●فن تعامل الرسول عليه الصلاة والسلام مع أصحابه الكرام●
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لانبي بعده وعلى آله أجمعين ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين .
يقول الله عزوجل في محكم تنزيله ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الاخر وذكر الله كثيرا ) [ الأحزاب : 21 ] .
فمن هذا المنطلق كان لزاماً علينا أن نقتفي أثر رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام ونستن بسنته ونهتدي بهديه ونتعلمَ في مدرسته الأخلاقية التي ليست لها مرحلة تنتهي عندها وإنما تفنى الأعمار ونحن لم نرتوي من ينبوعها الصافي ولم نشبع منها ومن أريج عِطرها ، لكن نسعى سعياً حثيثاً أن نكون من أتباعه وممن يقتدي به وممن يتخلق بخلقه الكريم صلوات ربي وسلامه عليه سلاماً دائماً إلى يوم الدين .
لقد كان عليه الصلاة والسلام قرآناً يمشي على الأرض يتمثل اياته ويتخلق بأخلاقه ، يكفيه شرفاً انه نالَ تزكيةً ليست كتزكية البشر ، تزكيةٌ من ربِ البشرِ جلَّ وعلا وكفى بذلك .
قد تكون تزكيةُ البشر ناقصة ، أو فيها مبالغة ، أو تتغير وتتبدل مع تكشف الأحوال وتغير الأمور ، أما تزكيةُ ربِ العالمين جلَّ وعلا فهي التزكيةُ المطلقة ، لأنه جلَّ وعلا يعلم ماكان وماسيكون وكيف سيكون ، وهو الخالق ( ألا يعلمُ من خلقَ وهو اللطيفُ الخبير ) [ الملك : 14 ] .
فالله جلّ وعلا زكى نبيه الكريم فقال في محكم كتابه ( وإنكَ لعلى خلقٌ عظيم ) [ القلم : 4 ] ، وهل وجدتم خُلقاً أعظم من خُلق نبي الله محمد بن عبدالله صلَّ الله عليه وسلم تسليماً كثيرا .
سأتحدث هنا في هذا الصرح المبارك عن جانب من جوانب حياة المصطفى عليه الصلاة والسلام وشخصيته ، ألا وهو عن كيفية تعامله صلَّ الله عليه وسلم مع أصحابه الكرام .
على ماذا بُنيت هذه المعاملة ؟؟
وكيف كانَ يتعامل مع أخطائهم وخصوصاً عند وقوعهم في الزلل ؟؟
فما أحوجنا وبخاصةٍ نحنُ المربين والأباء والأمهات لأني أظن ان الأغلبية في هذا المنتدى متزوجون والبعض رزقهم الله الأبناء والبنات والذرية الصالحة بهبةٍ منه جل شأنه وعلت مكانته .
أقول ما أحوجنا ان ننطلق في تربيتنا لمن ولانا الله أمره من خلال هذا المنهج النبوي ؛ فإنه به تصلح النفوس وتستقيم به أمور دنيانا وآخرتنا .
كانَ من أعظم أخلاقه عليه الصلاة والسلام العفو والمسامحة لمن أخطأ عليه من أصحابه ، وقد أخطأ عليه بعض أصحابه قبلَ أن يدخلوا في الإسلام ، فلما أسلموا جاؤو إليه صلّ الله عليه وسلم وكانوا يظنون أو يظن بعضهم أنه سيعاقبهم أو على أقل الأحوال أنه سيُعاتبهم ، ولكن لم يكن هذا خلقُهُ عليه الصلاة والسلام .
كلنا يعلم ذلك الموقف التاريخي العظيم حينما فتحَ النبي صلَّ الله عليه وسلم مكة ، وجاءته قريش ؛ جاؤوهُ منكسي الرؤوس أذلاء وهم يستحضرون ماضيهم ، الماضي المترع بالأذى والإهانة والضرب والبصاق في وجهه الشريف صلوات الله وسلامه عليه .
من منا ينسى حين قام النبي صلَّ الله عليه وسلم ينادي ويناجي ربه عند البيت الحرام فلما سجد بين يديّ الله جلَّ وعلا قام أشقى القوم فوضعَ على ظهرهِ سلا الجزور ( القذورات وبقايا الولادة ) وضعها على كتِف وعنقِ أشرف من مشى على الأرض ، لماذا ؟؟ ماجريرته ؟؟ ماذنبه ؟؟
إنه يصلي بين يديّ الله عزوجل ، ولم يستطع صلَّ الله عليه وسلم أن يرفعَ رأسه لأنه لو رفع رأسه لتسخت كلُ ملابسه ، فضل ساجداً ماشاءَ اللهُ أن يكون بهذا الوصف وبهذا الحال حتى أتت بنيته الصغيرة فاطمة رضوان الله عليها فأزالت القذى عن أبيها عليه الصلاة وأتم التسليم .
هذا مشهدٌ واحد من مشاهد الإبتلاء لنبينا صلَّ الله عليه وسلم ، وموقف من مواقف قريش المخزية .
أتت قريش بعد أن ذلوا وأعز الله نبيه صلّ الله عليه وسلم
، جاؤا إليه فلما وقفوا بين يديّ هذا العظيم ، هذا الإمام ، هذا الذي جمعَ الأخلاقَ كلها
قال : يامعشرَ قريش ؛ ماتظنونَ إني فاعلٌ بكم
هنا استحضرت قريش أخلاقَ هذا النبي الكريم صلَّ الله عليه وآله وسلم ، وعلموا أنه رحيمٌ شفيق ، فطمعوا به وقالوا : خيراً
يعني نظن خيراً ، أخٌ كريم ابن أخٍ كريم
فكان الجوابُ المذهل الذي يدل على عظمة هذه النفس ، لم يذكرهم بذلهم واعتزازه ، إنما هي ثلاثُ كلمات قالها لهم ( إذهبوا فأنتم الطلقاء ) .
هذه النفوس العظيمة التي ترتفع عن حظوظ النفس ، التي لاتحب التشفي والإنتقام ، بل هي إلى العفو والمسامحة أقرب .
ولما جاءه ابن عمه ابو سفيان بن الحارث وهو شاعرٌ من شعراء قريش ، وابن عمته عبدالله بن أبي أميه ؛ جاء الإثنين يستأذنون النبي عليه الصلاة والسلام للدخول عليه بعد فتحِ مكة ، وكانوا من أشد من أذاه بقصائد كانت تغنيها القينات في مكة في عِرض رسول الله صلَّ الله عليه وسلم فبلغ ذلك النبي الرحيم فرقَّ لهما ورحمهما وأشفق عليهما وهما من فعل به مافعلا ، لكنَّ رحمته سبقت عقوبته وانتقامه ، فأذنَ لهما بالدخول ، فلما أرادَ أن يدخُل أبا سفيان قال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو ابن عمه ؛ قال له إذا جئتَ فدخلتَ عليهِ فتعالَ من قُبالة وجهه وقل : ( تالله لقد آثركَ الله علينا وإنا كنا لخاطئين ) فإنه صلَّ الله عليه وسلم لايرضى أن يكونَ أحدٌ أحسنَ منه جواباً .
دخلَ أبو سفيان وفعل ماقال له علي رضي الله عنه فأتاه قُبالة وجهه وقال : ( تالله لقد آثركَ الله علينا وإنا كنا لخاطئين ) ، فجاءه الرد سريعاً من رسولنا صلّ الله عليه وسلم ( لاثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ) ، ارأيتم إلى هذه الأخلاق الزاكية ، لم يتردد في قَبول الإعتذار ، فما بال احدنا يحمل على إخوانه من الحقد والغل والشحناء الشيئ العظيم ، وربما جاءه معتذراً فلم يقبل ، وتوسط الوسطاء فلم يقبل ، نسأل الله العافية والسلامة .
ومن سمات المنهج النبوي في تعامله مع الصحابة رضي الله عنهم أنه كان عليه الصلاة والسلام شديد العناية بأصحابه ، شديد الحذر عليهم ، فهو يسألُ عنهم إن غابوا ، ويلاطفهم ويمازحهم إن حضروا ، ويشاركهم في شؤونهم كلِها في أفراحهم وفي أتراحهم ، في غناهم وفي فقرهم وفي كلِ شأنِهم .
ومما يدل على قربه الشديد من أصحابه أنه عليه الصلاة السلام كان يجلس معهم على الأرض وكان يأكلُ معهم على الأرض ، وكان يقول آكل كما يأكل العبد فإنما أنا عبدٌ لله فآكل كما يأكل العبد وإجلسُ كما يجلسُ العبيد .
كان أشد الناس تواضعاً، وأبعدهم عن الكبر، يمنع عن القيام له كما يقومون للملوك، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس في أصحابه كأحدهم ، وكانَ يشاركُهم ويساعدهم في شأنهم كُلِه ولايرفعُ نفسهُ عليهم .
قالت عائشة رضي الله عنها وهي أخص الناس به وأقربهم إلى قلبه : كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل بيده كما يعمل أحدكم في بيته، وكان بشراً من البشر يَفْلِي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه .
هكذا كان صلّ الله عليه وسلم ، وهكذا كانت أخلاقه مع أصحابه ، كان فيه من حسن المعشر والقرب والتحبب إلى أصحابهِ شيئاً عجيباً ، ولم يكن عليه الصلاةُ والسلام يدني أحداً لخصوصيةٍ في نسبٍ أو مال ، ويبعد من يبعد لوضاعت نسبه أو غير ذلك من الصفات الذميمة ، كلاَّ إنما كان جميعُ أصحابه يحظون منه بالتفضيل والإحترام والمحبة والإجلال .
كان هناك رجلٌ من أصحابه يُقال له زاهر ؛ وزاهرٌ هذا من أهلِ البادية ، وحديثه في مسند الإمام أحمد بن حنبل ويحدث به أنس رضي الله عنه ، كان من صفات هذا الرجل أنه كان وضيع النسب دميم الخِلقة ومع هذا كان يحظى عند النبي صلَّ الله عليه وسلم بمكانةٍ ساميةٍ عالية ، فكان عليه الصلاة والسلام يحبه ويمازحه ، وكان يشيدُ به إذا قدِمَ إلى المدينة فيقول : هذا زاهر ؛ هو باديتنا ونحن حاضروه ، يعني إذا ذهبنا إلى البادية فنحن ننزل عنده تكرمةً له ولمكانته ، وإذا جاءَ إلى المدينة فإنه ينزلُ عندنا .
وفي يومٍ من الأيام وفدَ زاهرٌ رضي الله عنه من الصحراء ببعض متاعهِ يبيعه في سوق المدينة ، فدخلَ النبي صلَّ الله عليه وسلمَ السوق فوجدَ زاهراً فرمقه ، ولم يدري زاهر بمقدم الرسول صلَّ الله عليه وسلمَ السوق فأراد عليه الصلاةٌ والسلام أن يمازحه فجاءَ من خلفه وهو لايدري ثم ضمه إلى صدره من خلف ظهر زاهر ، باغته النبي عليه الصلاةُ والسلام وقال : من يشتري العبد .. من يشتري العبد ، كأنه رقيق من الرقيق ، وهو إلى الآن لايعرف من الذي مسكه ، فكان يشير بيده ويقول وخر عني ياهذا .. أبعد عني ياهذا ، لم يكن يعلم أنه رسول الله صلَّ الله عليه وسلم ، ورسول الله يردد من يشتري العبد .. من يشتري العبد ، فلما إلتقت إذا به يرى وجه كالشمس ، يرى رسولَ ربِّ العالمين ، حبيب الله ، خيرُ من مشى على الأرض .
أيُ كرامةٍ لزاهر ، وأي فضلٍ لزاهر أن يكونَ حبيبُ الله ورسول ربِّ العالمين هو الذي يُمسِكُه ويضُمَهُ إلى صدره ، فلما علِم زاهر بهذا الشرف وحظي بهذه المكانة فلما علِم بأنه رسول الله جعلَ زاهر يرجع ظهره ليُلزقه بصدرِ رسول الله صلَّ عليه وسلم فرحاً واستبشاراً أن يكون هذا النبي العظيم هو الذي ضمه إلى صدره ، والرسول قائم يضحك يبتسم ويقول من يشتري العبد ، فيقول زاهر وهو الذي يعلم مكانته ومنزلته إذاً يارسولَ الله تجدني كاسداً لن يشتريني أحد ولن يرغب في أحد ، فقال النبي صلَّ الله عليه وسلم ولكنك عند الله لست بكاسد ، منزلتك عند الله عالية ، مقاييس الشرف ليست بالحسب ولا بالنسب ، أليس أبا لهب يصلى ناراً ذات لهب مع أن نبي الله عمه ، وبلال عبدٌ حبشي قال عنه رسول الله صلَّ عليه وسلم إني سمعتُ دف نعليك في الجنة ، فمقياس الدين هو المقياسُ الحقيقي وبه يتفاضلُ الناس .
ومما يدلُ على لطفِ رسول الله صلَّ الله عليه وسلم على أصحابه وعلى تواضعه الجم مايحدثُ به أسيدُ بن حُضَيّر رضي الله عنه وكان رجلاً فيه دُعابه ، وكان رسول الله صلَّ الله عليه وسلم يساوي صفوف الصحابة ، وكان أسيد بارزاً عن الصف ومع رسول الله عليه الصلاة والسلام عود في يده ، فأشار إليه بالعود في خاصرته وقال استقم يأُسيد اعتدل في مكانك لاتكن بارزاً عن الصف ، فقال أسيد : أوجعتني يارسول الله ، فلم يغضب عليه رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه ، ولم يقل له كيف تقول هذا لي وأنا من أنا ، إنماأحس الرسول عليه الصلاة والسلام أنه ربما يكون قد أخطأ عليه فقال له خذ يأسيد أي العود واقتص ، أي إفعل بي كما فعلت بك ، فقال أسيد ولكنك يارسول الله تلبسُ قميصاً وليس على خصري شي ، يعني أنت طعنتني في خاصرتي مباشرةً فكيف أطعنك وعليك القميص ، لابد حتى يكون قَصاصاً أن تكشف القميص عن كشحك عن خاصرتك فأفعل بكَ كما فعلت بي ، عجباً !! كيف تكون الجرأة بأسيد لتصلَ به إلى هذا المستوى ، فما كانه منه صلَّ عليه وسلم وهو الذي يخافُ الله ويخافُ أن يلحقه إثمٌ أو حقٌ من حقوق الناس ماكان منه إلا أن كشف عن خاصرته صلَّ الله عليه وسلم فقال يأسيد إقتصَ والصحابة ينظرونَ إلى هذا المشهد العجيب ، فما كان من أسيدٍ رضي الله عنه إلى أن أكب على كشحه يقبله ويلثمه ويقول إنما أردتُ هذا يارسول الله ، إنما أردت أن يمس جسدي جسدك ، إنما أردت أن اتشرف أن أُقبلَ خاصرتك يارسول الله ، ارأيتم مثل هذا الصفاء ومثل هذا النقاء .
وأخيراً هذه هي المدرسة المحمدية التي تضل السير تنقل لنا الكثير من مواقف وقصص عن فن تعامله عليه الصلاة والسلام مع أصحابه الطيبيين الطاهرين ، فمهما تحدثنا وقلنا وكتبنا فإن أخلاقه عليه الصلاة والسلام فوقَ مايصفهُا الواصفون ، ومتعة الحديث عنه لاتنتهي ولاتنقضي ؛ اسأل الله بمنه وكرمه أن يجعلنا رفقائه في الجنة ، وأن لايحرمنا من رؤياه في الفردوس الأعلى .