الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل الحمد لله التواب الرحيم، الجواد الكريم؛ يفيض أرزاقه على خلقه، ويقبل التوبة عن عباده، نحمده على ما هدى وأولى، ونشكره على ما منح وأعطى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ﴿ فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [الزخرف: 84، 85] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان يذكر الله تعالى في كل أحيانه، وكان يتوب إليه ويستغفره كل يوم مئة مرة؛ لعلمه أن الله تعالى يحب التوبة عن عباده، ويقبلها منهم، ويثيبهم عليها، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واستقبلوا الشهر الكريم بتجديد التوبة، وترك المعصية، وتطهير القلب من الضغينة، وتفريغ النفس للطاعة؛ فإنما رمضان أيام تمر وتمضي، فيربح الطائعون، ويخسر العاصون، واعتبروا بمن فارقونا، وكانوا رمضان السالف معنا، كانوا فينا يصومون ويصلون، ثم صاروا تحت أطباق الثرى قد حيل بينهم وبين العمل الصالح، فلنعمل لذلك المصير؛ فإن الموعد قريب، وإن عذاب الله شديد ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].
أيها الناس: ربنا جل جلاله، وتبارك اسمه، وتعالى جده، أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا، ومن الناس أجمعين، ولا يحب عذاب عباده ولو اقتضت ذلك حكمته وإرادته؛ ولذا رضي لهم الإيمان والشكر وكره لهم الكفر والعصيان ﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾ [الزمر: 7] ولا يعذب المؤمنين الشاكرين؛ لأن عذابه لخلقه لا ينفعه شيئا ﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ﴾ [النساء: 147].
ولذا فإنه سبحانه يفرح بتوبة عباده، ويدعوهم إليها، ويرغبهم فيها، ويريدها منهم، ويحبها لهم ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾ [النساء: 27].
إن المؤمن يجب أن يتوقف مليا عند هذه الآية، ويتفكر فيها ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾ لماذا يريد سبحانه أن يتوب علينا؟
يريد التوبة لنا لئلا يعذبنا؛ وليجزينا على توبتنا أعظم الجزاء، ويرفعنا بها أعلى المنازل والدرجات.. إنه يريد أن يتوب علينا مع أن توبتنا لا تنفعه شيئا، وعدم توبتنا لا يضره شيئا، بل نفع ذلك وضرره عائد علينا ومع ذلك يريد سبحانه أن يتوب علينا.
يريد عز وجل التوبة منا لنجاتنا وسعادتنا وفوزنا، فهل يدعونا ربنا لشيء يريده منا، ونفعه عائد علينا ولا نمتثل أمره، ولا نخضع لمراده منا ونحن عبيده وهو ربنا، وبيده أرزاقنا وحياتنا وموتنا، وإليه مرجعنا ومصيرنا، وهو من يملك نفعنا وضرنا، وسعادتنا وشقوتنا؛ فإما سعدنا ونعمنا بتوبتنا، وإما عذبنا بصدودنا واستكبارنا.
وإرادته سبحانه أن يتوب علينا تضمنت تعليمه إيانا التوبة، وهدايتنا لطريقها، وغرسها في فطرتنا، وفتح أبوابها لنا، وترغيبنا فيها، وقبولها منا إن نحن أتينا بها؛ ولذا يقول ابن عباس رضي الله عنهما: مبدأ التوبة من الله تعالى.
كل أولئك هبات من التواب الرحيم وهبنا إياها لما أراد سبحانه أن يتوب علينا؛ فلولا وحيه سبحانه لما علمنا ما التوبة وما طريقتها، ولولا فطرته التي فطرنا عليها بالتأله له وعبوديته لاستكبرنا عن التوبة، ولولا أنه فتح أبوابها لنا ووعظنا بها حتى لانت قلوبنا لما تبنا، ثم يتوج سبحانه ذلك بقبولها عنا مهما عظم جرمنا، وكبرت جنايتنا، وتعددت آثامنا.
وكم من ملك في الدنيا يتاب إليه ويعتذر منه فما يقبل ذلك ممن جنى، وربنا سبحانه يقبلنا وهو غني عنا، ويفرح بنا، ويحب ذلك منا، فأيُّ كرم أكرمنا به عز في علاه، وتبارك في مجده، سبحانه وبحمده ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الشورى: 25].
وفي إرادته سبحانه التوبة من عباده حماية لهم من العقوبات المرتبة على الذنوب والمعاصي، ومن نقص الخيرات، ونزع البركات، ومن حلول الخوف والجوع والهم والغم وغيرها من آثار الذنوب، فهي دعوة منه سبحانه لحفظ أمن الناس ورزقهم بالتوبة؛ لأنه إذا انتهى أهل الشر عن شرهم زالت موجبات العذاب.
وفي إرادته سبحانه التوبة منا حماية للمجتمعات من الشر؛ فإن الكفر والمعاصي أعظم الشر كما أن الإيمان والطاعات أعظم الخير، فإذا تاب أهل المعاصي توقف ما يحدثونه من الشر في الناس.
ولكن للشيطان وجنده إرادة أخرى ﴿ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 27] نعم.. إن إرادتهم تتمثل في الميل عن طريق التوبة، والإصرار على الذنب، والاستكبار عن الحق.. إنهم يريدون منا الميل.. ولكنه ميل إلى أين؟
إنه ميل عن الله تعالى وعن دينه وعن صراطه المستقيم إلى الأهواء والشهوات التي تعصف بالقلوب، وتزهق النفوس، وتدمر المجتمعات، وتورد المهالك في الدنيا، والعذاب في الآخرة.
إن لأهل الشهوات طريقًا غير طريق الله تعالى، ومنهجا غير منهجه، ودينا غير دينه.. إنه دين الهوى والشهوة.. دين الانفلات والحرية البهيمية، دين الانحلال والضياع..
ولا يقنعون بميل يسير.. فذلك لا يرضيهم، وإنما يريدون ميلا عظيما تقلب فيه المفاهيم، وتنكس الفطر، وتُغير المجتمعات، وهذا ما نراه في أطروحات أهل الشهوات.. يريدون الانقلاب على السائد، ورفض المعتاد ﴿ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴾ ميلا عظيما يغير تركيبة المجتمع، ويقلبها رأسا على عقب، بحيث لو عاد إليه من فارقه منذ مدة وجيزة لا يكاد يتبينه ولا يعرف أن هذا هو مجتمعه بسبب الميل العظيم الذي حصل فيه.
ومن المعلوم أن الإنسان لما كان ذا شهوة جامحة تورده كل مورد مهلك إلا أن يقيدها بقيود الدين فإن الله تعالى خفف عنه في مواجهة طوفان الشهوات الذي يميل به كل الميل، ولا سيما أن الإنسان ضعيف كل الضعف أمام الشهوة ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28] وهذه نعمة أخرى من الله تعالى بأنه إنما شرع الشرائع للتخفيف عن الإنسان الشهواني وضبطه لئلا يطغى، ولئلا تميل به شهوته فيردى، ويتمثل التخفيف في جانبين عظيمين، هما: إباحة ما يغني عن الشهوات المحرمة، ويسد مسدها، كالنكاح ووطء الحليلة والتعدد، وإغلاق كل طريق تؤدي إلى الشهوات المحرمة، ومن ذلك: منع السفور والعري والاختلاط والخلوة بالأجنبية، ونحو ذلك؛ لأنها لو أبيحت مع منع الإنسان من المرأة الأجنبية عنه لكان في ذلك رهق عليه، ومشقة بالغة به، كمن هو جائع جدا ويوضع أمامه لذيذ الطعام ويقال له: لا تأكل. وشهوة النكاح أشد من شهوة الطعام؛ فالله تعالى علم ضعف كل من الرجل والمرأة أمام الآخر فسد كل ذريعة تجمعهما لئلا يكون في ذلك تعذيبا لهما؛ ولئلا يقعا في الميل العظيم الذي يريده الشيطان من أهل الشهوات. قال عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَلَا تَرَوْنِي لَا أَقُومُ إِلَّا رِفْدًا وَلَا آكُلُ إِلَّا مَا لُوِّقَ لِي - يَعْنِي: لُيِّنَ وَسُخِّنَ - وَقَدْ مَاتَ صَاحِبِي مُنْذُ زَمَانٍ - يَعْنِي ذَكَرُهُ - وَمَا يَسُرُّنِي أَنِّي خَلَوْتُ بِامْرَأَةٍ لَا تَحِلُّ لِي، وَأَنَّ لِي مَا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ؛ مَخَافَةَ أَنْ يَأْتِيَنِي الشَّيْطَانُ فَيُحَرِّكَهُ عَلَيَّ، إِنَّهُ لَا سَمْعَ لَهُ وَلَا بَصَرَ!
﴿ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 26 - 28] عدَّ ابن عباس رضي الله عنهما هذه الآيات الثلاث مع آيات أخرى فقال: هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت.
فلنكن - عباد الله - مع مراد الله تعالى لنا بالتوبة النصوح من الذنوب، ولنجانب مراد أهل الشهوات الذين أوبقوا أنفسهم وودوا لو أوبقوا الناس أجمعين.
بارك الله لي ولكم في القرآن...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ فإنكم تستقبلون شهر التقوى، ولا تقوى إلا بتوبة، فلنتب إلى الله تعالى قبالة هذا الشهر الكريم؛ لأن الله تعالى يريد أن يتوب علينا، ويريد منا التوبة؛ ولننال عفوه ومغفرته ورحمته وعتقه من النار، ونفوز بليلة القدر وبالدرجات العلى في الجنة، ورؤية الرب جل جلاله ورضاه وقربه، فمن نال ذلك فقد فاز فوزاً عظيماً، وحاز ملكاً كبيرًا.
أيها المسلمون: هذه الآية العظيمة التي فيها أن الله تعالى يريد التوبة من عباده، وأن أهل الشهوات لا يريدون التوبة من الناس وإنما يريدون الميل العظيم آية يجب أن يتدبرها المؤمن كل حين، ويذكر بها نفسه وأهل بيته وإخوانه المؤمنين؛ لأنها تصف الواقع الذي نعيشه بدقة متناهية، وتكشف بجلاء مراد الشهوانيين.
وبما أن رمضان شهر للتوبة عظيم، يكثر فيه التائبون والمقبلون على الله تعالى، وتتنوع فيه العبادات، وينتشر فيه الخير؛ فإن أهل السوء والشهوات لا يعجبهم ذلك أبدا، ويريدون بالناس ميلاً عظيماً؛ ولذا ينشطون في فضائياتهم بالبرامج المحرمة أكثر من غيره من الشهور، ويعدون الناس فيه بأنواع الترفيه المحرم، من مسلسلات ماجنة وصلت إلى حد عرض قصص الزنا بالمحارم عوذا بالله تعالى من ذلك، وأخرى تاريخية كتبت وعرضت باجتزاء وانتقائية لإيصال رسائل مغلوطة، وترسيخ مفاهيم منحرفة، على ما فيها من تشويه رجالات الإسلام العظام، وترفيه ساخر يستهزأ فيه بآيات الله تعالى وأحكامه التي أنزلها، وبشعائر دينه التي شرعها، ومسابقات عمادها القمار الذي حرمه الله تعالى مقرونا بالخمر، وهما من كبائر الذنوب، وحوارات يسترخص فيها دين الله تعالى، وتعرض شرائعه المحكمة للنقاش والتداول والنقد والتصويت، وكأنها مجرد آراء تقبل الصواب والخطأ وليست أحكاما محكمة أنزلها اللطيف الخبير!!
كل هذا الخبال والضياع والانحراف يعرض على الصائمين في رمضان، وتتشربه قلوبهم من حيث لا يشعرون؛ ليميل بهم أهل الشهوات المحرمة عن جادة التوبة، وليهدروا ما اكتسبوا من حسنات عظام بالصيام والقيام والصدقة والقرآن وسائر أنواع البر والإحسان.. يهدروها خلف الشاشات.
إن من يقرأ هذه الآية العظيمة ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴾ ثم يشاهد واقع الناس في رمضان يجد أن أهل التوبة والتقوى في المساجد لا يكادون يبارحونها، ويجد أن المنصرفين عن التوبة والتقوى أمام الشاشات لا يفارقونها، قد مال بهم أهل الشهوات عن رمضان ميلاً عظيماً.
إننا يا عباد الله قد نصوم غدا أو بعد غد، فهل نعي ما يريده منا ربنا جل في علاه؛ ليغفر لنا، ويتوب علينا، ويرضى عنا، وما يريده أهل الشهوات بنا وببيوتنا وأسرنا من الميل العظيم؟!
فهل نطيع خالقنا ورازقنا والمنعم علينا؟ أم نطيع أقواماً تنكبوا طريق الهداية، وركبوا الغواية، وعجزوا عن التقوى والتوبة، ويريدون من جميع الناس أن يفشلوا في التوبة كما فشلوا هم فيها، ويريدون منهم أن يركبوا مركبهم الذي يوردهم دار السعير، وقد قيل: ودت الزانية لو زنى الناس كلهم.
وقد سلسلت شياطين الجن في رمضان، فلا تخلص إلى ما كانت تخلص إليه في غير رمضان من التسلط على المؤمنين، ولكن شياطين الإنس تنشط في رمضان أكثر من غيره؛ لإفساد الشهر على المؤمنين، فحذار عباد الله من طاعة أهل الشهوات، واتباعهم فيما يريدون؛ فإنهم لا ينفعون أتباعهم إلا خبالاً وضياعاً وإغضاباً لله تعالى، ولا يوردونهم إلا موارد الهلكة والخسران، و "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ".