بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
لم تكن علاقتي في المغرب إلا مثل علاقة رجلٌ وقع في حب فتاة شغفت قلبه وأخذته على حين غرةٍ في وقت لم يحسب له أي حساب ولم يكن يظن أن تلكَ ستكون محبوبته الدائمة، ذلكَ أنني في عام 1994، لم أكن أعلم أن ثمة مغربٌ يقع على ضفاف المحيط الأطلسي والبحر المتوسط في قارة إفريقيا حتى جمعتني الصدفة حين شاهدت عبر التلفاز مباراة المنتخب السعودي والمنتخب المغربي في كأس العالم بأمريكا، وحينها كسب المنتخب السعودي المباراة، كنتُ طفلاً لم أدخل بعد فلك المراهقة، وكانت روحي تواقة وفكري مشدوداً لكل جديد، في تلك المباراة وقعت عيني على شيئٌ أسمه المغرب، كان شيئاً جديداً علي أن أرى وأسمع ببلد يقال له يامغرب، وكان مثيراً ومشوقاً لي لأكتشف كُنه ذلك البلد، كان أولئكَ اللاعبون مختلفون عما ألفته في وطني من العرب، ففي تلك الفترة أرى المصري والسوداني والتركي والفلسطيني واللبناني والسوري، وكنتُ استطيع أن أعرف أشكالهم أو أميز لهجاتهم، ولكن أولئكَ المغاربة الذين شاهدتهم عبر التلفاز أشكالهم ليست كتلك الأشكال التي ألفتها في مجتمعي، ولكن أسمائهم عربية مثلنا أحمد يوسف محمد ناصر مصطفى رشيد عبدالكريم خليل إلخ..، وقد شدني هذا الأمر، لابد أن ثمة شيئٌ يجمعنا، ولأنني في تلك الفترة مولعٌ في تتبع الجديد والانبهار به وتفحصه، فقد أخذني هذا البلد إلى ساحله حتى قذفني في أعماقه دون أن أشعر.
كنتُ مولعاً بنادي الهلال السعودي، حيث لم يكن في تلك الفترة من شيء نستمتع به غير الكورة ومتابعة الأندية، وفي عام 1995 استقطب الهلال لاعباً من المغرب يلعب بالرجاء البيضاوي المغربي يقال له صلاح الدين بصير، كنتُ أتابع هذا اللاعب عن كثب ووقعت في جنون حبه، حتى باتَ لاعبي المفضل، وشدني أكثر حين يتحدث أثناء أي مقابلة تلفزيونية كنتُ أطرب لحديثه وأخلاقه، كان قريباً للقلب وشعرت بأنه أقرب لي من أي شيء أخر، وكان نموذجاً سامياً رسخ في ذهني، ومن هنا تكونت أول فكرة لي عن طبيعة هذا الشعب حتى بتُ أرى حتى اليوم أن كل مغربياً يحمل فيه داخله شيئاً من صلاح الدين بصير.
كنتُ ألعب الكورة في الحي وفي المدرسة، وكنتُ دوماً ما ألبس فانيلة المنتخب المغربي وخلفها رقم بصير 14 ويعلو هذا الرقم كتابة BASSER ، حتى أصبح أصدقائي في الحي والمدرسة لاينادوني إلا ببصير.
وبقيتُ متابعاً للمغرب رغم محدودية المصادر وضعف الموارد المتوفرة بأنواعها، وصعوبة الوصول إلى المعلومة في تلك الفترة، إلا أنني بقيت كلما جاء خبراً أو حديثاً عن المغرب قرأته أو أنصت إليه، وفي عام 1999 تقريباً، دخلت ذات يوم لمكتبة العبيكان، وكنتُ أحب القراءة كثيراً، وبينما كنتُ أتجول في المكتبة الكبيرة جداً في مدينتي، إذ بي أصعد للدور الثاني، وأجد شابين يطمئن قلب المرء إليهما، فألقيتُ عليهما التحية، وسلما علي، وقلتُ لهما من أين أنتما، فقالا من المغرب، فنفرجت أسارير وجهي حتى بدت على ملامحي، وأخذت حينها راحتي في الحديث إذ أطمئنت إليهما نفسي، ورحتُ أبادلهما الحديث وأسألهما عن المغرب، وذكرتُ لهما عن ولعي بصلاح الدين بصير وبعض المعلومات التي أملكها عن ذلك البلد، حتى تعمقت علاقتنا معاً، وفي تلك الأيام دعاني إلى دارهما، وذقت في تلك الفترة أول شاي مغربي (آتاي) من يديهما، وجاءا إليّ بخبزٍ مغربي لم أعهده بحياتي ولم أعرف كيف أتعامل معه، حتى بقيت أرقبهما كيف يمسحان عليه بالزبدة.
في تلك السنة ومابعدها من سنوات ومع وجود الستالايت والانترنت وسهولة المعلومات والقدرة على التواصل اتاحت لي الكثير من القراءة والتعرف على ذلك البلد بشكلٍ أكبر، ومشاهدة البرامج التلفزيونية، وكلما زدتُ علماً به رغبت بمعرفته أكثر ، وكلما اكتشفتُ شيئاً جديداً أصبحت أكثر حباً وتعلقاً لهذا البلد الذي يبهركَ بتاريخه وأصالته وفنونه ونحته ورسومه وجمالياته الابداعية وتراثه وعمارانه وتضاريسه وتعدد تكويناته وأعراقه وثقافته، وقبل هذا كله شعبه الذي لم أملك إلا حبه، إذ وجدت في الكثير منهم ومن خلال احتكاكي بهم على مدار مايقارب عشرين سنة حسن السريرة والبشاشة والضيافة والترحاب والأدب الجم والنقاء وصفاء النية، وعلمتني التجارب والقاءات والمناسبات التي جمعتني بهم أن لا أملك إلا حبهم، فلا أذكر أني وجدتُ ضراراً أو واجهت مشكلاً معهم، وإن كانوا ليسوا ملائكة ولابد من وجود السيء والخبيث إلا أن الحديث هنا عن نظرة عامة لهذا الشعب تطبعه الذي أزعم أني تفحصته وخبرته جيداً، وقارنته بين كثير من الشعوب في العالم فوجدته من أقرب الشعوب إلى قلبي وأشعر أنهم أهلي، ولستُ وحدي من ينفرد بهذا الحديث فقد قال عنهم ابن خلدون في كتابه (ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر) "وأما تخلقهم بالفضائل الإنسانية وتنافسهم في الخلال الحميدة وما جبلوا عليه من الخلق الكريم مرقاة الشرف والرفعة بين الأمم ومدعاة المدح والثناء من الخلق من عز الجوار وحماية النزيل ورعي الأذمة والوسائل والوفاء بالقول والعهد والصبر على المكاره والثبات في الشدائد. وحسن الملكة والإغضاء عن العيوب والتجافي عن الانتقام ورحمة المسكين وبر الكبير وتوقير أهل العلم وحمل الكل وكسب المعدوم. وقرى الضيف والإعانة على النوائب وعلو الهمة وإباية الضيم ومشاقة الدول ومقارعة الخطوب وغلاب الملك وبيع النفوس من الله في نصر دينه. فلهم في ذلك آثار نقلها الخلف عن السلف لو كانت مسطورة لحفظ منها ما يكون أسوة لمتبعيه من الأمم وحسبك ما اكتسبوه من حميدها واتصفوا به من شريفها أن قادتهم إلى مراقي العز وأوفت بهم على ثنايا الملك حتى علت على الأيدي أيديهم ومضت في الخلق بالقبض والبسط أحكامهم"
وقد صدق فما والله لم أرى منهم في أغلب تعاملي إلا خيراً وحسن تعامل، ولم أكن لأثني عليهم أو أذكر حديثي هذا إلا بعد أن خبرتهم وجربتهم في الغرب وفي الشرق وفي وطنهم وبيوتهم، وإن شذ منهم من شذ وساء تعامله أو لم يحسن التصرف لنفسه ولغيره فإنه لايمثل إلا نفسه ولايمكن انزال مواقفه على شعب يغلب النقاء على أهله، وسوف أذكر في موضوعي هذا من المواقف والتجارب والعبر والقصص مايشد الانتباه ومايثير الإعجاب.
واختم هذه المقدمة بقصيدة الوزير والسفير غازي القصيبي رحمه الله رحمة واسعة عن المغرب، وكأني من كتبها وكأنه ينطق بما هو في داخلي:
يا مشرق العليا في المغرب
شمسك لم تجنح,, ولم تغرب
في دارك البيضاء,, بيض الرؤى
وفي رباط الخيل,, فتح الأبي
وفي ربى فاس يتيه السنى
علما,, يصب النور في الغيهب
ونشوة الواحات في عرسها
لغير مراكش,, لم توهب
وفي اغادير غفا ساحل
في اذرع الموجة,, نوم الصبي
وكل شبرها هنا,, صفحة
من ذكريات الأنبل,, الأطيب
وكل وجه قال لي مرحبا
اعرفه وجه اخي,, او ابي
اهلي في المغرب,, هاجئتكم
احمل عطر الورد,, من يثرب
وشربة من زمزم,, ضمخت
بالمسك,, لا طيب كطيب النبي
لن تفصل الأبعاد ما بيننا
والحب يدعو: قربي! قربي!
ووحدة الايمان في روحنا
بغير خفق الروح,, لم تكتب
ألخص المغرب في جملة
اقول: يا أجمل ما مرّ بي