الحمدُ لله نحمَدُه، ونستَعِينه ونستَهدِيه، ونستَغفِره ونتوبُ إليه، ونعوذُ بالله من شرور أنفُسِنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، أمَر بالتعاون والتآخِي ونهى عن التدابُر والتقاطع، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، الذي وصف المؤمنين في تماسُكهم وتعاوُنهم بالبُنيان يشدُّ بعضُه بعضًا، صلَّى الله عليه وعلى آله وصَحابته الذين أثنى الله عليهم بأنهم أشدَّاء على الكفَّار رُحماء بينهم، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعدُ:
فيا عباد الله، اتَّقوا الله - تعالى - وتعاوَنوا على ما فيه صَلاحكم وفَلاحكم في عاجلكم وآجِلكم، وتناهَوْا عمَّا في ضرركم وخسرانكم في دُنياكم وأُخراكم، تأدَّبوا بآداب الإسلام، وتخلَّقوا بأخلاق سيِّد الأنام، ومن ذلك التعاون والتكاتُف؛ يقول نبيُّنا - صلوات الله وسلامه عليه -: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان؛ يشدُّ بعضه بعضًا))[1]، وشبَّك بين أصابعه.
وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مثَل المؤمنين في تَوادِّهم وتَراحُمِهم وتَعاطُفِهم كمثَل الجسد؛ إذا اشتَكَى منه عضوٌ تَداعَى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى)).
فالمؤمن وحدَه مهما بلَغ من قوَّة وصَلابة لن يُقاوم الشرور ويصدَّ الأعداء بمُفرده، فلا بُدَّ له من مُعِين وسند يَحمِي ظهره، وقوَّة ظاهرة تُرهِب الأعداء، وقد وصف نبيُّنا - صلوات الله وسلامه عليه - بأنَّ المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا، فما أروع هذا الوصف، وما أبلغ هذا التعبير! فالجدار القائم بمفرده مهما بلغ من قوة في التأسيس وإتقان في البناء وطلي بالمواد القويَّة فإنَّه عرضة للسقوط، فالرياح تهزُّه والشاحنات المارَّة به تُحرِّكه، فهو دائمًا في اضطرابٍ وزَعزَعة لما يُصيبه من صَدمات ومُؤثِّرات، ولكنَّه إذا تماسَك مع غيره من الجدران الأخرى وأدخَل بعضها في بعض كما شبَّك نبينا - صلوات الله وسلامه عليه - بين أصابعه في وصف المؤمن للمؤمن، فإنَّه بذلك لن يَتأثَّر بما يُصِيبه من صَدمات ورياح عاصفة، فالبيت المتَّصِل بعضه ببعض كتلةٌ واحدة؛ كالجبَل الراسي لا تُحرِّكه الرّياح، بخِلاف الجدار المنفرد وحدَه.
فكذلك المؤمن ضعيفٌ بمفرده قويٌّ بإخوانه، فالمؤمنون شأنهم التعاون والتناصُح والتناصُر والتكاتُف على ما فيه مَصالحهم العامَّة والخاصَّة، فلا يكون المؤمن أنانيًّا لا يهمُّه إلا نفسه ومصلحته الخاصَّة، مُنفَردًا بقوَّته المعنوية والحسية، فإنَّه لن يقاوم المؤثِّرات والشرور المحيطة به والأعداء المتربِّصين به، فإنما يأكُل الذئب من الغنم القاصية، وشُعور المؤمنين بآلام إخوانهم له الأثَر الكبير في تماسُكهم وتكاتُفهم وبَقائهم كُتلة واحدة لا تُزَعزِعها التيَّارات والصَّدمات.
كما أخبرنا بذلك نبينا - صلوات الله وسلامه عليه - بقوله: ((مثَل المؤمنين في تَوادِّهم وتَراحُمهم كمثَل الجسد الواحد)).
فيا عباد الله:
الشرور تُحِيط بكم والأعداء يتربصون بكم، وتنافُر المؤمنين وتباعُدهم وتَناسِيهم تعاليمَ دينهم وآداب نبيِّهم جعلَهُم لُقَيمات سائغة لأعدائهم يأكُلها لقمة لقمة بعد أنْ مزَّق جسمهم ومزَّق أعضاءهم، ولو كانوا جسدًا واحدًا لما ساغ للأعداء أكله، بل لم يُفكِّروا في ذلك لتماسُكه، ولو كان فيهم صَلابة لدِينهم لعلكَهُم ولفظهم، ولكن تفرُّقهم وضعفهم أطمع الأعداء فيهم، وقلَّل من شأنهم فأصبح العدوُّ لا يحتاج إلى قوَّةٍ بغزوهم بها، بل بمجرَّد الصَّيحات والتهديد يسلمون الأمر ويخضعون للواقع.
فيا عباد الله:
اتَّقوا الله في أنفُسكم، واحذَرُوا من التشاحن والتقاطُع والتدابر والتنازُع على حطام الدنيا الفانية الذي أصبَح اليوم عامِلَ هدمٍ لقوَّة المسلمين وإيجاد الحَزازات والعَداوات بينهم.
اتَّقوا الله في أنفُسكم، وتناصَحوا فيما بينكم، تعاوَنوا على البرِّ والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.
احذَرُوا التفرُّق وأسبابه، وكُونوا مؤمنين حقًّا، جسدًا واحدًا يتألَّم بعضه لألم البعض الآخَر، وكالبنيان المرصوص المتماسِك كما وصَفَكُم بذلك نبيُّكم - صلوات الله وسلامه عليه - حتى تُعِيدُوا مجدَكم وتستردُّوا كرامتَكم.
اتَّقوا الله؛ فقد آنَ لكم أنْ ترجعوا وتُصحِّحوا أوضاعَكم وتنبذوا الخلافات بينكم وتتفقَّدوا أحوالكم، وتُصلحوا ما فسَد من أُموركم، حافِظُوا على ما فيه عزُّكم وقوَّتكم بالتمسُّك بتعاليم ربِّكم، والله يقول: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المنافقون: 8].
بارَك الله لي ولكم في القُرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وتابَ عليَّ وعليكم إنَّه هو التوَّاب الرحيم.
أقول قولي هذا وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفِروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
واعلَمُوا - رحمكم الله - أنَّ المسلمين اليومَ قد أُصيبوا بأمراض عديدة أوهنَتْهم وأقعدَتْهم عن مُقاومة أعدائهم، وصدِّ شرورهم، وما ذاك إلاَّ برُكونهم إلى الراحة والدَّعة وحب الحياة والانغماس في الملذَّات.
حتى غَزاهُم الأعداء في عقر دارهم، وشتَّت شملَهم، وأوقع الخِلافات والحَزازات بينهم، فانشَغُلوا بأنفُسهم عن عَدوِّهم المشترك، ولم يستَطِيعوا إصلاحَ ما حدث بينهم، وما ذاك إلا لبُعدهم عن تعاليم دِينهم السَّامية واشتِغالهم بالقُشور، والانهِماك في أطماع الدُّنيا، وتناسي واجب المسلم على أخيه المسلم.
وما ينبغي أنْ يكون عليه الجميع من تماسُك وتصافٍّ وترابُط.
إنَّها مُصِيبة أصابت المسلمين وأذلَّتْهم على مستوى الدول والجماعات والأفراد، ولن تستردُّوا ما فقدُوا من قوَّةٍ ومجدٍ وعزَّةٍ وكرامة إلا بالرُّجوع إلى كتاب الله وسنَّة نبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم -، والتأدُّب بآداب الإسلام، والتخلُّق بأخلاقه، فلهم في رسول الله أُسوةٌ حسنة، وقد عرَفُوا ما حصَل لأسلافهم من مجدٍ وسُؤدد، ولن يصلح آخِر هذه الأمَّة إلا بما صلح به أوَّلها.
فاتَّقوا الله يا عباد الله وارجِعوا إلى برِّكم وتمسَّكوا بهدي نبيِّكم، فلا خيرَ إلا دلَّكم عليه، ولا شرَّ إلا حذَّرَكم منه.
[1] أخرجه البخاري رقم (481) - الفتح: 1/674، وأخرجه مسلم رقم [65 - (585)].