قصة أخرى :
الوفاء للزوجة المريضة وبعد الموت
أكتب إليك لأبثك بعض أفكاري وأجد لديك ما يخفف
عني بعض شجوني, فأنا رجل في الخامسة والخمسين من العمر..
أعمل مهندسا استشاريا.. كان أبي موظفا بسيطا.. يكافح لتعليم أبنائه الأربعة
وتوفير الحد الأدني لهم من امكانات الحياة, فنشأت وأنا أعرف جيدا أنني لا أملك خيار
الفشل أو الرسوب في الدراسة.. لأن من واجبي أن أعين أبي علي أمره بالنجاح والتفوق,
وبالفعل فلقد مضت رحلتي الدراسية بلا تعثر حتى بلغت السنة الثالثة من دراسة الهندسة.. وكانت لنا زميلة
جميلة يوحي مظهرها بأنها من أسرة كريمة فتنافس الزملاء الوجهاء والقادرون ماديا علي لفت نظرها واكتساب
مودتها, وأدركت أنا من الوهلة الأولي أنني غير قادر علي المنافسة.. فانطويت علي نفسي واكتفيت بالمراقبة عن بعد.
. وواصلت الاهتمام بدراستي دون أدني أمل في الفوز.. إلي أن جاء يوم وفوجئت بهذه الزميلة الجميلة
تطلب مساعدتي لها في شأن من شئون الدراسة وتقول لي إنها لجأت إلي دون غيري من الزملاء
لإحساسها بأنني لن أسيء فهم تصرفها ولن أفسره تفسيرا خاطئا.. وتلعثمت وأنا أؤكد
لها أنني علي استعداد لفعل أي شيء تريده في إطار الزمالة والاحترام فقط لا غير,
وابتسمت شاكرة وبدأ تعاوننا
الدراسي معا من هذه اللحظة.. واستمر حتى نهاية العام الدراسي
دون أية كلمة خارجة علي الإطار الذي اخترته وافترقنا بعد أداء آخر الأمتحانات,
وأنا أؤكد لها أنها ستنجح بتفوق هذا العام, وفي العام التالي واصلنا الدراسة والتعاون
معا بنفس الطريقة.. واشتركنا معا في مشروع واحد للتخرج وتبادلنا المودة الصافية والاحترام إلي
أن أوشكنا علي إتمامه.. وفي اليوم الأخير منه سألتني سؤالا مباغتا هو: لماذا لم أحاول أبدا لفت نظرها إلي
كما فعل معظم زملاء الدفعة.. واحمر وجهي خجلا.. ثم استجمعت شجاعتي وقلت لها إنني شاب بسيط ووالدي موظف
مكافح وليس لدي من المؤهلات المادية والاجتماعية ما يؤهلني للأمل في مودتك ذات يوم..
فكان هذا الحوار هو بداية قصتي الطويلة معها فلقد شجعتني علي الثقة
في نفسي وفتحت أمامي بابا عريضا للأمل في السعادة معها.. وأكدت لي أنها ستقف
إلي جانبي إلي أن أصنع نجاحي وأحقق أحلامي وأتجاوز كل صعاب الطريق, وتعاملت معي دائما بثقة واحترام
.. وعرفتني بشقيقها الذي يدرس بكلية الطب.. وحرصت علي أن تعرف مني كل دقائق حياتي العائلية, وأعجبت كثيرا
بكفاح أبي في الحياة.. وحسن تدبير والدتي لحياتنا البسيطة, وتخرجن
في كلية الهندسة وعمل كل منا في مكان مختلف
.. وبعد عام آخر شجعتني علي طلب
يدها من والدها التاجر الميسور, وأكدت لي أن المسألة المادية
لن تكون عقبة في طريقي لأنها قد اختارت من تثق في أنها ستسعد بحياتها معه,
وفاتحت أبي بالأمر كله.. فأشفق علي من الاحساس بالضآلة تجاه أسرتها الميسورة..
وأعرب لي عن حزنه لأنه لا يستطيع أن يقدم لي ما يعينني به علي تحقيق هذا الحلم.. لكنه بالرغم من
ذلك لم يعترض علي رغبتي في التقدم لأبيها.. وصاحبني إليه.. وهو يدعو الله ألا يحدث خلال اللقاء ما يجرح
مشاعري أو يكسر قلبي, ومضت جلسة التعارف الأولي دون أن يعكر صفوها شيء.. وشعرت ـ وأبي كذلك ـ بالارتياح
الشديد لوالدها المتدين المتواضع, وأثلج صدرينا قوله لنا إنه يثق في حسن اختيار ابنته ولذلك فانه لن يتحدث في الماديات
أبدا ولن يطالبني إلا بأن أثبت جدارتي بإعجاب ابنته وثقتها في وحسن رعايتي لها..
ومضت الأمور بعد ذلك كأنها حلم من الأحلام السعيدة.., وتمت الخطبة بدبلتين فقط في حفل عائلي صغير.
. وأصبحت خطيبتي محور حياتي وأحلامي واهتماماتي, وبعد ثلاث سنوات من الكفاح المرير تخللتها سنة من العمل
في الخارج, استطعت تدبير مقدم شقة صغيرة في حي مقبول.. وبمساعدة خطيبتي لي سرا أتممت كل استعداداتي
للزواج وتزوجنا وبدأنا حياتنا الزوجية السعيدة.. ولازمني التوفيق في حياتي العملية بفضل اطمئنان قلبي إلي جوار
زوجتي الجميلة الطيبة المتدينة. وعشنا معا أجمل سنوات العمر.. وأنجبنا طفلة رائعة الجمال كأمها وطفلا خفيف الظل مثلها.
وانطلقت أكافح في الحياة وأرجع إلي عشي الصغير فأجد لدي زوجتي وطفلي ما يعوضني
عن كل شقاء الرحلة. وأتيحت لي فرصة العمل في الخارج أكثر من مرة, فاشترطت في كل مرة أن تعمل معي
زوجتي في نفس المكان.. لكيلا نفترق بعد أن جمع الله شملنا.. وعملنا معا بالفعل4 سنوات في إحدى الدول العربية الافريقية..
واشترينا شقة أكبر وسيارة وأصبح لنا رصيد مشترك في البنك, ورجعنا حين استشعرنا
حاجة الأبناء لأن ينشأوا بين أحضان الأهل وفي حمايتهم.. ومضت حياتنا كلها كرحلة جميلة معطرة بالحب
والتفاهم والوئام, وأيا كان ما يحدث بيننا من أمور الحياة المألوفة.. فلقد تعاهدنا منذ اليوم الأول لاجتماع شملنا
علي ألا يبيت أحدنا وهو غاضب من الآخر لأي سبب.. ولاحظت علي نفسي مع تقدمي في العمر, أنني أصبحت
لا أستشعر الراحة والأمان إلا إلي جوار زوجتي, وحين تقدم الابنان في مدارج العمر وأصبح لكل منهما رغباته
ومطالبه وشخصيته لمسا بسهولة عمق روابط الحب والتفاهم التي تجمع بيني وبين أمهما.. ومنذ سن الرابعة عشرة
بدأت ابنتي الكبرى تعلن لأمها أنها لن تتزوج ذات يوم إلا إذا جمعها حب كبير بزوجها كما هو الحال بين أبويها.
وعبرت بنا ككل البشر أحزان الحياة المألوفة..
فلم تحفر بصمتها الغائرة في نفوسنا لأننا احتمينا منها بحب كل منا للآخر
وعطفه عليه ومواساته له, فمات أبي رحمه الله وبكيته كثيرا وبكته زوجتي أكثر,
ومات والدها فتساندنا معا علي مواجهة المحنة.. ولقي أخ أصغر لي مصرعه رحمه الله
في حادث سيارة فكدت أفقد صوابي لولا عطف زوجتي علي ومواساتها لي, وتخرجت ابنتي
في كليتها واستوت زهرة فواحة تسر العيون وتخرج أبني في إحدى كليات القمة وأراد استكمال دراسته
في أمريكا فجزعت لفكرة افتراقه عنا4 سنوات أو تزيد.. لكن زوجتي الحكيمة هونت علي الأمر وأقنعتني بألا أقف
حجر عثرة في طريق طموح ابننا.. وأكدت لي أنه سيرجع إلينا ذات يوم ولن يتخلى عنا أبدا, فوافقت علي مضض..
ثم أبلغتني زوجتي ذات يوم وهي تبتسم ابتسامة معبرة أن هناك من يرغب في التقدم إلي ابنتي
لكن إمكانياته المادية لا تشجعه علي ذلك.. وأن ابنتي ترغبه.. وتحبه بعمق وتأمل في
أن نتجاوز عن ضعف إمكانياته لإسعادها ومساعدتها علي اجتماع شملها به,
فنظرت إليها طويلا وقرأت في عينيها ما لم تنطق به..
وأكملت في ذهني بقية كلامها فتخيلتها تقول لي إن هذا الشاب الذي يحب ابنتنا بشدة
يكرر قصة شاب آخر مكافح أعانته فتاته منذ سنوات بعيدة علي أمره لكي يتقدم إليها.
ولم أجد بدا من أن أكون متفهما وعطوفا مع هذا الشاب المكافح حرصا علي إسعاد ابنتي
كما فعل والد زوجتي معي قبل27 عاما وتلألأ بالسعادة والابتهاج وجه ابنتي الحبيبة وقررنا
أن يتم الزفاف بعد ثلاث سنوات.. واتصلنا بابننا الغائب نبلغه بخبر خطبة أخته, وسعدت زوجتي في
هذه الفترة سعادة طاغية وأشرق وجهها الجميل الذي لم يؤثر فيه الزمن بالبهجة والسرور, وأصبحت أسرار
ابنتها الصغيرة مع خطيبها هي مادة حديثهما الهامس المتصل بلا انقطاع بينهما, وازداد الهمس الخافت بينها وبين
ابنتها حتي كاد يستثير غيرتي أكثر من مرة, فصرخت فيهما ماذا تخفيان عني من أسرار؟ فتنفجر زوجتي ضاحكة
في سرور وتقول لي إنها أسرار بنات ليس من حقي أن أعرفها!
وفي قمة هذه البهجة والسعادة صحت زوجتي من نومها ذات يوم وهي تشعر بإعياء شديد فاعتذرت
عن عدم الذهاب إلي العمل وأمضت يومها في الفراش.. ورجعت من عملي فوجدتها مازالت تشكو الإعياء,
البقية بعد قليل
__________________
(وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)سورة الطلاق
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، رَضِيَ الله عَنْه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
{ ما مَنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَدعٌو لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ إلاّ قَالَ الْمَلَكُ وَلَكَ بِمِثْلٍ }.[size=1]رواه مسلــم [/
size]،
أخوكم المحب الناصح همام hamam129