قيام الليل - منتدى عالم الأسرة والمجتمع
logo

الملاحظات

الثقافة الاسلامية صوتيات ومرئيات إسلامية ،حملات دعوية ، أنشطة دينية.

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 02-07-2012, 08:50 PM
  #1
ابن عمر محمد
عضو مميز
تاريخ التسجيل: Nov 2011
المشاركات: 335
ابن عمر محمد غير متصل  
قيام الليل

قيام الليل

محمد فقهاء

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّد المرسلين.

وبعدُ:
فقيام الليل هو دقائق الليل الغالية، وسَمِّه - إن شئتَ- : مدرسة المُخلصين، كيف لا وهو جنَّة الله في أرضه للمؤمنين؟ الليل هو بداية الدعوات: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [المزمل: 1 - 2]، ومنه يَستمد الدُّعاة وقودَ دعوتهم.

في الليل تُسْكَب العَبَرات، وفي الليل يُتَقَرَّب إلى الله بأحسن الطاعات، الليل للمُذنبين وللذين هم لِما عند ربِّهم طامعين، فهو أنيسُ الطائعين، وأمَلُ المُذنبين، وبالليل يتمُّ لقاء المُحبِّين، الليل يَعشقه الراكعون والساجدون والذاكرون، والذين هم لربِّهم مُستغفرون، الليل فيه آيات للذين هم يَسمعون، الليل للذين هم بالخيرات مُسارعون، وهو خلوة التائبين، في الليل أقربُ ما يكون الله من عباده المؤمنين، بهذا نطَقَ سيِّد المُرسلين، وفي الليل يَغفر الله للمُسيئين، ويُعطي المحتاجين والسائلين من خزائن السموَات والأرَضين، ويُجيب المُضطرين، الليل فقط يَعرفه المُتيقِّظون، ويَغفل عنه أصحاب المُجون اللاهون، ولا يَستطيعه إلاَّ عباد الله المُخلصون، هو كَنز المُدَّخرين إلى يوم الدين، وبالليل يُحصَّل الآمانُ للخائفين، في الليل تَجري العيون، ويَتسابق فيه المُتسابقون؛ ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين: 26].

هو للذين عن النار يَبتعدون، وللجنان يتقرَّبون، قيام الليل فَقِهه سلفُنا الأوَّلون، فأين الذين هم من بعدهم للسِّباق يهرعون، وعن الدنيا وزينتها يَبتعدون، ومن الفتن لا يَقتربون، أصحاب الليل جُنوبُهم عن المَضاجع تَجافَت، وقلوبهم عن مطامع الدنيا تناءَت، وهِمَمهم عن سفاسف الأمور ارْتَفَعت، تَراهم باكين مُخبتين.

هذا هو الليل، أمَّا عن أصحاب هذا الليل وصفاتهم وأحوالهم، فهي كما قال تعالى في سورة الذاريات، وغيرها من السور والآيات، مُبَيِّنًا سببَ دخولهم الجنات، فقال - عزَّ شأنه -: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 16 - 18].

فنالُوا بذلك جنات وعيونًا، وما كلُّ هذا إلاَّ لأنهم باتُوا لربِّهم سُجَّدًا يتضرَّعون، فالليل هو من سمات الصالحين؛ قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((عليكم بقيام الليل؛ فإنه دَأْبُ الصالحين قبلكم، وقُربة إلى ربِّكم، ومكفرة للسيِّئات، ومَنهاةٌ عن الإثم))؛ أخرَجه الحاكم وصححه، ووافَقه الذهبي.

لَوَ انَّكَ أَبْصَرْتَ أَهْلَ الْهَوَى *** إِذَا غَارَتِ الأَنْجُمُ الطُّلَّعُ
فَهَذَا يَنُوحُ عَلَى ذَنْبِهِ ***وَهَذَا يُصَلِّي وَذَا يَرْكَعُ

أصحاب الليل وصَفهم الله بأحسن الأوصاف والسِّمات؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 15 - 17].

ووصَفهم في سورة الفرقان، فقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ﴾ [الفرقان: 64 - 66].

فِتْيَةٌ يُعْرَفُ التَّخَشُّعُ فِيهِمْ *** كُلُّهُمْ أَحْكَمَ الْقُرَانَ غُلامَا
قَدْ بَرَى جِلْدَهُ التَّهَجُّدُ حَتَّى ***عَادَ جِلْدًا مُصَفَّرًا وَعِظَامَا
تَتَجَافَى عَنِ الفِرَاشِ مِنَ الْخَوْ *** فِ إِذَا الْجَاهِلُونَ بَاتُوا نِيَامَا
بِأَنِينٍ وَعَبْرَةٍ وَنَحِيبٍ *** وَيَظَلُّونَ بِالنَّهَارِ صِيَامَا
يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لاَ رَيْبَ فِيهِ *** وَيَبِيتُونَ سُجَّدًا وَقِيَامَا

قال تعالى: ﴿ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴾ [آل عمران: 113].

إنَّ كلَّ هذه النعوت والأوصاف التي استحقُّوها، ما كانت لهم إلاَّ من بعد مَجيئهم بأفضل الأعمال بعد الفرائض، فهم كانوا قليلاً من الليل ما يَهجعون، وباتوا لربِّهم يتضرَّعون، وبالأسحار يَستغفرون، الخوف أقضَّ مَضاجعَهم، ورجاؤُهم بالله أتعبَ أقدامهم، فهم كما وصَفهم ابن القيِّم في قصيدته:

الْقَانِتُونَ الْمُخْبِتُونَ لِرَبِّهِمْ *** النَّاطِقُونَ بِأَصْدَقِ الأَقْوَالِ
يُحْيُونَ لَيْلَهُمُ بِطَاعَةِ رَبِّهِمْ *** بِتِلاَوَةٍ وَتَضَرُّعٍ وَسُؤَالِ
وَعُيُونُهُمْ تَجْرِي بِفَيْضِ دُمُوعِهِمْ *** مِثْلَ انْهِمَالِ الْوَابِلِ الْهَطَّالِ
فِي اللَّيْلِ رُهْبَانٌ وَعِنْدَ جِهَادِهِمْ *** لِعَدُوِّهِمْ مِنْ أَشْجَعِ الأَبْطَالِ
وَإِذَا بَدَا عَلَمُ الرِّهَانِ رَأَيْتَهُمْ *** يَتَسَابَقُونَ بِصَالِحِ الأَعْمَالِ
بِوُجُوهِهِمْ أَثَرُ السُّجُودِ لِرَبِّهِمْ ***وَبِهَا أَشِعَّةُ نُورِهِ الْمُتَلالِي
وَلَقَدْ أَبَانَ لَكَ الْكِتَابُ صِفَاتِهِمْ *** فِي سُورَةِ الْفَتْحِ الْمُبِينِ الْعَالِي
وَبِرَابِعِ السِّبْعِ الطِّوَالِ صِفَاتُهُمْ *** قَوْمٌ يُحِبُّهُمُ ذَوُو إِدْلالِ
وَبَرَاءَةٌ وَالْحَشْرُ فِيهَا وَصْفُهُمْ *** وَبِهَلْ أَتَى وَبِسُورَةِ الأَنْفَالِ

وقول آخر:

يَا حُسْنَهُمْ وَاللَّيْلُ قَدْ جَنَّهُمُ *** وَنُورُهُمْ يَفُوقُ نُورَ الأَنْجُمِ
تَرَنَّمُوا بِالذِّكْرِ فِي لَيْلِهِمُ *** فَعَيْشُهُمْ قَدْ طَابَ بِالتَّرَنُّمِ
قُلُوبُهُمْ لِلذِّكْرِ قَدْ تَفَرَّغَتْ *** دُمُوعُهُمْ كَلُؤْلُؤٍ مُنْتَظِمِ
أَسْحَارُهُمْ بِهِمْ لَهُمْ قَدْ أَشْرَقَتْ *** وَخِلَعُ الْغُفْرَانِ خَيْرُ الْقِسَمِ

فضل القيام:
هذه العبادة هي قُربة مُعظَّمة، حثَّت عليها نصوص الكتاب والسُّنة، ورُغِّب فيها وعُظِّم من شأْنها، وأُجْزِل في ثوابها؛ ثبَت في صحيح الإمام مسلم عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((أفضلُ الصلاة بعد المكتوبة صلاةُ الليل)).

وما فُضِّلت صلاةُ الليل على غيرها من العبادات بعد الفرائض، إلاَّ لشرفها ولشَرف وقْتها، فأقرب ما يكون الله من عباده في الليل؛ قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: إنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يَنزل ربُّنا - تبارَك وتعالى - كلَّ ليلةٍ إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثُلُث الليل الآخر، فيقول: مَن يدعوني فأستَجِيب له، مَن يَسألني فأُعطيه، مَن يَستغفرني فأَغفِر له)).

وهو أيضًا وصيَّة سيِّد المُرسلين؛ قال: ((عليكم بقيام الليل؛ فإنه دَأْبُ الصالحين قبلكم، وقُربة لكم إلى ربِّكم، ومكْفرة للسيِّئات، ومَنهاةٌ عن الإثم)).

يَا رِجَالَ اللَّيْلِ جِدُّوُا *** رُبَّ دَاعٍ لاَ يُرَدُّ
مَا يَقُومُ اللَّيْلَ إِلاَّ *** مَنْ لَهُ عَزْمٌ وَجِدُّ
لَيْسَ شَيءٌ كَصَلاَةِ الْ *** لَيْلِ لِلْقَبْرِ يُعَدُّ

قيام الليل أهله من السابقين إلى الجِنان بغير حسابٍ؛ جاء في الحديث الذي أخرَجه أحمد والترمذي: ((إنَّ الملأ يَختصمون في الدرجات والكفَّارات))، وفيه: ((إنَّ الدرجات: إطعامُ الطعام، وإفشاءُ السلام، والصلاةُ بالليل والناس نِيامٌ))؛ صحَّحه الألباني في صحيح سُنن الترمذي (2580).

ومن فضائل الليل أيضًا أنه سببٌ في محبَّة الله لعبده؛ فعن أبي الدرداء عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ثلاثة يحبُّهم الله، ويَضحك إليهم، ويَستبشر بهم))، ذكَر منهم: ((الذي له امرأة حَسناء وفراشٌ حسنٌ، فيقوم من الليل، فيقول الله: يَذَر شَهوته، فيَذكرني ولو شاء رَقَد، والذي إذا كان في سفرٍ وكان معه رَكْبٌ، فسَهِروا ثم هجَعوا، فقام من السَّحر في ضرَّاءَ وسرَّاءَ))؛ السلسلة الصحيحة؛ للألباني (3478).

وفي مسند إمام أهل السُّنة عن ابن مسعود عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((عَجِبَ ربُّنا من رجلٍ ثار عن وِطَائه ولِحافه من بين أهله وحِبِّه إلى صلاته، فيقول ربُّنا - تبارك وتعالى -: يا ملائكتي، انظُروا إلى عبدي ثارَ من فراشه ووِطَائه من بين أهله وحَبِّه إلى الصلاة؛ رغبةً فيما عندي، وشفَقةً مما عندي))؛ حديث حسن في صحيح الترغيب والترهيب؛ للألباني (630).

والقيام فيه مَنهاةٌ عن الإثم؛ أخرَج الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قيل له: إنَّ فلانًا يُصلي من الليل، فإذا أصبَح سَرَق؟ فقال: ((إنَّه سيَنهاه ما تقول))، (2 / 447).

وقيام الليل من أعظم ما يُكفِّر الذنوب؛ كما قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لمعاذ بن جبل: ((وقيام العبد في جَوْف الليل، يُكفِّر الخطيئة))، ثم تلا: ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [السجدة: 16]؛ صحَّحه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2866).

وقال أيضًا - عليه الصلاة والسلام - مُوصيًا بصلاة الليل، وذلك عندما قَدِم إلى المدينة: ((يا أيُّها الناس، أطْعِموا الطعام، وأفْشُوا السلام، وصِلُوا الأرحام، وصلُّوا بالليل والناس نيامٌ - تَدْخلوا الجنة بسلام))؛ السلسلة الصحيحة؛ للألباني (569).

ذكَر صاحبُ كتاب "لطائف المعارف" عن ابن أبي الدنيا سببَ أفضليَّة صلاة الليل، فقال: "لأنها أبلغُ في الإسرار، وأقرب إلى الإخلاص".

ويَكفي في فضْله أنه اقتداءٌ بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [الأحزاب: 21].

وعن عائشةَ أُمِّ المؤمنين أيضًا - تُؤَكِّد ذلك رضي الله عنها - أنَّها قالت لرجلٍ: "لا تَدَع قيامَ الليل؛ فإنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان لا يَدَعه، وكان إذا مَرِض - أو قالت: كَسِل - صلَّى قاعدًا"؛ صحَّحه الألباني في صحيح سُنن أبي داود (1159).

هذا هو فضْلها، أمَّا عن أجْرها وما أعدَّه الله لأصحابها، فقد أعدَّ الله لأصحاب القيام ما لا عين رأَتْ، ولا أُذن سَمِعت، ولا خطَر على قلب بشرٍ؛ جاء في المسند عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ في الجنة غُرفًا، يُرى ظاهرُها من باطنها، وباطنُها من ظاهرها، أعدَّها الله لِمَن ألانَ الكلام، وأطْعَم الطعام، وتابَع الصيام، وصلَّى بالليل والناس نيامٌ))، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((قال الله - عزَّ وجلَّ -: أعْدَدتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رَأَتْ، ولا أُذن سَمِعت، ولا خطَرَ على قلب بشرٍ))، قال أبو هريرة: اقْرَؤوا إن شِئْتُم: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 17].

ومن فوائدها - أي: صلاة الليل - أنَّها من الأمور التي تُعين العبدَ على دينه وتُثَبِّته عليه، فهي التي تُثَبِّت الإيمان في قلوب المؤمنين، وتُعين الدُّعاة على تبليغ هذا الدين؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [المزمل: 1 - 2].

والسبب في ذلك: ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴾ [المزمل: 5].

لهذا كانت ناشئة الليل: ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴾ [المزمل: 6].

وصلاةُ الليل هي سببٌ للوقاية من الفِتَن التي لا يَنجو منها إلاَّ عابدٌ؛ فقيام الليل عِصمة المؤمنين، وعندي على هذا القول دليلٌ؛ ففي صحيح البخاري عن أُمِّ سَلَمَة - رضي الله عنها - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - استَيْقَظ ليلةً، فقال: ((سبحان الله، ماذا أُنْزِل الليلة من الفتنة؟ ماذا أُنْزِل الليلة من الخزائن؟ مَن يُوقِظ صواحبَ الحُجُرات؟)).

ففي هذا إشارة إلى أنَّ صلاة الليل سببٌ للوقاية من الفتن.

ووقتُ الليل أحرى أن يكون وقتًا لإجابة الدعاء - وقد مضَت الأحاديث على ذلك فيما سبَق، فلا داعي لتَكرارها - ولا سيَّما في الثُّلُث الأخير.

وصلاة الليل وسيلة مُعينة على تَثبيت القرآن، فبالقيام يَثبُت حِفْظُه، ومَن غَرِق في نومه، نَسِيَه، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وإذا قام صاحبُ القرآن، فقرَأه بالليل والنهار، ذكَره، وإن لَم يَقُم به، نَسِيَه)).

نِعْمَ العبدُ أنتَ لو قُمْتَ:
أخرَج البخاري في صحيحه (1121)، ومسلم في صحيحه (2479) أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((نِعْمَ الرجل - يعني: عبدالله بن عمر - لو كان يُصلي من الليل))، فكان عبدالله لا ينامُ بعد ذلك من الليل إلاَّ قليلاً.

احْذَر أن تكون كفُلانٍ:
أخرَج البخاري في صحيحه (1152)، ومسلم أيضًا في صحيحه (1159) أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال لعبدالله بن عمرو: ((لا تَكُن مثلَ فلانٍ، كان يقوم الليل، فترَك قيامَ الليل)).

واحْذَر أن تكون كهذا:
قيل للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: إنَّ فلانًا نام حتى أصبَح؟ فقال: ((بالَ الشيطان في أُذنه))؛ البخاري (1144).

في قَصصهم عِبْرة:
ذكَر صاحبُ كتاب "لطائف المعارف" عددًا من القَصص التي نَسْتَشِفُّ منها العِبرة:

1- كان بعضُ العلماء يقوم السَّحر، فنام عن ذلك لياليَ، فرأى في منامه رجلين وقَفا عليه، وقال أحدها للآخر: هذا كان من المُستغفرين بالأسحار، فترَك ذلك، يا مَن كان له قلبٌ فانْقَلَب، يا مَن كان له وقتٌ مع الله فذهَب، قيام السَّحر يَستوحش لكَ، صيام النهار يَسأل عنك، ليالي الوِصال تُعاتبك على الهَجْر.

تَغَيَّرْتُمُ عَنَّا بِصُحْبَةِ غَيْرِنَا *** وَأَظْهَرْتُمُ الهِجْرَانَ مَا هَكَذَا كُنَّا
وَأَقْسَمْتُمُ أَلاَّ تَحُولُوا عَنِ الْهَوَى *** فَحُلْتُمْ عَنِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَمَا حُلْنَا
لَيَاليَ كُنَّا نَشْتَفِي مِنْ وِصَالِكُمْ *** فَقَلْبِي إِلَى تِلْكَ اللَّيَالِي قَدْ حَنَّا

2- وكان آخرُ يقوم الليل، فنام ليلةً، فأتاه في منامه آتٍ، فقال له: ما لكَ قصَّرت في الخطبة؟ أمَا عَلِمتَ أنَّ المُتهجِّد إذا قام إلى تَهجُّده، قالت الملائكة: قام الخاطب إلى خطبته.

3- وهذا آخرُ رأى حَوْراء في نومه، فقال لها: زوِّجيني نفسَك، قالت: اخْطُبني إلى ربِّي، وأمْهِرني، قال: وما مَهْرُكِ؟ قالت: طولُ التهجُّد.

4- وهذا أبو سليمان الدَّاراني، نامَ فأيْقَظَتْه حَوراء، وقالت: يا أبا سليمان، تَنام وأنا أُرَبَّى لك في الخدور من خمسمائة عام؟!

5- واشْترى بعضُهم من الله حَوراء بصَداق ثلاثين خَتْمة، فنام ليلةً قبل أن يُكمِل الثلاثين خَتْمة، فرآها في منامه تقول له:

أَتَخْطُبُ مِثْلِي وَعَنِّي تَنَامُ *** وَنَوْمُ الْمُحِبِّينَ عَنِّي حَرَامُ
لأَنَّا خُلِقْنَا لِكُلِّ امْرِئٍ *** كَثِيرِ الصَّلاَةِ بَرَاهُ الصِّيَامُ

6- كانت امْرأةُ حبيبٍ العَجمي تُوقظه في الليل، وتقول: ذهَب الليل وبين أيدينا طريقٌ بعيد، وزادُنا قليلٌ، وقوافلُ الصالحين قد سارَت قُدَّامنا، ونحن قد بَقِينا.

يَا رَاقِدَ اللَّيْلِ كَمْ تَرْقُدُ *** قُمْ يَا حَبِيبِي قَدْ دَنَا الْمَوْعِدُ
وَخُذْ مِنَ اللَّيْلِ وَأَوْقَاتِهِ *** وِرْدًا إِذَا مَا هَجَعَ الرُّقَّدُ
مَنْ نَامَ حَتَّى يَقْضِي لَيْلَهُ ***لَمْ يَبْلُغِ الْمَنْزِلَ أَوْ يَجْهَدُ
قَلْ لأُوِلِي الأَلْبَابِ أَهْلِ التُّقَى: *** قَنْطَرَةُ الْعَرْضِ لَكُمْ مَوْعِدُ

هذه أحوال السلف، فما هي أحوال مَن خلَف؟!
كان الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقوم الليل؛ حتى تتفطَّر قَدَماه.

كان الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا يَدَع القيام مَهْما اشتدَّ به المرضُ.

قال الحسن: كان الرجل يكون عنده زُوَّاره، فيقوم من الليل، ولا يَعلم به زُوَّاره.

كان محمد بن واسع يُصَلِّي في طريق مكَّةَ في مَحْمله، ويَأْمر حَادِيَه أن يَرفعَ صوته؛ ليَشغَل الناس عنه.

قال علي بن بكار: منذ أربعين سنة ما أحْزَنني إلاَّ طلوع الفجر.

كان عبدالعزيز بن أبي روَّاد يُفرَش له الفراش، فيَضع يدَه عليه، ويقول: ما ألْيَنَك! ولكنَّ فراش الجنة ألْيَنُ منك، ثم يقوم إلى صلاته، فلا يَزال يُصلي حتى الفجر.

إضاءَة:
بالقيام يكون لك خبيئة من العمل الصالح؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن استطاع منكم أن يكون له خبيئة مِن عملٍ صالح، فليَفعل))؛ صحيح الجامع (6018).

شارِك الأهل والأصحاب:
عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((رَحِم الله رجلاً قام من الليل، فصلَّى وأيْقَظ امْرَأته، فإن أبَت، نضَح في وجهها الماء، ورَحِم الله امرأةً قامَت من الليل، فصلَّت وأيْقَظَت زوجَها، فإن أبى، نضَحَت في وجهه الماء))؛ رواه أحمد.

كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَطرق الباب على فاطمة وعليٍّ، ويقول لهما: ((ألاَ تُصَلِّيان؟)).

وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يُصَلِّي من الليل ما شاء، حتى إذا كان نِصف الليل، أيْقَظ أهلَه للصلاة، ثم يقول لهم: "الصلاةَ، الصلاة".

الوسائل التي تُعين على قيام الليل:
بعد ذِكر هذا الكم من فضائل القيام وفوائده، وما أعدَّه الله للقائمين، وبعد معرفة قَصص السابقين من الأوَّلين - نُذَكِّر ببعض الوسائل التي تُعين العبدَ على القيام، على سبيل الذِّكر لا على سبيل الجمْع والاستقصاء، ومن هذه الوسائل المُعينة على القيام:

1- الإخلاص لله تعالى، فهو أهمُّ وسيلة للقيام، وبدونه لن يُوفَّق العبد للقيام، ودليل الإخلاص هو المُواظبة عليه، وهذا الأمر يُحتاج إلى المُجاهدة؛ لهذا لا يَستطيعه إلاَّ عبادُ الله المُخلصون؛ قال تعالى على لسان الشيطان الرجيم:﴿ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ص: 82 - 83].

2- بعد الإخلاص اسْتَعِن بالله؛ فالاستعانة بالله سببٌ لتوفيق الله تعالى؛ وهذا لقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((وإذا اسْتَعَنتَ، فاسْتَعِن بالله)).

3- التوكُّل على الله، وعدم الاتِّكال على النفس، فالقيام من توفيق الله تعالى ومن مِنَحه لعباده؛ لهذا لا بدَّ أن يكون التوكُّل عليه وحْده، فمَن توكَّل على الله وُفِّق، ومَن توكَّل على نفسه خُذِل؛ قال ابن القيِّم في كتابه "مدارج السالكين بين منازل إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين": "مَن تفكَّر في التوفيق والخِذلان، وجَد أنه محتاجٌ إلى توفيق ربِّه في كلِّ نفَسٍ وكلِّ لحظة وطرْفة عينٍ، وأن إيمانه وتوحيده بيده تعالى، ولو تخلَّى عنه طَرْفة عينٍ، لثُلَّ عرشُ توحيده، ولخرَّت سماءُ إيمانه على الأرض، فحينئذٍ يَسأل الله توفيقَه مسألةَ المُضطرِّ، ويعوذ بالله من خِذلانه عياذَ المَلهوف، ويُلقي بنفسه بين يديه طريحًا ببابه، مُستسلمًا له، ناكسَ الرأس بين يديه، خاضعًا ذليلاً مُستكينًا، لا يَملِك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نُشورًا".

فاللهمَّ لا تَخْذُلنا، ولا تَكِلنا إلى أنفسنا طَرْفةَ عينٍ.

4- إيجاد النيَّة الصادقة، وعَزْم القلب على القيام، ونتيجة هذا العزم والدليل الصادق على صِدق النيَّة هو إعداد العُدة؛ لتثبت صِدْق الإرادة؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ﴾ [التوبة: 46].

يَا رِجَالَ اللَّيْلِ جِدُّوا *** رُبَّ دَاعٍ لاَ يُرَدُّ
مَا يَقُومُ اللَّيْلَ إِلاَّ *** مَنْ لَهُ عَزْمٌ وَجِدُّ

5 - الدعاء:
تعوَّد طَرْقَ الباب، فمَن تعوَّد طرْق الباب، يُوشك أن يُفتَح له، ولا تَيْئَس إن تأخرالجواب؛ قال ابن القيِّم في كتابه "الفوائد": "لا تَسْأَم الوقوف على الباب ولو طُرِدتَ، ولا تَقطع الاعتذار ولو رُدِدْتَ، فإن فُتِح الباب للمَقبولين دونك، فاهْجم هجومَ الكذَّابين، وادْخُل دخول الطفيليَّة، وابْسُط كفَّ ﴿ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ﴾ [يوسف: 88]".

6- ذَكِّر نفسَك بفضْل القيام، وبما أعدَّه الله للقائمين، فهذه الوسيلة تَرفع الهِمَم.

7- الخوف لله هيبةٌ، ومن الذنوب وما صنَعنا، ومن غضب الجبَّار وما اقْتَرَفنا، والخوف من عدم الحصول على رحمة الواحد المنَّان، والخوف من الخِذلان، ومن عدم قَبول الأعمال، ومما كَسَبت أيدينا، ومن تقصيرنا وعواقب أفعالنا، فالخوف هو الذي أقضَّ مَضاجع النائمين، وجعَلهم في زُمرة القائمين، فهذا هو العلاجلِمَن لَم تَنفعه الأحاديث الواردة في جزاء القائمين وفضْلهم؛ ولهذا عليه بِسياط الواعظين.

8- اعْرِف قَدْرَك، وتفكَّر في قدْر حاجتك لربِّك.

9- اتْرُك الذنوب وتُبْ لله منها؛ سُئِل ابن مسعود، فقيل له: ما نستطيع قيامَ الليل؟ قال: "أبْعَدتْكم ذنوبُكم"، والحسن البصري يقول: "إنَّ العبد ليُذنب الذنب، فيُحرَم به قيامَ الليل"؛ لهذا اكْسِر قيودَك، وقُمْ.

10- أحِبَّ الله، فمَن أحبَّ الله حقيقةً، قام له وناجاه، فإن لله علينا حقًّا معلومًا، وهو أن نكون له من الشاكرين.

11- أن تَنام كما كان رسولُك - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَنام، فمِن سُنَّته أنه كان ينام على طهارةٍ؛ ((إذا أَتَيتَ مَضجعك، فتوضَّأ وضوءَك للصلاة))، ويَنام على شِقِّه الأيمن؛ ((ثم اضْطَجِع على شِقِّك الأيمن))، ولا تَنس أذكار النوم، واحْرِص على النوم مُبكِّرًا.

12- لا تُكثر من الأكل، خصوصًا قبل النوم؛ ذكر ابن مُفلح الحنبلي في كتابه "الآداب الشرعيَّة والمنح المرعية" أنَّ عليًّا - رضي الله عنه - قال: "المَعدة حوض البَدن، والعروق واردة عليها وصادرة عنها، فإذا صحَّت صدَرَت العروق عنها بالصحة، وإذا سَقِمت صدَرَت العروق بالسقم".

والفُضيل بن عِياض قال: "ثنتان تُقَسِّيان القلب: كثرة الكلام، وكثرة الأكل"، قلت: وخير الهدي هدْي محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((ما ملأَ آدمي وعاءً شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدمَ أكلات يُقِمْنَ صُلبه، فإن كان لا مَحالة، فثُلُثٌ لطعامه، وثُلُث لشرابه، وثُلُث لنفَسه))؛ صحيح الجامع؛ للألباني (5550).

13- تعاهَد مع غيرك للقيام، فهذا أدعى للاستمرار والمواظبة، ولا سيَّما في بداية الطريق.

14- اتَّخِذ لك مُنَبِّهًا أو أكثر إن لَزِم الأمر، وهذا من باب الأخْذ بالأسباب، فبالأخذ بالأسباب نكون على ربِّنا متوكِّلين، وبهذا نتميَّز عن المُتواكلين.

كفانا كلامًا الآن، فقد حان وقتُ العمل.

بَادِرِ الْفُرْصَةَ وَاحْذَرْ فَوْتَهَا *** فَبُلُوغُ الْعِزِّ فِي نَيْلِ الْفُرَصْ
فَابْتَدِرْ مَسْعَاكَ وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ *** بَادَرَ الصَّيْدَ مَعَ الْفَجْرِ قَنَصْ


شبكة الألوكة
رد مع اقتباس
قديم 02-07-2012, 11:11 PM
  #2
ابو عقيل الهاشمي
عضو جديد
تاريخ التسجيل: Jun 2011
المشاركات: 3,663
ابو عقيل الهاشمي غير متصل  
رد : قيام الليل

اهـ من قيام الليل .. في هالزمن مايقومـه الا قليل ..
ومايستفيد من هالخير الكثير الا قليل ..

والله ان الانسان المميز بهالزمن والي ربي موسعها عليه من مال وابناء وراحة بال وسعاده ..
تأكد انه لابد وان له نصيب من قيام الليل
رد مع اقتباس
قديم 03-07-2012, 09:45 PM
  #3
أعماق
كبار شخصيات المنتدى
تاريخ التسجيل: Feb 2011
المشاركات: 3,859
أعماق غير متصل  
رد : قيام الليل

سبحان الله ..
شهرالخيرات مقبل اسال الله ان يجعلنا ممن يقومون ليله ..
جزاك الله خير على مواضيعك الطيبه ..
__________________
اللهم أجمعني مع أحبتي في الفردوس الأعلى من الجنة ،،


[IMG]http://im67.***********/mg87DX.gif[/IMG]

[img]http://im81.***********/aTanJF.gif[/img]
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:39 PM.


images