فإن الحق - سبحانه وتعالى - قد بعث فى كل أمة رسولاً يأمرهم بعبادة الله ويبين لهم الطريق الموصل إليه، وينهاهم عن الشرك، ويحذرهم من الطرق المؤدية إليه، ويقول لهم: ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ وقد اصطفى الله الرسل من بين خلقه ﴿ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ﴾ وصنع أنبياءه على عينه! ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾وأوحى إليهم، وعصمهم حتى بلغوا رسالات الله، وبينوا للناس ما نزل إليهم، فما من خير ينفع الناس فى دينهم ودنياهم إلا بينوه ودلوا عليه، وما من شر يضر الناس فى دينهم ودنياهم إلا حذروا منه، ونهوا عنه.
وقد جعل الله الأنبياء والمرسلين قدوة لعباده المؤمنين وأمرنا بذلك فقال: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ﴾ أى اقتدوا بهدى هؤلاء الرسل الذين هداهم الله وأقامهم على الحق قولاً وعملاً وذلك أن الإنسان - أى إنسان - لا يمكنه أن يعيش بغير قدوة! وكل إنسان يقتدي - طوعاً أو كرهاً - بغيره إما فى الخير وإما فى الشر! أو ساعة وساعة!!
والقدوة الكاملة لا تكون إلا فى الأنبياء والمرسلين.
قد يقول قائل ويسأل سائل: كيف نقتدي بالأنبياء ما دام أن الله قد أوجب ذلك علينا ؟ وما هو الطريق الذى ندرك به القدوة الكاملة ؟؟
والجواب: إننا لا يمكننا أن نقتدي بالرسل إلا إذا وقفنا على سيرتهم وسنتهم، وذلك لأن الاقتداء بهم يدور على أمور ثلاثة: الاعتقاد والأقوال والأفعال.
وعندما ننظر إلى عقيدة الرسل سنجد أنهم جميعاً على عقيدة " التوحيد " فهم جميعاً يقولون لأقوامهم: ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ وهم جميعاً قد أوحى الله إليهم بقوله: ﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾.
ولذلك فإن الذين يخالفون عقيدة التوحيد التى جاءت بها الرسل يخرجهم ذلك من الإيمان إلى الكفر، كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ﴾.
وقال لنبيه إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾.
وقد ثبت أن جملة من الأنبياء قد حجوا بيت الله الحرام، كل فى زمانه الذى بعث فيه.
ونحن نتحدث عن القدوة الحسنة ينتقل بنا الحديث إلى مواضع القدوة فإن الله قد جعل أنبياءه ورسله قدوة لنا فى كل شيء وشأن فإنهم - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - قدوة للحكام والمحكومين، وقدوة للعلماء والدعاة، والعامة والخاصة، والأغنياء والفقراء والصحيح المعافى والمريض الذى نزل به الداء.
وهم كذلك قدوة لمن رزقه الله الذرية، وقدوة لمن حرمه منها!! فهم قدوة للجميع وأئمة للجميع ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ﴾.
ولأننا فى هذه العجالة لا نستطيع أن ننبه على مواضع القدوة تفصيلاً، فإننا نشير إلى أمثلة منها على أن يقوم القراء الكرام بمتابعة مواضع القدوة فى كتاب الله تفصيلاً ليدركوا من وراء ذلك هاتين الفائدتين:
وإني لأرجو من كل قارئ أن يتدبر معي هذه الأمثلة الرائعة تدبراً عميقاً!!
المثال الأول:
تدبر قوله تعالى عن نوح عليه السلام ﴿ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ﴾ مع قوله تعالى ﴿ وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾!! والدعاة إلى الله هم أشد الناس حاجة إلى هذا الدرس، فلا نيأس من دعوة غيرنا، وإن وجدنا إعراضاً وصدوداً أو إنكاراً وجحوداُ!!
المثال الثانى:
قارن بين ما كان من شأن نوح مع ابنه، وما كان من شأن إبراهيم مع أبيه!! فنوح هو قدوة الآباء الصالحين مع الأبناء العاقين! وإبراهيم هو قدوة الأبناء البررة مع الآباء الكفرة أو الفجرة!! فتدبر هذا حق التدبر، وتفكر فيه حق التفكر!
المثال الثالث:
قارن بين دعوة موسى عليه السلام وهو محتاج إلى الطعام فى سفره ﴿ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾.
ودعوة سليمان عليه السلام ﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾!
فظاهر السياق أن موسى يطلب الكفاف! وسليمان يطلب الدنيا بأسرها! فبمن نقتدي ؟!!
والجواب: أن الناس يتقلبون بين الغنى والفقر، والمؤمن فى حال فقره يقتدي بموسى عليه السلام ويلجأ إلى الله كما فعل، وفى حال غناه فإنه يقتدي بسليمان فى قوله بعد أن أعطاه الله الدنيا: ﴿ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾.
وهذه حكمة لله بالغة، فلو كان الأنبياء كلهم فقراء لما وجد المؤمن الغنى أحداً من الأنبياء يقتدي به!.
المثال الرابع:
عندما يشتد بالمؤمن المرض، ويطول البلاء فإنه لا يذهب إلى كاهن أو عراف أو ساحر ونحوه، وإنما يذهب إلى ربه ويجد فى نبى الله أيوب قدوة وأسوة ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾.
فإذا ذهب المؤمن إلى طبيب فإن قلبه لا يلتفت إليه، وإنما يراه سبباً ظاهراً قد يجرى الله الشفاء على يديه، وقد لا يفعل!!!
المثال الخامس:
قد يحرم المؤمن من الذرية لحكمة يعلمها الله، وذلك لأنه سبحانه ﴿ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ﴾.
فإذا أراد أن يطلب الذرية فإنه يجد فى نبي الله زكريا عليه السلام أسوة وقدوة فى قوله: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ وتدبر كيف أنه اشترط أن تكون الذرية طيبة! فإن الذرية الفاسدة لا خير فيها ومثالها ولد نوح، والغلام الذى قتله الخضر.
والحرمان من الذرية خيرٌ من ذرية فاسدة!! فتدبر وتفكر!
المثال السادس:
قد ينزغ الشيطان بين المسلم وإخواته، أو بينه وبين إخوانه! فيقتدي بيوسف فى قوله: ﴿ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ﴾.
وقد يسجن المسلم ظلماً ومع هذا فهو يصبر ويرضى ويؤثر السجن على الوقوع فيما حرم الله، ويقول كما قال يوسف عليه السلام: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾.
وبعد: فإن كل موضع فى كتاب الله تحدث عن نبي من أنبياء الله يكون لنا فيه أسوة وقدوة.
وعالم اليوم يموج بالفتن، وقد ابتلى المؤمنون فيه، وزلزلوا زلزالاً شديداً، ولا ملجأ من الله إلا إليه، ولا مفر منه إلا إليه.
وليس أمامنا إلا أن نعود إلى الله عوداً حميداً. وأول الهداية: كلمة التقوى التى نحن أحق بها وأهلها وأن نقتفى أثر الأنبياء والمرسلين.
فقدوتنا ليست فى شرق أو غرب! وإنما فى وحي أنزله، ورسولٍ أرسله! وصلى الله وسلم وبارك على رسله أجمعين وعلى رسولنا وصحبه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.