في رحاب الآيات:
النفس البشرية بصفة عامة تُؤثِر الشهواتِ والملذَّات، حتى وإن تسبَّب ذلك في شقائها وهلاكها، كما أنها تَفِر من التكاليف والواجبات، وإن كان ذلك السبيلَ الوحيد لتهذيبها وتزْكيتها وسعادتها؛ وما ذلك إلا لشدة جهْلها وقصور عِلمها وضَعفها.
إنه من العجيب حقًّا أن كثيرًا من الناس إذا منَعهم الطبيب مما يشتهون ويحبون بسبب مرض أصابَهم، تراهم يستجيبون ويُذعنون لتعليمات الطبيب، دون مراجعة أو اعتراضٍ، رغم شدة تعلُّقهم بما امتنعوا عنه، وفي المقابل إذا دعاهم الخالق إلى ما فيه صلاحُهم واستقامتهم، تراهم يحاولون التفلُّت من التكاليف وعدم الانقياد والتسليم لأحكام الله؛ سواء التشريعية، أو القدرية؛ لذا تأتي هذه الآية الكريمة لتَسكُب السكينة والطُّمأنينة في قلب المؤمن، وتُعلِّمه أن يردَّ كلَّ أمور حياته -ما يحب وما يكره- إلى علم الله وحِكمته.
يقول الأستاذ سيد قطب -رحمه الله- في ظلال هذه الآية: "إن القتال في سبيل الله فريضة شاقَّة، ولكنها فريضة واجبة الأداء؛ لأن فيها خيرًا كثيرًا للفرد المسلم وللجماعة المسلمة، وللبشرية كلها، وللحق والخير والصلاح.
والإسلام يحسب حساب الفطرة، فلا يُنكر مَشقة هذه الفريضة، ولا يُهوِّن من أمرها، ولا يُنكر على النفس البشرية إحساسَها الفطري بكراهيتها وثِقلها، فالإسلام لا يُماري في الفطرة، ولا يُصادمها، ولا يُحرِّم عليها المشاعر الفطرية التي ليس إلى إنكارها من سبيلٍ.
ولكنه يعالج الأمر من جانب آخر، ويُسلِّط عليه نورًا جديدًا، إنه يقرِّر أن من الفرائض ما هو شاقٌّ مرير، ولكن وراءه حِكمة تُهوِّن مشقَّته، وتُسيغ مرارته، وتُحقِّق به خيرًا مخبوءًا، قد لا يراه النظر الإنساني القصير، عندئذٍ يفتح للنفس البشرية نافذة جديدة، تُطل منها على الأمر، ويكشف لها عن زاوية أخرى غير التي تراه منها، نافذة تَهب منها ريح رخيَّة عندما تحيط الكروب بالنفس وتشقُّ عليها الأمور، إنه :من يدري؛ فلعل وراء المكروه خيرًا، ووراء المحبوب شرًّا؟
إن العليم بالغايات البعيدة، المُطلع على العواقب المستورة، هو الذي يعلم وحده؛ حيث لا يعلم الناس شيئًا من الحقيقة، وعندما تَنسِم تلك النسمة الرخيَّة على النفس البشرية، تَهون المشقَّة، وتتفتَّح منافذ الرجاء، ويَستروح القلب في الهاجرة، ويَجنح إلى الطاعة والأداء في يقينٍ وفي رضا، وهكذا يربي الإسلام الفطرة، فلا تَمَل التكليف، ولا تَجزع عند الصدمة الأولى، ولا تَخور عند المشقة البادية، ولا تَخجل وتتهاوى عند انكشاف ضَعفها أمام الشدة، ولكن تَثبُت وهي تعلم أنَّ الله يَعذِرها ويمدُّها بعونه ويُقوِّيها، وتُصمِّم على المُضي في وجه المحنة، فقد يكمُن فيها الخير بعد الضر، واليسر بعد العسر، والراحة الكبرى بعد الضنى والعناء، ولا تتهالك على ما تحب وتلتذُّ؛ فقد تكون الحسرة كامنة وراء المتعة، وقد يكون المكروه مختبئًا خلف المحبوب، وقد يكون الهلاك متربِّصًا وراء المطمع البرَّاق".
أنوار هاديات:
1- دعوة إلى الاستسلام لله في كل أمور الحياة، وخصوصًا فيما يَكره الإنسان، فالمؤمن يتعامل مع ربٍّ ودود، رحيم حكيم، عليم يعلم ما يُصلح الإنسان وما يُفسده؛ ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14].
فماذا يَضير الإنسانَ لو استسلَم؟!
2- دعوة إلى تحقيق الصبر أمام كلِّ ما يصيب الإنسانَ في هذه الحياة، فلن يتحقَّق الاستسلام والانقياد لله بدون صبرٍ؛ فالصبر هو مركب النجاة للمؤمن وهو يواجه تحديات الحياة؛ لأنه يعلم أن عِلمه محدود من كلِّ جانب، ومعلوماته بالنسبة إلى مجهولاته كقطرة في مقابل البحر، وعلى هذا الأساس يستقبل المؤمن الأوامر والأحكام الإلهيَّة، فيعتبرها كالأدوية الشافية له، ويطبِّقها بمنتهى الرضا والقَبول.
3- احرص على التأمُّل في قَصص القرآن ومواقف السيرة النبوية التي تجسَّدت خلالها هذه الآية بصورة عمليَّة؛ فهي أكبر عونٍ لك على فَهم هذه الآية وتذوُّق حلاوتها، ومن ثَمَّ تطبيقها، ومنها على سبيل المثال: قصة ولادة موسى -عليه السلام- وإلقائه في اليمِّ، ثم وصوله إلى قصر فرعون، وهذا في الظاهر يبدو شرًّا محضًا، فهل كان يُخشى عليه إلا من فرعون؟! ولكنها يد القدرة الإلهية الحكيمة، تُدبِّر أمر الكون، وتَحفظ أولياء الله بما يعجِز العقل البشري عن تصوُّره.
وكذلك موقف موسى -عليه السلام- مع العبد الصالح في سورة الكهف، وكيف استنكر عليه قيامه بثلاثة أمور ظاهرُها شرٌّ واضح، ولكنْ في طيَّاتها خير عميم.
وقصة يوسف -عليه السلام- مع الساقي، وطلبه له بأن يَذكُره عند الملك، ولكن الله العليم بالمصالح والمنافع أراد لنبيِّه أن يخرج في الوقت المناسب، بما يحقِّق له العز والتمكين.
وموقف المسلمين وكُرههم للخروج للقتال يوم بدر، ورغبتهم في الغنيمة الباردة (العير)، وموقف صُلح الحديبية، وغيرها كثير يحتاج إلى تدبُّر وتفكُّر، وكلها تنطق بهذه الحقيقة الواضحة: ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216].
وأنَّى يكون علمُ المخلوق كعلم الخالق، وعلم الناقص كعلم الكامل، وعلم القاصر كعلم اللطيف الخبير؟!
4- دعوة أخرى إلى أن يُفتِّش كلُّ واحدٍ منا في دفتر حياته؛ ليستخرج منه ما ينفعه في حاضره ومستقبله، فكل إنسان -كما يقول سيد قطب رحمه الله- في تجاربه الخاصة، يستطيع حين يتأمَّل أن يجد في حياته مكروهاتٍ كثيرةً كان من ورائها الخيرُ العميم، ولذَّاتٍ كثيرة كان من ورائها الشرُّ العظيم، وكم من مطلوب كاد الإنسان يُذهب نفسه حسرات على فوْته، ثم تبيَّن له بعد مدة أنه كان إنقاذًا من الله أن فوَّت عليه هذا المطلوب في حينه، وكم من محنة تجرَّعها الإنسان لاهثًا، يكاد يتقطَّع لفظاعتها، ثم ينظر بعد مدة، فإذا هي تُنشئ له في حياته من الخير ما لم يُنشئه الرخاء الطويل، ولولا أن أُطيل عليكم، لذكرتُ موقفًا أو أكثر في حياتي الخاصة.
5- احذَر أن تعيش في سجن اللحظة الحاضرة، فتشعر أنها سرمد، وأنها باقية، وأن ما فيها من أوضاع وأحوال سيرافقها ويُطاردها، وهذا سجن نفسي مغلق، مُفسد للأعصاب في كثير من الأحيان، وليست هذه هي الحقيقة؛ فقدرُ الله دائمًا يعمل، ودائمًا يُغير، ودائمًا يُبدل، ودائمًا يُنشئ ما لا يجول في حُسبان البشر من الأحوال والأوضاع، فرَجًا بعد ضيقٍ، وعُسرًا بعد يُسرٍ، وبَسطًا بعد قبْض، والله كل يوم هو في شأن: ﴿ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ﴾ [الطلاق: 1].
6- احرص على التأمُّل في أسماء الله الحسنى وصفاته العلا، وخاصة فيما يتعلَّق بعلم الله -عز وجل- وحِكمته، فكلما كانَ عِلمُك بالله أكبرَ، كانَ رِضاك عنه أشد، وكلما كان هناك جهلٌ بالله -عز وجل- كان مع الجهل سُخط، والإنسان حينما تُكشَف له الحقائق، وحينما يظهر له أن كل أفعال الله حكيمة ورحيمة وعادلة، وأنه لم يَرضَها في حينها، وأنه سَخِطَ على الله منها، عندئذٍ يتألَّم أشدَّ الألم؛ لذلك فالعلم وحدَه طريقُ الرضا وطريق السكينة.