" ... يا ربِّ إنّي أحبّها فأحبّها, يا رب ارضى عنها فإنّي عنها راضي"
لا أعلم ما الذي يدفعني لسرد الذكريات اليوم-هنا- ... غير أنَّ الغصص التي تعلق بحلقي كثيرة, والحقيقة أنّي ما اعتدت على الشكوى لغيري! لكنها قصة أقصها ثُمّ تمضي !!
هذهِ الساعة! الكثير من الأفكار والمشاعر بداخلي متداخلة بعد قراءتي لموضوع "مر على وفاة والدي عام ..." تنهدتُ تنهيدة عميقة, ثمّ زفرت زفرة أخرجت معها كل الألم الذي استقر في جوفي! تذكرتُ لحظتها ما يردده العامة " لا ندرك قيمة الأشياء إلا بعد فقدها, ولا نعرف قيمة من نحبهم إلّا بعد رحيلهم" ولستُ إلى هؤلاء أنتمي!! أتذكر أحاديث النساء أيام العزاء " مسكينة ... صارت يتيمة ... ما تبكي غريبة ! ... عانى كثير وتعبت معاه ..." وما زلتُ أحتفظُ بالصورة التي التقطتها لي صديقتي يومها, وأنا أجلس على كرسيه وأحتضن ثوبه الذي مات فيه وكلما نظرتُ إليها اليوم ابتسمت أكثر وأحببتني أكثر وأكثر!!
لم أكن تلك الفتاة البارة بوالدها! لكني بنظره كنت ذلك وأكثر, وقبل وفاته وبعده لا يذكر اسمه إلا واسمي يتبعه, ولا يدعى له إلّا وأُشمل معه, أحكي لكم ماذا إن أردتُ أن أحكي وأهمل ماذا ؟ فالحياة مع أبي حياة مليئة بالحُبِّ والدفء, بالحزن والفرح, بالقصص والعبر !!
كان من فرط حبه لي يدعو الله أن لا يفجعه بي, وإن أراد أن يقبضني قبله فليقبض روحه في الساعة واللحظة ذاتها! حتّى أنّه كتب في وصيّة له "إن متنا في نفس اليوم فلندفن في نفس القبر"!! لم يكن ينام إن لم أتوسد يده وأرتمي بحضنه, ولا يأكل إن لم آكل معه, ولا يكتمل يومه إن لم أشاكسه وأعانده, ولا يخرج بسيارته ليتم أمرًا من أموره إلّا وأنا برفقته, ولا تخف حساسيته إن لم أحك جلده! ويردد كثيرًا ما حك جلدك غير ظفرك ! وأنت أنا !
لست الفتاة البارة بوالدها على الحقيقة لكني حاولت أن أتعلم كيف أكون؟ تعلمت كيف أضحكه, كيف أخرجه من حزنه, كيف أواسيه, أن أمسح الدمعة العزيزة حين تسقط من عينيه. تعلمت أن أشاركه اهتماماته, فلأجله تابعتُ كرة القدم وشجعت فريقه, ولأجله كنت أنتظر الموجز والأخبار حتّى أسمعهما وأسردهما عليه وقت لا يستطع سماعها بنفسه, ... حاولت أن أكون جزءًا من قلبه لا يمكنه الاستغناء عنه تمامًا كأمه وأمي ... وكثيرًا ما كان يقول لي: أنت لي الابنة والأم !
كان يوقظني لنقوم الليل معًا, يذهب لصلاة الفجر, أصلّي ثُمّ أحضر قهوته, يعود وبيده قطعة حلوى نتشاطرها, يشرب قهوته, ويشربني بيده كوب الحليب خاصتي, نقرأ الورد اليومي لنا ... يأخذني لمدرستي وحين ينزلني يقول: وداعة الرحمان ! فأودعه بقبلة على يده وقول: استودعتك الله !
أتذكر الآن آخر أيّامه ... كبره ومرضه, حين خرج طبيبه ليخبرني: لا بد من عزله! عليكم ألا تجلسوا معه! أن لا تلمسوا جسده! مرضه معدي و ...! أتذكر أخي الأكبر وهو يعطيني القفازات والكمامات, يأمرني بالاستماع للطبيب, يعرف عنادي ويحذرني أومأتُ له بالطاعة وأوّل ما وقع نظري على أبي وسمعته يناديني ارتميت في حضنه ... بكى وبكيت معه ... لم يكن يدري وقتها ما الذي أصابه؟ وما الحال التي آل إليها مرضه. كان يبكي الألم الذي يحسه, يبكي ضعفه, وكنت أبكي لحاله وفقده الذي أتوقعه أن يباغتني في أي لحظة !! ناداني الطبيب برفق تحدث إليّ, حاول إقناعي ببقاء أبي, حرّص على عزله, شكرته وعدت لأبي! أخذته وعدتُ به إلى بيته, ... كان طوال الطريق ممسكًا بيدي وكأنه يخشى فقدي يحتضنني ويشد عليّ حتى حرقت أنفاسه وجهي الذي سبق واحترق بدمعي. نام على سريره في سكينة وغرقت بدمعي, حرت بين قلبي وعقلي وهمستُ: يا الله! أنا لا أخاف المرض قدر ما أخاف أن أجرح شعوره ! وأنتَ تعلم ما بقلبي فارزقني الطمأنينة !!
...
وحين اشتد مرضه في آخر أيامه نسي الكل وذكرني! ووقت أراده الموت شد على يدي وقبلني! وقبل أن تخرج روحه أشهد الله على حبه ورضاه وسأله أن يحبني ويرضى عني!
بعد وفاته سألتني في أسى بالغ: أنتِ لا تبكين؟ أخبرتها أنَّ الحزن ليس بحاجة إلى الدمع ليثبت حضوره! وأنّ لي قلب عجوزةٍ لا تستجدي دمعًا لتظهر شفقة ! ثبت لي أنّ الفقد ليس سيئًا دائمًا ! بل هو الحقيقة التي نفر منها لنعود إليها وهي على الألم الذي تهدينا إياه تمنحنا الأمل ! لقد كان عندي في الحقيقة قناعة أن الحب لا يستحقه أي أحد وأن البين مصيري! كنتُ وما زلتُ لا أسلم زمام قلبي لكل عابرٍ وعابرة فالحب عندي صعبٌ عزي لذا حين اعتلى والدي عرش الحب في قلبي ... وجاء اليوم الذي أراد الله فيه أن يرحل عني خشيتُ عليّ كثيرًا وسألت الله اللطف, فلطف بي وآنس قلبي! آمنتُ أنّ الله أرحم بي من أمي وأبي !!
لن أندب حظي, ولن أشكي وحدتي, لن أقول أتعبتني الحياة من بعدهما! فالحياة لا تفعل الأشياء بنا قدر ما نفعله بها, لن أبكي الفقد وحينما أقول أنّي لن أبكي فأنا أعني ذلك ... أنا أخبئ الدمع لا للشعور بالذنب لعدم البكاء بل للبكاء على ذنوبي !
أبي ... وقد رحل, نام بين يدي بعد أن لقنته الشهادة وشهدت نهايته, وعرف هو أين مآله ؟ أما أنا فمتى ؟ وكيف ؟ وإلى أين ...؟ أبي اليوم لا يحتاج بكائي رغم شدة حنيني لحبه / لحضنه / لصلاة الليل وتلاوة الورد اليومي معه / للتقرب إلى الله بكل فعلٍ أفعله لأجله ! أدركتُ اليوم أنّي لا أعيش لنفسي-فقط-! بل أعيش لأجمع الكثير لي ولأمي وأبي ... أتقلب على وسادتي ليل نهار وكلما انقلبت من موضعٍ لآخر رددتُ "ربِّ ارحمهما كما ربياني صغيرا"!
( ...
الموفق من وفقّه الله لبرهما, والمحروم من حُرِم !
آبائكم وأمهاتكم فثمَّ
الجنّة !!
الخالة بيتا :
اللهم آمين وجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين,
ثُمَّ الأجمل من حرفي الفقير روحكِ النقيّة, لا عدمتكِ يا طيّبة.
سر الحياة :
الصبرُ ليس منّي
إنَّهُ لطفُ الله الخفيّ يا صديقة !
فالحمدلله لما كان وما سيكون, الحمدلله كثيرًا عدد الحركات والسكون!
kooki3 :
شكرًا يا طيّبة
آمنتُ بالله وَ "من رضي فله الرضا"! الحمدلله !
unlimited :
دعوةٌ لوالدي أحبُّ إليّ من دعوةٍ ليراعي!
سلّمكِ الله كُلّك لمنتدى الأسرة والمجتمع ولمن أحبَّكِ .
ثُمّ شُكرًا تظلّكِ ...
أبو عقيل الهاشمي :
أسعدني أن الحب بينك والوالد عميق, فحبُّ الوالدين أكبر من أقوالٍ نرددها من أجل العادة, أو كلمات نسطرها من أجل مادة التعبير! أتمنى على الحقيقة أن يذوق كل منّا معنى حبِّ الوالدين, أن يتلذذ بخدمتهم, أن يفتش عن رضاهم, أن يطرق كل السبل لإسعادهم, أن يكتب من البارين بهم !
كن لوالدك
كما تحب أن يكون أبناؤك لك !
Crestalla :
ربنا أرحم منا بهم ومنهم بنا !
صليها بالدعاء, وصلكِ الله بعفوه ورحمته .
العـ/الفريد/ـقد :
هذا فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر,
ما كان بره بيدي بل توفيق الله لي, فالحمد لله حمدًا يليق بلطفه ورحمته وعظمة جبره !
مواقع النشر |
ضوابط المشاركة |
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
BB code متاحة
الابتسامات متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
|