بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
وبعد
فإن معرفة رب العالمين وعبادته على نور وهدى وبصيرة هو أساس الحياة، والمطلب الأعلى للنجاة، ولا يتأتَّى ذلك للعبد إلا بالفقه في الدين؛ لذا حث عليه الشرع المطهر ورغب فيه، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)رواه البخاري ومسلم ، فقد رتب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -في هذا الحديث- الخير كله على معرفة أحكام الدين، وفهمها الفهم الصحيح الذي يحصل به العلم النافع، المؤدي إلى العمل الصالح. لذا كان لزاماً على كل مسلم أن يتفقه في دينه؛ كي يعبد ربه على علم وبصيرة؛ معتصماً في ذلك بكتاب الله الكريم، وبسنة سيد المرسلين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى يصلح عمله، ويستقيم أمره، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ) رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم.
ومن هنا يسرني أن أقدم لكم هذا الكتاب الماتع بإذن الله تعالى (الفقه الميسر في ضوء الكتاب والسنة (والذي شارك في إعداده نخبة من أساتذة الفقه وقد حُرص في إعداده على أن يكون واضح العبارة، سهل التناول، يستفيد منه العامة والخاصة في عباداتهم ومعاملاتهم
التمهيد
ونبدأ بالتمهيد الذي يشتمل على النقاط التالية:
تعريف الفقه لغة واصطلاحاً.
مصادره.
موضوعه.
ثمرته.
فضله.
معنى الفقه لغةً واصطلاحاً:
الفقه في اللغة: الفهم. ومنه قول الله تعالى عن قوم شعيب: ( ... مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ ... ) [هود: 91]. وقوله عز وجل ( ... وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ... ) [الإسراء: 44].
والفقه في الاصطلاح: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية. وقد يطلق الفقه على الأحكام نفسها.
مصادر الفقه "الأساسية":
1 - القرآن الكريم.
2 - السنة المطهرة.
3 - الإجماع.
4 - القياس.
موضوع الفقه:
موضوع الفقه أفعال المكلفين من العباد على نحوٍ عام وشامل، فهو يتناول علاقات الإنسان مع ربه، ومع نفسه، ومع مجتمعه.
ويتناول الأحكام العملية، وما يصدر عن المكلف من أقوال، وأفعال، وعقود وتصرفات. وهي على نوعين:
الأول: أحكام العبادات: من صلاة، وصيام، وحج، ونحوها.
الثاني: أحكام المعاملات: من عقود، وتصرفات، وعقوبات، وجنايات،
وضمانات وغيرها مما يقصد به تنظيم علاقات الناس بعضهم مع بعض.
وهذه الأحكام يمكن حصرها فيما يلي:
1 - أحكام الأسرة من بدء تكوينها إلى نهايتها. وتشمل: أحكام الزواج، والطلاق، والنسب، والنفقة، والميراث ونحوها.
2 - أحكام المعاملات المالية (المدنية): وهي المتعلقة بمعاملات الأفراد، ومبادلاتهم من: بيع، وإجارة، وشركة ونحوها.
3 - الأحكام الجنائية: وهي التي تتعلق بما يصدر عن المكلف من جرائم وتعديات، وما يستحقه عليها من عقوبات.
4 - أحكام المرافعات والقضاء: وهي المتعلقة بالقضاء في الخصومات، والدعوى، وطرق الإثبات ونحوها.
5 - الأحكام الدولية: وهي التي تتعلق بتنظيم علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول في السلم والحرب، وعلاقة غير المسلمين المواطنين بالدولة.
وتشمل الجهاد والمعاهدات.
ثمرة علم الفقه:
معرفة الفقه، والعمل به، تثمر صلاح المكلف، وصحة عبادته، واستقامة سلوكه.
وإذا صلح العبد صلح المجتمع، وصارت النتيجة في الدنيا السعادة والعيش الرغد، وفي الأخرى رضوان الله وجنته.
فضل الفقه في الدين والحث على طلبه وتحصيله:
إن التفقه في الدين من أفضل الأعمال، ومن أطيب الخصال. وقد دلت النصوص من الكتاب والسنة على فضله، والحث عليه. منها: قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة:122].
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)رواه البخاري . فقد رتب النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخير كله على الفقه في الدين، وهذا مما يدل على أهميته، وعظم شأنه وعلوّ منزلته. وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) (رواه البخاري).
فالفقه في الدين منزلته في الإسلام عظيمة، ودرجته في الثواب كبيرة؛ لأن المسلم إذا تفقه في أمور دينه، وعرف ما له، وما عليه من حقوق وواجبات، يعبد ربه على علم وبصيرة، ويُوَفق للخير والسعادة في الدنيا والآخرة.
أولاً: كتاب الطهارة
ويشتمل على عشرة أبواب
الباب الأول: في أحكام الطهارة والمياه، وفيه عدة مسائل:
المسألة الأولى: في التعريف بالطهارة، وبيان أهميتها، وأقسامها:
1 - أهمية الطهارة وأقسامها: الطهارة هي مفتاح الصلاة، وآكد شروطها، والشرط لابد أن يتقدم على المشروط.
والطهارة على قسمين:
القسم الأول: طهارة معنوية وهي طهارة القلب من الشرك والمعاصي وكل ما ران عليه، وهي أهم من طهارة البدن، ولا يمكن أن تتحقق طهارة البدن مع وجود نجس الشرك كما قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة: 28].
القسم الثاني: الطهارة الحسية، وسيأتي تفصيل القول فيها في الأسطر التالية.
2 - تعريفها: وهي في اللغة: النظافة، والنزاهة من الأقذار.
وفي الاصطلاح: رفع الحَدَث، وزوال الخَبَث.
والمراد بارتفاع الحدث: إزالة الوصف المانع من الصلاة باستعمال الماء في جميع البدن، إن كان الحدث أكبر، وإن كان حدثاً أصغر يكفي مروره على أعضاء الوضوء بنية، وإن فقد الماء أو عجز عنه استعمل ما ينوب عنه، وهو التراب، على الصفة المأمور بها شرعاً. وسيأتي ذكرها إن شاء الله في باب التيمم.
والمراد بزوال الخَبَث: أي: زوال النجاسة من البدن والثوب والمكان.
فالطهارة الحسية على نوعين: طهارة حدث وتختص بالبدن، وطهارة خبث، وتكون في البدن، والثوب، والمكان.
والحدث على نوعين: حدث أصغر، وهو ما يجب به الوضوء، وحدث أكبر، وهو ما يجب به الغسل.
الحَدَثُ: هو وصف قائم بالبدن يمنع من الصلاة ونحوها مما يشترط له الطهارة. وهو نوعان: حدث أصغر؛ وهو الذي يقوم بأعضاء الوضوء كالخارج من السبيلين من بول وغائط، ويرتفع هذا بالوضوء، وحدث أكبر؛ وهو الذي يقوم بالبدن كله، كالجنابة، وهذا يرتفع بالغسل. وعلى هذا فطهارة الحدث: كبرى؛ وهي الغسل، وصغرى، وهي الوضوء، وبدل منهما عند تعذرهما؛ وهو التيمم.
والخَبَثُ على ثلاثة أنواع: خبث يجب غسله، وخبث يجب نضحه، وخبث يجب مسحه.
المسألة الثانية: الماء الذي تحصل به الطهارة:
الطهارة تحتاج إلى شيء يتطهر به، يزال به النجس ويرفع به الحدث وهو الماء، والماء الذي تحصل به الطهارة هو الماء الطَّهُور، وهو: الطاهر في ذاته المطهر لغيره، وهو الباقي على أصل خلقته، أي: على صفته التي خلق عليها، سواء كان نازلاً من السماء: كالمطر وذوب الثلوج والبَرَد، أو جارياً في الأرض: كماء الأنهار والعيون والآبار والبحار.
لقوله تعالى: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) [الأنفال: 11]. ولقوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) [الفرقان: 48].
ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد) (البخاري).
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ماء البحر: (هو الطهور ماؤه، الحِلُّ ميتته) (صححه الألباني).
ولا تحصل الطهارة بمائع غير الماء كالخل والبنزين والعصير والليمون، وما شابه ذلك؛ لقوله تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) [المائدة: 6] فلو كانت الطهارة تحصل بمائع غير الماء لنقل عادم الماء إليه، ولم ينقل إلى التراب.
المسألة الثالثة: الماء إذا خالطته نجاسة:
الماء إذا خالطته نجاسة فغيَّرت أحد أوصافه الثلاثة -ريحه، أو طعمه، أو لونه- فهو نجس بالإجماع لا يجوز استعماله، فلا يرفع الحدث، ولا يزيل الخبث –سواء كان كثيراً أو قليلاً- أما إن خالطته النجاسة ولم تغير أحد أوصافه: فإن كان كثيراً لم ينجس وتحصل الطهارة به، وأما إن كان قليلاً فينجس، ولا تحصل الطهارة به. وحدُّ الماء الكثير ما بلغ قُلتين فأكثر، والقليل ما دون ذلك.
القلة هي الجرة، جمعهِا قُلل وقلال. وهي تساوي ما يقارب 93.075 صاعاً= 160.5 لترا من الماء، والقلتان خمس قرب تقريبا.
والدليل على ذلك حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) (صححه الألباني في الإرواء (1/ 45).
)، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) (صححه الألباني في الإرواء (1/ 45)).
المسألة الرابعة: الماء إذا خالطه طاهر:
الماء إذا خالطته مادة طاهرة، كأوراق الأشجار أو الصابون أو الأُشْنَان
(الأُشْنَان معرَّب، وهو حمض تغسل به الأيدي، ويقال له بالعربية: الحُرْضُ، ويقال بكسر الألف أيضا)
أو السدر أو غير ذلك من المواد الطاهرة، ولم يغلب ذلك المخالط عليه، فالصحيح أنه طهور يجوز التطهر به من الحدث والنجاسة، لأن الله سبحانه وتعالى قال: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) [النساء: 43].
فلفظ الماء في الآية نكرة في سياق النفي، فيعم كل ماء. لا فرق بين الماء الخالص والمخلوط.
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للنسوة اللاتي قمن بتجهيز ابنته: (اغسلنها ثلاثاً أو خمساً، أو أكثر من ذلك إن رأيتن، بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً، أو شيئاً من كافور) (متفق عليه).
المسألة الخامسة: حكم الماء المستعمل في الطهارة:
الماء المستعمل في الطهارة -كالماء المنفصل عن أعضاء المتوضئ والمغتسل- طاهر مطهر لغيره على الصحيح، يرفع الحدث ويزيل النجس، ما دام أنه لم يتغير منه أحد الأوصاف الثلاثة: الرائحة والطعم واللون.
ودليل طهارته: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه) (البخاري 189)، ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صبَّ على جابر من وضوئه إذ كان مريضاً (البخاري 5651). ولو كان نجساً لم يجز فعل ذلك، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه ونساءه كانوا يتوضؤون في الأقداح والأَتْوار (جمع تَوْر، وهو: إناء يشرب فيه)، ويغتسلون في الجِفَان (واحدتها: جَفنَة، وهي كالقصعة)، ومثل هذا لا يَسْلَم من رشاش يقع في الماء من المُستَعْمِل، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي هريرة وقد كان جنباً: (إن المؤمن لا ينجس) (مسلم 371). وإذا كان كذلك فإن الماء لا يفقد طهوريته بمجرد مماسته له.
المسألة السادسة: أَسْاَر الآدميين وبهيمة الأنعام:
السُّؤر: هو ما بقي في الإناء بعد شرب الشارب منه، فالآدمي طاهر، وسؤره طاهر، سواء كان مسلماً أو كافراً، وكذلك الجنب والحائض، وقد ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (المؤمن لا ينجس) (مسلم 371). وعن عائشة: أنها كانت تشرب من الإناء وهي حائض، فيأخذه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيضع فاه على موضع فيها (مسلم 300).
وقد أجمع العلماء على طهارة سؤر ما يؤكل لحمه من بهيمة الأنعام وغيرها.
أما ما لا يؤكل لحمه كالسباع والحمر وغيرها فالصحيح: أن سؤرها طاهر، ولا يؤثر في الماء، وبخاصة إذا كان الماء كثيراً.
أما إذا كان الماء قليلاً وتغيَّر بسبب شربها منه، فإنه ينجس.
ودليل ذلك: الحديث السابق، وفيه: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئل عن الماء، وما ينوبه من الدواب والسباع، فقال: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الهرة وقد شربت من الإناء: (إنها ليست بنجس، إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات) (صححه الألباني (الإرواء رقم 23))، ولأنه يشق التحرز منها في الغالب. فلو قلنا بنجاسة سؤرها، ووجوب غسل الأشياء، لكان في ذلك مشقة، وهي مرفوعة عن هذه الأمة.
أما سؤر الكلب فإنه نجس، وكذلك الخنزير.
أما الكلب: فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (طهور إناء أحدكم إذا وَلَغَ (وَلَغَ: شرب منه بلسانه) فيه الكلب، أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب) (رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم).
وأما الخنزير: فلنجاسته، وخبثه، وقذارته، قال الله تعالى: (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) [الأنعام: 145].
الباب الثاني: في الآنية، وفيه عدة مسائل:
الآنية: هي الأوعية التي يحفظ فيها الماء وغيره، سواء كانت من الحديد أو من غيره. والأصل فيها الإباحة؛ لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) [البقرة: 29].
المسألة الأولى: استعمال آنية الذهب والفضة وغيرهما في الطهارة:
يجوز استعمال جميع الأواني في الأكل والشرب وسائر الاستعمال، إذا كانت طاهرة مباحة، ولو كانت ثمينة، لبقائها على الأصل وهو الإباحة، ما عدا آنية الذهب والفضة، فإنه يحرم الأكل والشرب فيهما خاصة، دون سائر الاستعمال؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) (رواه البخاري برقم (5426))، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) (رواه البخاري برقم (5634)) فهذا نصٌ على تحريم الأكل والشرب دون سائر الاستعمال، فدل على جواز استعمالها في الطهارة. والنهي عام يتناول الإناء الخالص، أو المُمَوَّه (المُمَوَّه: المطليّ) بالذهب أو الفضة، أو الذي فيه شيء من الذهب والفضة.
المسألة الثانية: حكم استعمال الإناء المُضَبَّب (التضبيب: هو وصل الإناء المكسور بالحديد ونحوه) بالذهب والفضة:
إن كانت الضبة من الذهب حرم استعمال الإناء مطلقاً؛ لدخوله تحت عموم النص، أما إن كانت الضبة من الفضة وهي يسيرة فإنه يجوز استعمال الإناء؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: (انكسر قدح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاتخذ مكان الشعْب سلسلة من فضة) (رواه البخاري برقم (3109)).
المسألة الثالثة: آنية الكفار:
الأصل في آنية الكفار الحل، إلا إذا عُلمت نجاستها، فإنه لا يجوز استعمالها إلا بعد غسلها؛ لحديث أبي ثعلبة الخشني قال: قلت يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ قال: (لا تأكلوا فيها إلا أن لا تجدوا غيرها فاغسلوها، ثم كلوا فيها) (رواه البخاري برقم (5478)).
وأما إذا لم تُعلم نجاستها بأن يكون أهلها غير معروفين بمباشرة النجاسة، فإنه يجوز استعمالها؛ لأنه ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه أخذوا الماء للوضوء من مَزَادة امرأة مشركة (رواه البخاري رقم (344))، ولأن الله سبحانه قد أباح لنا طعام أهل الكتاب، وقد يقدِّمونه إلينا في أوانيهم، كما دعا غلام يهودي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على خبز شعير وإهالَة سَنِخَة فأكل منها (صححه الألباني في الإرواء (1/ 71)).
المسألة الرابعة: الطهارة في الآنية المتخذة من جلود الميتة:
جلد الميتة إذا دبغ طهر وجاز استعماله لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) رواه الترمذي برقم (1650)، ومسلم برقم (366) بلفظ: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) من حديث ابن عباس الإهاب: الجلد قبل أن يدبغ. ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرّ على شاة ميتة فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هلَّا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به)؟ فقالوا: إنها ميتة. قال: (فإنما حَرُمَ أكلُهَا) (رواه مسلم برقم (363)). وهذا فيما إذا كانت الميتة مما تحلها الذكاة وإلا فلا.
أما شعرها فهو طاهر -أي شعر الميتة المباحة الأكل في حال الحياة- وأما اللحم فإنه نجس، ومحرم أكله. لقوله تعالى: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) [الأنعام: 145].
ويحصل الدبغ بتنظيف الأذى والقذر الذي كان في الجلد، بواسطة مواد تضاف إلى الماء كالملح وغيره، أو بالنبات المعروف كالقَرَظ أو العرعر ونحوهما.
وأما ما لا تحله الذكاة فإنه لا يطهر، وعلى هذا فجلد الهرة وما دونها في الخلقة لا يطهر بالدبغ، ولو كان في حال الحياة طاهراً.
وجلد ما يحرم أكله ولو كان طاهراً في الحياة فإنه لا يطهر بالدباغ.
والخلاصة: أن كل حيوان مات، وهو من مأكول اللحم، فإنَّ جلده يطهر بالدباغ، وكل حيوان مات، وليس من مأكول اللحم، فإن جلده لا يطهر بالدباغ.
الباب الثالث: في قضاء الحاجة وآدابها، وفيه عدة مسائل:
المسألة الأولى: الاستنجاء والاستجمار وقيام أحدهما مقام الآخر:
الاستنجاء: إزالة الخارج من السبيلين بالماء. والاستجمار: مسحه بطاهر مباح مُنْقِ كالحجر ونحوه. ويجزئ أحدهما عن الآخر؛ لثبوت ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فعنَ أنس - رضي الله عنه - قال: (كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدخل الخلاء، فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة، فيستنجي بالماء) (رواه مسلم برقم (271)، والإداوة: إناء صغير من جلد). وعن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إذا ذهب أحدكم إلى الغائط، فليستطب بثلاثة أحجار، فإنها تُجزئ عنه) (أخرجه أحمد (6/ 108)، والدارقطني برقم (144) وقال: إسناد صحيح). والجمع بينهما أفضل.
والاستجمار يحصل بالحجارة أو ما يقوم مقامها من كل طاهر مُنْقِ مباح، كمناديل الورق والخشب ونحو ذلك؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستجمر بالحجارة فيلحق بها ما يماثلها في الإنقاء. ولا يجزئ في الاستجمار أقل من ثلاث مسحات؛ لحديث سلمان - رضي الله عنه -: (نهانا -يعني النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) - أن نستنجي باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستنجي برجيع أو عظم) (رواه مسلم برقم (262)، والرجيع: العَذرَةُ والروْثُ).
المسألة الثانية: استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة:
لا يجوز استقبال القبلة ولا استدبارها حال قضاء الحاجة في الصحراء بلا حائل؛ لحديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها، ولكن شَرِّقوا أو غَرِّبوا) قال أبو أيوب: فقدمنا الشام، فوجدنا مراحيض قد بُنيت نحو الكعبة، فننحرف عنها، ونستغفر الله (رواه البخاري في كتاب الوضوء برقم (144)).
أما إن كان في بنيان، أو كان بينه وبين القبلة شيء يستره، فلا بأس بذلك؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبول في بيته مستقبل الشام مستدبر الكعبة) (رواه البخاري برقم (148))، ولحديث مروان الأصغر قال: (أناخ ابن عمر بعيره مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليه، فقلت: أبا عبد الرحمن، أليس قد نُهي عن هذا؟ قال: بلى إنما نهي عن هذا في الفضاء، أما إذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس) (حَسنه الحافظ ابن حجر، والحازمي، والألباني (انظر: الإرواء برقم 61).
والأفضل ترك ذلك حتى في البنيان، والله أعلم.
المسألة الثالثة: ما يسن فعله لداخل الخلاء:
يسن لداخل الخلاء قول: "بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث". وعند الانتهاء والخروج: "غفرانك". وتقديم رجله اليسرى عند الدخول واليمنى عند الخروج، وأن لا يكشف عورته حتى يدنو من الأرض.
وإذا كان في الفضاء يستحب له الإبعاد والاستتار حتى لا يُرى. وأدلة ذلك كله: حديث جابر - رضي الله عنه - قال: (خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يأتي البراز حتى يتغيب فلا يُرى) (صحيح ابن ماجه (1/ 60)).
وحديث علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الخلاء، أن يقول: بسم الله) (حسنه أحمد شاكر في حاشية الترمذي، وصححه الألباني. صحيح الجامع الصغير برقم (3611).
وحديث أنس - رضي الله عنه -: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل الخلاء قال: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) (رواه البخاري برقم (142)).
وحديث عاثشة رضي الله عنها: (كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك) (حسنه الألباني).
وحديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد الحاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض) (صححه الألباني).
المسألة الرابعة: ما يحرم فعله على من أراد قضاء الحاجة:
يحرم البول في الماء الراكد؛ لحديث جابر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أنه نهى عن البول في الماء الراكد) (البخاري برقم (239). والراكد: هو الساكن الذي لا يجري).
ولا يمسك ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يستنجي بها. لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه، ولا يستنجي بيمينه) (رواه البخاري برقم (154)).
ويحرم عليه البول أو الغائط في الطريق أو في الظل أو في الحدائق العامة أو تحت شجرة مثمرة أو موارد المياه؛ لما روى معاذ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل) (ابن ماجه برقم (328). وإسناده حسن انظر إرواء الغليل (1/ 100))، ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (اتقوا اللاعنين)، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: (الذي يَتَخَلى في طريق الناس أو في ظلهم) (رواه مسلم برقم (269)). كما يحرم عليه قراءة القرآن، ويحرم عليه الاستجمار بالروث أو العظم أو بالطعام المحترم؛ لحديث جابر - رضي الله عنه -: (نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتمسح بعظم أو ببعر) (رواه مسلم برقم (263)). ويحرم قضاء الحاجة بين قبور المسلمين، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي، أو وسط السوق؟) (صححه الألباني في إرواء الغليل (1/ 102)).
المسألة الخامسة: ما يكره فعله للمُتَخَلِّي:
يكره حال قضاء الحاجة استقبال مهب الريح بلا حائل؛ لئلا يرتد البول إليه، ويكره الكلام؛ فقد مرّ رجل والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبول، فسلَّم عليه، فلم يردّ عليه (رواه مسلم برقم (370)).
ويكره أن يبول في شَق ونحوه؛ لحديث قتادة عن عبد الله بن سرجس: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يبال في الجُحْر، قيل لقتادة: فما بال الجحر؟ قال: يقال: إنها مساكن الجن) (قال الشيخ ابن عثيمين: أقل أحواله أن يكون حسناً (الشرح الممتع 1/ 95 - 96)). ولأنه لا يأمن أن يكون فيه حيوان فيؤذيه، أو يكون مسكناً للجن فيؤذيهم.
ويكره أن يدخل الخلاء بشيء فيه ذكْرُ الله إلا لحاجة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه) (ضعفه الألباني)
(وعلى القول بضعف هذا الحديث وعدم صلاحيته للاحتجاج في هذه المسألة، فإن الأولى والأفضل ألا يدخل الخلاء بشيء فيه اسم الله بلا ضرورة؛ إكراماً لاسمه تعالى وإجلالاً)
أما عند الحاجة والضرورة فلا بأس، كالحاجة إلى الدخول بالأوراق النقدية التي فيها اسم الله؛ فإنه إن تركها خارجاً كانت عرضة للسرقة أو النسيان.
أما المصحف فإنه يحرم الدخول به سواء كان ظاهراً أو خفياً؛ لأنه كلام الله وهو أشرف الكلام، ودخول الخلاء به فيه نوع من الإهانة.