بسم الله الرحمن الرحيم
و الصلاة و السلام على الهادى الأمين
و الحمد لله رب العالمين
أحبائى أهل الفصيح و مرتادوه
تحياتى العطرة و سلامى الحار للجميع
كما عودتكم سابقا على اقتطاف بعض النبذ المفيدة من كتب أسلافنا العظام
و اقدم لكم الجزء ( الثالث ) من باب ( ما جاء فى وفاء النساء ) من كتاب العلامة
( ابن الجوزى )
و نبدأ على بركة الله
و الله المستعان
ماتا ودفنا معاً
قال إسحق خرجت امرأةٌ من قريش من بني زهرة إلى المدينة تقضي حقّاً لبعض القرشيّين.
وكانت ظريفةً جميلةً، فرآها من بني أميّة رجلٌ فأعجبته، وتأمّلها فأخذت بقلبه، وسأل عنها
فقيل له: هذه حميدة بنت عمر بن عبد الله بن حمزة. ووصفت له بما زاد فيها كلفه،
فخطبها إلى أهلها فزوّجوه إيّاها على كرهٍ منها، وأهديت إليه فرأت من كرمه وأدبه وحسن
عشرته ما وجدت به، فلم تقم عنده إلاّّ قليلاً حتّى أخرج أهل المدينة بني أميّة إلى الشّام،
فنزل بها أمرٌ ما ابتليت بمثله، فاشتدّ بكاؤها على زوجها وبكاؤه عليها، وخيّرت بين أن
تجمع معه مفارقة الأهل والولد والأقارب والوطن أو تتخلّف عنه مع ما تجد به، فلم تجد
أخفّ عندها من الخروج معه مختارةً له على الدّنيا وما فيها. فلمّا صارت بالشّام صارت
تبكي ليلها ونهارها ولا تتهنّأ طعاماً ولا شراباً شوقاً إلى أهلها ووطنها، فخرجت يوماً
بدمشق مع نسوةٍ تقضي حقّاً لبعض القرشيّين فمرّت بفتىً جالسٍ على باب منزله، وهو
يتمثّل بهذه الأبيات:
ألا ليت شعري، هل تغيّر بعدنا صحون المصلّى، أم كعهدي القرائن؟
وهل أدور حول البلاط عوامرٌ من الحيّ، أم هل بالمدينة ساكن؟
إذا لمعت نحو الحجاز سحابةٌ، دعا الشّوق منّي برقها المتيامن
وما أشخصتنا رغبة عن بلادنا، ولكنّه ما قدّر الله كائن.
فلمّا سمعت المرأة ذكر بلدها وعرفت المواضع، تنفّست نفساً صدّع فؤادها فوقعت ميتةً.
فحملت إلى أهلها وجاء زوجها، وقد عرف الخبر، فانكبّ عليها فوقع عنها ميّتاً. فغسّلا
جميعاً وكفًنا ودفنا في قبرٍ واحدٍ.
أرادها لحسن ثغرها فقط
وكانت خولة بنت منظور بن زياد الفزاري عند الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله
عنهم، وكانت أختها عند عبد الله بن الزّبير، وهي أحسن النّاس ثغراً، وأتمّهم جمالاً. فلمّا
رأى ذلك عبد الملك بن مروان قتل عبد الله بن الزّبير زوجها، ثمّ خطبها، فكرهت أن
تتزوّجه وهو قاتل زوجها، فأخذت فهراً وكسّرت به أسنانها. وجاء رسول عبد الملك
فخطبها، فأذنت له ليراها، فأدّى إليها رسالته ورأى ما بها، فقالت: ما لي عن أمير المؤمنين
رغبة، ولكنّي كما ترى، فإن أحبّني فأنا بين يديه، فأتاه الرّسول فأعلمه بذلك، فقال: أنا،
والله، إنّما أردتها على حسن ثغرها الذي بلغني، وأمّا الآن فلا حاجة لي فيها.
لا حرّ بوادي عوفٍ
وممّن يضرب به المثل في الوفاء جماعة بنت عوف بن محلم الشّيباني وذلك أنّ عمرو بن
عبد الملك طلب مروان القرط وهو مروان بن زنباع العبسيّ فخرج هارباً حتّى هجم على
أبيات بني شيبان، فنظر إلى أعظمها بيتاً ببصره فإذا هو بيت جماعة بنت عوف فألقى
نفسه بين يديها فاستجارها فأجارته. ولحقته خيل عمرو فبعثت إلى أبيها فعرّفته أنّها
أجارته فمنعهم عوف عنه وأنصرف أصحاب عمرو. فأرسل عمرو إلى عوف قد آليت ألا
أقطع طلبي إلاّّ أن يضع يده في يدي. فقال عوف: والله ما يكون ذلك أبداً لكنّ يدي بين
يديك ويده. قال، فرضي عمرو بذلك. فوضع مروان يده في يد عوف ووضع عوف يده في
يد عمرو. فقال عمرو: لا حرّ بوادي عوف. فذهبت مثلاً.
من أحاديث المحبّين
وحكى عصام المرّي، عن أبيه، قال: بعثنا رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، في سريّةٍ
قبل نجد، وقال: إن سمعتم مؤذّناً، أو رأيتم مسجداً فلا تقتلنّ أحداً. فبينا نحن نسير إذ
لحقنا رجلٌ معه ظعائن يسوقها أمامه، فأخذناه، فقلنا له: أسلم. قال: وما الإسلام؟ فعزمنا
عليه، قال: أرأيتم إن لم أسلم ما أنتم صانعون بي؟ قلنا: نقتلك. قال: فهل أنتم تاركي حتّى
أوصي من في هذا الهودج بكلماتٍ. قلنا: نعم. فدنا من الهودج وفيه ظعينة فقال: أسلمي
جبيش قبل انقطاع العيش. فقالت: أسلم عشراً أو تسعاً وتراً، أو ثانياً تترا. قال، ثمّ جاء
فمدّ عنقه. قال: شأنكم اصنعوا ما أنتم صانعون. فضربنا عنقه ولقد رأيت تلك الظّعينة
نزلت من هودجها وألقت نفسها عليه فما زالت تقبّله وتبكي حتّى هدأت فحرّكناها فإذا
هي ميّتة.
خانته وبموتها وفت له
العتبيّ قال: كان خالد بن عبد الله القسريّ ذات ليلةٍ مع فقهاء من أهل الكوفة فقال
بعضهم: حدّثونا حديثاّ لبعض العشّاق. قال أحدهم: أصلح الله الأمير، ذكر هشام بن
عبد الملك غدر النّساء وسرعة رجوعهنّ. فقال له بعض جلسائه: أنا أحدّثك، يا أمير
المؤمنين: بلغني عن امرأةٍ من يشكر يقال لها أمّ عقبة بنت عمرو بن الأعران، وإنّها كانت
عند ابن عمٍّ لها يقال له غسّان، وكان شديد المحبّة لها، والوجد بها، وكانت له كذلك.
فأقام بها على هذا الحال ما شاء الله، لا يزيد كلّ واحدٍ منهما بصاحبه إلاّّ اعتباطاً.
فلمّا حضرت غسّان الوفاة قال لها: يا أمّ عقبة اسمعي ما أقول، وأجيبي عن نفسك بحقٍّ.
فقالت له: والله لا أجبتك بكذبٍ، ولا أجعله آخر حظّك معي. فقال: إنّي رجوت أن
تحفظي العهد، وأن تكوني لي إن متّ عند الرّجاء. أنا والله واثقٌ بك، غير إنّي بسوء الظّنّ
أخاف غدر النّساء. ثمّ اعتقل لسانه فلم ينطق حتّى مات. فلم تمكث معه إلاّّ قليلاً حتّى
خطبت من كلّ مكانٍ، ورغب فيها الأزواج لاجتماع الخصال الفاضلة فيها من العقل
والجمال والمال والعفاف والحسب. فقالت مجيبةً له:
سأحفط غسّاناً، على بعد داره، وأرعاه حتّى نلتقي يوم نحشر.
وإنّي لفي شغلٍ عن النّاس كلّهم، فكفّوا، فما مثلي من النّاس يغدر.
سأبكي عليه، ما حييت، بدمعةٍ تحول على الخدّين منّي فتكثر
فيئس النّاس منها حيناً. فلمّا طالت بها الأيّام نسيت عهده، وقالت: من قد مات فقد
فات. وأجابت بعض خطّابها فتزوّجها المقدام بن حابس، وقد كان بها معجباً. فلمّا كانت
الليلة التي أراد بها الدّخول، أتاها في منامها زوجها الأوّل فقال لها:
غدرت، ولم ترعي لبعلك حرمةً، ولم تعرفي حقّاً، ولم ترعي لي عهدا
غدرت به لمّا ثوى في ضريحه، كذلك ينسى كلّ من سكن اللحدا
فانتبهت مرتاعةً مستحييةً منه كأنّه يراها أو تراه كأنّه في جانب البيت. فأنكر حالها من
حضرها، وقلن لها: ما لك؟ وما بالك؟ قالت: ما ترك لي غسّانٌ في الحياة إرباً، أتاني
السّاعة فأنشدني هذه الأبيات. ثمّ أنشدتها بدمعٍ غزيرٍ، وانتحابٍ شديدٍ من قلبٍ جريحٍ
موجعٍ. فلمّا سمعن ذلك منها أخذن بها في حديثٍ آخر لتنسى ما هي فيه، فتغفّلتهنّ ثمّ
قامت كأنّها تقضي حاجةً فأبطأت عليهنّ. فقمن في طلبها، فوجدنها قد جعلت السّوط في
حلقها وربطته إلى عمود البيت وجبذت نفسها حتّى ماتت. فلمّا بلغ ذلك زوجها المقدام،
حسن عزاؤه عنها، وقال: هكذا فليكن النّساء في الوفاء، قلّ من يحفظ ميتاً، إنّما هي
قلائلٌ حتّى ينسى وعنه يتسلّى
لم يلتفت إليهنّ
استعدى آل بثينة مروان بن الحكم على جميل بن معمر، فهرب حتّى أتى رجلاً شريفاً من
بني عذرة في أقصى بلادهم وله بناتٌ سبعٌ كأنّهنّ البدور جمالاً. فقال الشّيخ لبناته: تحلّين
بأجود حليّكنّ، والبسن فاخر ثيابكنّ، ثمّ تعرضن لجميلٍ. فمن اختار منكنّ زوّجته
إيّاها. ففعلن ذلك مراراً وجعلن يعارضنه: فلم يلتفت إليهنّ. وأنشأ يقول:
حلفت لكي تعلمن أنّي صادقٌ، وللصّدق في خير الأمور وأنجح
لتكليم يومٍ من بثينة واحد ورؤيتها عندي، ألذّ وأملح،
من الدّهر أن أخلو بكنّ فإنّما، أعالج قلباً طامحاً حيث يطمح
قال أبوهنّ: دعن هذا، فوالله لا أفلح أبداً.
نساء قريشٍ خير النّساء
كانت أمّ هاني بنت أبي طالب تحت زوجها هبيرة بن أبي ليث المخزومي، فهرب يوم فتح
مكّة إلى اليمن فمات كافراً. فخطب رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، أمّ هاني فقالت:
والله لقد كنت أحبّك في الجاهليّة فكيف في الإسلام؟ ولكنّني امرأةٌ مصيبةٌ وأكره أن
يؤذك. فقال النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم: " نساء قريشٍ خير نساءٍ ركبن المطايا، أحناهنّ
على ولدٍ صغيرٍ، وأرغاهنّ، على زوجٍ ذي يدٍ. "
ماتت في الطّريق
أبو بكر الأنباري، عن أبي اليسر قال: دخلت منزل نخّاسٍ لشراء جاريةٍ، فسمعت في بيت
بازاء البيت جاريةً تقول:
وكنّا كزوجٍ من قطا في مفازةٍ لدى خفض عيشٍ معجبٍ مونقٍ رغد
أصابهما ريب الزّمان فأفردا ولم أر شيئاً قطّ أوحش من فرد
فقلت للنّخّاس: أعرض عليّ هذه المنشدة. فقال إنّها حزينةٌ. قلت: ولم ذلك؟ قال:
اشتريتها من ميراثٍ، فهي باكيةٌ على مولاها. ثمّ لم ألبث أن أنشدت:
وكنّا كغصني بانةٍ وسط دوحةٍ نشم جنا الجنّات في عيشةٍ رغد
فأفرد هذا الغصن من ذاك قاطعٌ فيا فردةٌ باتت تحنّ إلى فرد
قال أبو السّمراء: فكتبت إلى عبد الله بن طاهر بخبرها. فكتب إليّ: أن ألق عليها هذا
البيت، فإن أجازته فاشتراها ولو كانت بخراج خراسان. والبيت:
قريبٌ صدّ، بعيدٌ وصل، جعلت منه لي ملاذا
فقالت:
فعاتبوه، فزاد شوقاً فمات عشقاً، فكان ماذا؟
قال أبو السّمراء: فاشتريتها بألف دينارٍ وحملتها إليه. فماتت في الطّريق، فكانت إحدى
الحسرات.
تستحييه في الحياة والممات
قال الأصمعي: خرج سليمان بن عبد الملك ومعه سليمان بن المهلّب بن أبي صفرة من
دمشق متنزّهين، فمرّا بالجبانة، وإذا امرأةٌ جالسةٌ على قبرٍ تبكي، فهبّت الرّيح، فرفعت
البرقع عن وجهها، فكأنّها غمامةٌ جلت شمساً، فوقفنا متعجّبين ننظر إليها، فقال لها ابن
المهلّب: يا أمة الله، هل لك في أمير المؤمنين بعلاً؟ فنظرت إليهما، ثمّ نظرت إلى القبر،
وقالت:
فإن تسألاني عن هواي، فإنّه بملحود هذا القبر، يا فتيان
وإنّي لأتسحييه والتّرب بيننا، كما كنت أستحييه وهو يراني
فانصرفنا ونحن متعجّبون.
قال الأصمعي: رأيت بالبادية أعرابيّةً لا تتكلّم، فقلت: أخرساء
هي؟ فقيل لي: لا، ولكنّها كان زوجها معجباً بنغمتها فتوفّي، فآلت
أن لا تتكلّم بعده أبداً.
و الى اللقاء فى الجزء ( الرابع )
و دمتم سالمين و برضا من رب العالمين
و لكم جميعا فائق احترامى و تقديرى
أخوكم فى الله
alic