من بين العديد من الباحثين الغربيين الذين كتبوا عن سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يبدو ليوبولد فايس ( محمد أسد ) أكثرهم اهتماماً واقتراباً من جانب حيوي من أكثر جوانبها أهمية، ذلك هو " السنة ": ما الذي تعنيه، وما مكانها في خارطة التشريع الإسلامي، ومدى التوثيق الذي حظيت به، وما هي طبيعة التعامل التي يجب أن تنظم العلاقة بينها وبين المسلم، وردود الأفعال التي تمخّضت عن هذا التعامل عبر التاريخ.
يعرّف "فايس" السنة بأنها: " المثال الذي أقامه لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أعماله وأقواله. إن حياته العجيبة كانت تمثيلاً حياً وتفسيراً لما جاء في القرآن الكريم، ولا يمكننا أن نتصف القرآن الكريم بأكثر من أن نتّبع الذي قد بلغ الوحي.
فهذا التعريف ـ على إيجازه ـ يكاد يلّم بسائر عناصر المصطلح المقصود، فهناك أفعال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأقواله، أي معطياته كافة على مستوى الممارسة والتعليم، وهناك التمثيل الحي لكتاب الله في واقع الحياة من خلال هذه المعطيات التي تمارس دوراً لا يقل أهمية، وهو التفسير الذي يوضّح ويفصّل ما ورد في القرآن الكريم موجزاً، مركزاً .. وهناك ـ أخيراً ـ ما تتضمنه السنة من إلزام باعتبارها القناة، أو الطريق الوحيد المفضي إلى تنفيذ أمر الله كما بلّغه الوحي الأمين، وكما تمثل في كتاب الله.
والسنة بهذا المعنى ليست مجرد حشود من المفردات السلوكية، أو مجموعة متفرقة من التعاليم والإرشادات. إنها وحدة مركبة وبرنامج عمل يتميز بالشمولية والترابط، ويوازي حياة المسلم نفسها بكل تفاصيلها ونبضاتها، بل إنه ـ بعبارة أكثر دقة ـ يتعاشق معها كما تتعاشق الروح مع الجسد البشري، مع جملته العصبية، ودمه، وخلاياه و " كما أن حياة المسلم يجب أن تقوم على التعاون التام المطلق بين ذاته الروحية وذاته الجسدية، فإن هداية النبي - صلى الله عليه وسلم- يجب أن تضمّ الحياة على أنها وحدة مركبة، أي على أنها مجموع أعمق المظاهر الخلقية والعملية والشخصية والاجتماعية، وها هو أعمق معاني السنة ".
وإذا كانت السنة على هذا الأساس، هي التعبير المتكامل عن الإسلام، يصبح العمل بها لزماً لكل مسلم يتوخى التعامل مع هذا الدين بالجدّ المطلوب، من أجل أن تتوحد المبادئ والتعاليم، بالممارسة والسلوك، ويلتقي الفكر بالحياة، ويتمكن الإسلام ـ بالتالي ـ من أن يشق طريقه متحققاً في مجرى الواقع، متقدماً بأتباعه إلى الأمام، من خلال برنامج عمل لا يكاد يغفل صغيرة ولا كبيرة. ومن هذا المنطلق يلحظ "فايس" كيف " أن العمل بسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو عمل على حفظ كيان الإسلام وعلى تقدمه، وأن ترك السنة هو انحلال الإسلام". كما أنه يجد في السنة " الهيكل الحديدي الذي قام عليه صرح الإسلام". ويتساءل: " إنك إذا أزلت هيكل بناء ما، أفيدهشك أن يتقوّض ذلك البناء كأنه بيت من ورق؟ ".
وعلى هذا المستوى، أي على مستوى الإلزام التشريعي والسلوكي والاجتماعي
للسنة، يمضي "فايس" إلى تأكيد حقيقة أن " سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- تالية
للقرآن، وهي المصدر الثاني للشرع الإسلامي وللسلوك الشخصي والاجتماعي .. إنها التفسير الوحيد لتعاليم القرآن الكريم، والوسيلة الوحيدة لاجتناب الخلاف في تأويل تلك التعاليم وتطبيقها في الحياة العملية .. إن تفكيرنا يقودنا حتماً إلى أنه ليس ثمة حكم، فيا يتعلق بالتأويل العملي لتعاليم القرآن الكريم، أفضل من الذي أوحيت إليه هذه التعاليم هدى للعالمين. إن التعبير الذي يتردّد اليوم على مسامعنا كثيراً: "لنرجع إلى القرآن الكريم، ولكن يجب ألاّ نجعل من أنفسنا أتباعاً مستعبدين للسنة، ينكشف بكل بساطة عن جهل للإسلام. إن الذين يقولون هذا القول يشبهون رجلاً يريد أن يدخل قصراً ولكنه لا يريد أن يستعمل المفتاح الأصلي الذي يستطيع به وحده أن يفتح الباب".
وذلك ـ بإيجاز ـ هو جوهر الموضوع: إن السنة هي المفتاح الأصلي الذي يمكننا من الدخول إلى عالم الإسلام، وبدونه فإننا سنظل واقفين على الأبواب، ولن تكون سائر الدعاوى التي تنادي بالتحرّر من السنة!! قادرة على أن تجعلنا مسلمين بحق.
ولكن ما مدى مصداقية السنة على مستوى التوثيق التاريخي؟؟ وهل أن ما نقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من أقوال وأفعال هي نفسها التي تحققت وقيلت في حيته بالفعل، أو قريباً منه؟ وإذا كان القرآن الكريم يحمل ـ وبشكل مطلق ـ مصداقيته كنص إلهي محفوظ، لم ولن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فما مدى حظ السنة من هذا الأمر؟ لا سيما، وأنها تحمل هذا القدر الكبير من الأهمية والإلزام في الحياة الإسلامية؟
إن "فايس" لا يجعل هذه التنازلات تفلت من بين يديه، وتبقى معلقة في الفضاء .. ونحن ـ كمسلمين نعرف جميعاً الإجابة عليها، تلك التي حرص الأجداد بسلسلة موصولة من الجهد والهمّ والمتابعة على تقديمها موثقة منقحة لأجيال المسلمين. ولكن المطلوب هو مخاطبة العقل الغربي .. العقل العلماني الذي لا يسلّم بسهولة بأمر كهذا.. ومن ثم فإن استنتاجات "فايس" بهذا الصدد تحمل قيمتها؛ لأنها تتحدث بالمفردات نفسها التي يدركها العقل، وقد يقتنع بها أيضاً.
فهو يشير مثلاً إلى" الأثر العظيم الذي تركته شخصية الرسول - صلى الله عليه
وسلم- في أولئك الرجال الذين صحبوه باعتبارها حقيقة من أبرز حقائق التاريخ الإنساني " وأنها " فوق ذلك ثابتة بالوثائق التاريخية " ويتساءل: " هل يمر في خيالنا أن أولئك الرجال الذين كانوا على استعداد لأن يضحوا بأنفسهم وما يملكون في سبيل رسول الله ، كانوا يتلاعبون بكلماته؟ ".
ويمضي "فايس" إلى القول بأن " الذين عاشوا في صحبة الرسول - صلى الله عليه
وسلم- رأوا جميعهم في أقواله وأعماله أعظم الأهمية، لا لأن شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - أثّرت فيهم فخلبت ألبابهم فقط، بل لأنهم كانوا أيضاً على اعتقاد جازم بأن ذلك كان أمراً من الله تعالى لتنظيم حياتهم حتى في أدق تفاصيلها. كل ذلك اهتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وإقتداء به. من أجل لك لم يستطيعوا أن يتناولوا الأحاديث بلا اكتراث، بل جربوا أن يتعلموها وأن يحفظوها عن ظهر قلب .. ".
وهو ، على ضوء الجهود التوثيقيّة المذهلة التي بذلها رجال الحديث في العصور التالية للصحابة والتابعين، والتي وضعت أصول منهج صارم في التوثيق والبحث العلمي، بطرح تحدّيه إزاء العقل الغربي: أن يدعم انتقاداته العاطفية لمصداقية الأحاديث النبوية بدليل علمي مقنع: " إنه على الرغم من جميع الجهود التي بذلت في سبيل تحدّي الحديث على أنه نظم ما، فإن أولئك النقاد العصريين من الشرقيين والغربيين لم يستطيعوا أن يدعموا انتقادهم العاطفي الخالص بنتائج من البحث العلمي. وأنه من الصعب أن يفعل أحد ذلك، لأن الجامعين لكتب الحديث الأولى وخصوصاً الإمامين البخاري ومسلماً، قد قاموا بكل ما في طاقة البشر عند عرض صحة كل حديث على قواعد التحديث عرضاّ أشد كثيراً من ذلك الذي يلجأ إليه المؤرخون الأوربيون عادة عند النظر في مصادر التاريخ القديم ".
ثم يخلص إلى القول بأن " رفض الأحاديث الصحيحة، جملة واحدة أو أقساماً، ليس حتى اليوم إلاّ قضية ذوق، قضية قصرت عن أن تجعل من نفسها بحثاً علمياً خالصاً من الأهواء ".
فهي ـ إن ـ الميول والأهواء تسعى لأن تقول كلمتها في واحدة من أشد مرتكزات الإسلام أهمية، حتى إذا ما أُتيح لها أن تفرض كلمتها، قدرت على هدم الإسلام نفسه، بعد أن رأينا ذلك الارتباط الصميم بين السنة وبين الدين الذي ترجمته إلى وقائع وممارسات. ولكنها لن تقدر إذ إن هناك، في الجهة الأخرى للظن والهوى: المنهج، والعلم، والنقد الجاد التي قادت العقل البشري وستقوده دوماً إلى التسليم بمصداقية سنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ).
سنكتفي بهذا القدر من الحديث عن مسألة التوثيق هذه التي أشبعت بحثاً، ولنتابع "فايس" وهو يتحدث عن طبيعة التعامل مع السنة. عن صيغ هذا التعامل التي تتأرجح بين الآلية التي لا تكاد تتمخض عن شيء وبين التمثل الذي قاد أجيالاً من المسلمين إلى أن يكونوا تعبيراً صادقاً عن كتاب الله، وإلى أن يصنعوا المستحيل بالتالي .. ففي " اللحظة التي ينحط فيها العمل بالسنة إلى عمل آلي، تفقد السنة قيمتها المثقفة فقداناً تاماً، وكذلك كان شأن المسلمين في الأعصر الأخيرة. أما الصحابة والتابعون الذين قاموا بكل مسعى لجعل كل دقيقة في حياتهم موافقة لما كان عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإنهم فعلوا ذلك مع الفهم التام بأنهم أسلموا أنفسهم إلى إرادة هادية تجعل حياتهم مطابقة لروح القرآن الكريم ".
كيف يتم ذلك التطابق الباهر بين الحياة وتعاليم الله سبحانه؟ يجيب "فايس" بأن " العمل بالسنة يجعل كل شيء في حياتنا اليومية مبنياً على الاقتداء بما فعله الرسول -صلى الله عليه وسلم - وهكذا نكون دائماً، إذا فعلنا أو تركنا ذلك، مجبرين على أن نفكر بأعمال الرسول وأقواله الماثلة لأعمالنا هذه، وعلى هذا تصبح شخصية أعظم رجل متغلغلة إلى حد بعيد في منهاج حياتنا اليومية نفسه، ويكون نفوذه الروحي قد أصبح العامل الحقيقي الذي يعتادنا طول الحياة ".
والحديث عن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقودنا إلى الحديث عن شخص رسول الله نفسه.. النبي، والقائد والمعلم.. عن علاقة المسلمين على مرّ العصور به .. عن محبتهم له .. عن عشقهم لأفعاله وكلماته .. وعن ردود الأفعال الإنسانية، وجدانية وسلوكية، تلك التي تصادت على مدار الزمن، مؤكدة أنه ما من أمة أحبّت رسولها، واقتدت به، كأمة الإسلام ، وأنه ـ أيضاً ـ ما من أمة كهذه الأمة لم تجرفها المحبة الطاغية إلى مواقع الشرك والتأليه والصنمية، وما كانت الاستثناءات بقادرة على أن تغطي على القاعدة ، أبداً .. إنه ليس هناك من رجل ، يقول "فايس" ، " مضى على وفاته أكثر من ألف وثلاثمائة سنة، قد أصاب مثل هذا الحب، ومن قبل هذا العدد من الأفئدة، مثل ذلك إلى من يرقد تحت القبة العظيمة الخضراء. ومع ذلك فإنه لم يدع يوماً إلاّ أنه بشر، ولم ينسب المسلمون إليه الألوهية قط، كما فعل الكثيرون من أتباع الأنبياء الآخرين ( عليهم السلام ) بعد وفاة نبيهم. والحق أن القرآن نفسه يزخر بالآيات التي تؤكد إنسانية محمد - صلى الله عليه وسلم - .. ولا ريب في أن من حوله لم يحبوه مثل هذا الحب إلا لأنه لم يكن سوى بشر فحسب، ولأنه عاش كما يعيش سائر الناس، يتمتع بملذات الوجود البشري ويعاني آلامه. ولقد بقي هذا الحب بعد
وفاته، وهو لا يزال حيّاً في قلوب أتباعه حتى اليوم كنشيد تعدد النغمات ".
هذا الموقف الإنساني الملتاع بالمحبة .. هذه الجلود المؤمنة التي تقشعر كلما
وجدت نفسها قبالة الرسول - صلى الله عليه وسلم-) بعقولها ووجدانها، وهو يقودها ويعلمها ويهديها .. هذه العيون التي تدمع كلها لجأت إلى نبي الله، تطلب من يده الحانية أن يكفكف بها دمع العيون ويمسح بها جرح القلب .. وما أغزرها وأعمقها في كل زمن ومكان.
هذه وتلك تحمل أهميتها القصوى ها هنا ونحن نتحدث عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- .. لأنها تعكس، بإقناع يكاد يكون كاملاً، كيف تمكن المسلمون من حماية سنة نبيهم من الضياع ، وكيف قدروا في الوقت نفسه على أن يعيشوها ويتمثلوها، بدرجة أو أخرى، فيتيحوا بذلك للإسلام نفسه أن يتحقق وأن يواصل الطريق ..
والآن وبعد مرور أربعة عشر قرناً على لحاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بالرفيق الأعلى، واستقرار جسده الشريف في المدينة فإن " وجوده الروحي لا يزال حيّاً هنا كما كان يوم ذاك .. ولقد كان من أجله وحده أن أصبحت مجموعة القرى التي كانت تُدعى في ما مضى يثرب، مدينة أحبها المسلمون حتى يومنا هذا كما لم تُحب مدنية غيرها في أي مكان آخر من العالم. وليس لها حتى اسم خاص بها. فمنذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً وهي تعرف بمدينة النبي فحسب، وطيلة أكثر من ثلاثة عشر قرناً التقت هنا سيول لا تُحصى من الحب، بحيث اكتسبت مع الأشكال والحركات نوعاً من التشابه العائلي، وجميع الفروق في المظاهر تتّحد في لحن مشترك واحد