبَه أو صديقَه أو من يجبُ الإحسانُ إليه والعطفُ عليه، ولقد صدق القائل:
وظلمُ ذوى القربى أشدُّ مضاضةً على النفس من وقع الحُساَم المهنَّد
وفى الحديث تحذير من مرض اجتماعى فتاك، ألا وهو الشحُّ والبخل. البخل يكون بالمال، أما الشح فيكون بالمال وبعمل الخير، فهو أعم.
والمعنى: اتقوا شدة البخل الذى يُعِّرضُ المجتمع للهلاك لأن المجتمع المسلم هو مجتمعُ التكافل والتضامن والتعاون على البر والتقوى بين أفراده، إذ يعود غنيُهم بما آتاه الله من مالٍ على فقيرهم، فيتحققُ الوئامُ وتفشو المحبةُ بين الناس. أما إذا فشا فيهم البخل، عمَّت العداوة والبغضاء وأَكَلَ الحسدُ والحقدُ قلوب الفقراء على الأغنياء، ولذا كان البخل سبباً فى هلاك السابقين، حيث دفعهم ـ وتأمل معى لفظة دفعهم ـ فترى صورة إنسانٍ يدفعُ آخرَ لحتفه، دفعهم إلى سفك الدماء، وقتل النفوس، واستحلال المحارم التى حرمها الله عز وجل.
فما أقبح الظلمَ وما أشنعَ البخلَ والشح من جريمةٍ عاقبتها وخيمة تسبب الشقاء والخسران المبين، وتعجِّل بخراب المجتمعات.
ومن هنا ندرك قيمة دعاء النبى صلى الله عليه وسلم حين يتعوذ بالله تعالى من أن يَظْلم أو يُظلم وحين يتعوذُ بالله عز وجل من الجبن والبخل .. جعلنا الله تعالى من أهل العدل وجنّبنا البخل والشح إنه ولى ذلك والقادر عليه.
تأمل معى أخى المستمع قول النبى صلى الله عليه وسلم "اتقوا الظلم" الذى يشبّه الظلَم بمن يريد أن يقتحم عليك حياتك أو يهجم عليك ليفتك بك، فيأمرك صلى الله عليه وسلم بالحذر منه والابتعاد عنه، والظلم هو التصرف فى حق الغير بغير حق أو هو مجاوزة الحد. وهو يشتمل على معصيتين:
الأولى : أخذ حق الغير بدون حق.
الثانية : مبارزة الله تعالى بالمخالفة والمعصية
وغالباً ما يقع الظلم بالضعفاء غير القادرين على الانتصار لأنفسهم، وإنما ينشأ الظلم من ظلمة القلب، فلو استنار القلب اعتبر.
ولقد ترتب على نتيجة الظلم فى الدنيا أن يكون ظلماتٍ يومَ القيامة، وكأن فى إيثار الجمع (ظلمات) بدلاً من (ظلام أو ظلمة) إشارةً إلى تعدد ألوان الظلم الحادث من البشر، فهذا يظلم نفسه، وهذا يظلم زوجه، وثالث يظلم أبناءه وغيرهم، ويترقى بعضهم إلى أعلى أنواع الظلم وهو الشرك بالله عز وجل (إن الشرك لظلم عظيم) [لقمان 13].
لذا آثر الحديث لفظة (ظلمات) أى شدة الظلام بحيث لا يرى المرء ما يحيط به، وكأن الظلم حاجز عن رؤية الأشياء، وقد طمس على قلب الظالم فلا يرى شيئاً بل هى ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.
-------------------
(1) فى كتاب البر والصلة والآداب. باب تحريم الظلم رقم 2578.