رحلة ليست كأي رحلة .. رحلة في كنف الله
بسم الله الرحمن الرحيم
في بداية القول لابد من حمد الله حمداً كثيراً على نعمته وزرقه وتيسيره .. أن رزقني حج بيته الحرام .. وأعانني ـ بالعمر والصحة والمال ـ على أداء فريضته العظيمة.
اللهم لك الحمد حمداً كثيراً .. ولك الشكر شكراً جزيلاً.
رحلة الحج ليست كأي رحلة .. فهي رحلة إلى الله ومع الله .. والخطوات التي تأخذنا إلى بيت الله الحرام ليست كأي خطوات .. فنحن نسير إلى أرض الله المباركة .. ونتوجه إلى بيته العتيق .. ومع كل خطوة وفي كل ساعة نشعر بقلوبنا تفز من هيبة الموقف وحلاوة اللقاء.
تشعر حينها أنك لست كأي إنسان ... فأنت حاج.
وسبحان الله شعرت في الحج أنني إنسانة غير عادية .. وأنني أؤدي مهمة عظيمة .. أسأل الله أنني أديتها كما يحب ويرضى.
بدأت رحلتنا في اليوم السادس من شهر ذي الحجة .. حيث وصلنا إلى مطار جدة ومنه انطلقنا إلى مكة المكرمة بالباص .. ثم وصلنا إلى السكن الذي كان عبارة عن عمارتين إحداهما للرجال والأخرى للنساء .. ووضعنا حقائبنا وارتحنا قليلاً ثم انطلقنا لنعتمر بعد ساعات قليلة من الوصول ـ باعتبارنا متمتعين ـ ولأننا في موسم الحج والزحام أمر مفروغ منه فقد توقعنا عدم تمكننا من الطواف في صحن الحرم .. وأننا سنضطر للطواف في الطابق الأعلى .. ولكن الحمدلله الذي يسر لنا الطواف في الصحن .. واستطقنا بعون الله الاقتراب أحياناً من الكعبة المشرفة لدرجة أننا في أحد الأشواط طفنا ما بينها وبين مقام إبراهم.
ولكننا لم نحلم بأكثر من ذلك .. ولم نجرؤ على التفكير في استلام الحجر الأسود أو الركن اليماني مثلاً
كان المكان يضيق علينا بعض الشيء بدءاً من الحجر الأسود وما بعده بقليل .. ولكن سبحان الله كنت أشعر دوماً بنسمة باردة تلفح وجهي كلما اقتربنا من مقام إبراهيم وبعد تجاوزه بقليل .. كما أن الزحام كان يقل مع اقتربنا وتخطينا الركن اليماني .. حيث تصبح الحركة أكثر سهولة والاحتكاك بالطائفين أقل .. ثم يشتد الزحام مرة أخرى مع اقترابنا وتخطينا الحجر الأسود في الشوط التالي.
طبعاً كان زوجي العزيز يمثل لي الدرع الواقي في حال تعرضت لأي دفع .. حيث كان يطوف خلفي مباشرةً بحيث أشير له بيدي عندما أشعر بأن أحد الطائفين قد يلتصق بي أو يعيق حركتي فيرفع ذراعه ليبعده عني قليلاً .. وكان ينجح في هذا غالباً ويُغلب على أمره أحياناً قليلة .. وسبحان الله رغم حدوث بعض الاحتكاك بالطائفين إلا أنني لم أشعر بالضيق أو النفور ـ على عكس ما كنت أتوقع ـ بل كنت أشعر بسكينة في قلبي جعلتني أبتسم لمن حولي حتى لو ضايقني أحدهم عن غير قصد.
أما الطريف أثناء الطواف فهو بعض النساء اللواتي كنّ يطفن بعباءات طويلة تزحف خلفهن على الأرض .. حيث كنت أدوس أحياناً على عباءة إحداهن مما كان يسبب إرباكاً واحتمالية السقوط .. ولكن الله سلّم .. ومع تكرار هذا الموقف اضطررت في النهاية أن أهمس للواحدة منهن: ارفعي عباتج عن الأرض الله يرضى عليج.
بشكل عام كان الأمر هيناً والحمدلله .. وكان وقتاً رائعاً انشغلت في الجزء الأكبر منه بالدعاء والاستغفار والتسبيح .. والجزء اليسير كنت أنظر فيه إلى الناس من حولي وأستشعر معنى وجودنا جميعاً في هذا المكان العظيم دون الالتفات لجنس أو جنسية أو أبيض أو أسمر.
ومن المواقف التي يؤسف لها أن بعض الحجاج بعد إنهاء طوافهم فإنهم يصلون ركعتي السنة على مسافة قريبة جداً من مقام إبراهيم .. غير مراعين الزحام وكثرة عدد الطائفين التي لا تسمح لهم بصلاة هادئة وخاشعة .. كما أننا أثناء الطواف وبسبب كثرة الناس لا يمكن أن ننظر تحت أقدامنا .. والنتيجة أنني أثناء طوافي ضربت بقدمي رأس أحد المصلين الذي كان ساجداً في صلاته خلف المقام .. أسأل الله ألا أكون قد آذيته أو آلمته .. وأسأله تعالى أن يعفو عني فوالله لم أرَه خلال طوافي.
بعد الطواف صلينا ركعتي السنة خلف مقام إبراهيم .. ولكن نظراً للزحام فقد صلينا على مسافة غير قريبة من المقام .. ثم شربنا ماء زمزم .. ويا حلاة ماء زمزم .. ثم توجهنا إلى المسعى الذي كان السعي فيه يسيراً والحمدلله .. حيث لم يكن هناك زحام يذكر والحركة كانت في منتهى السلاسة.
أنهينا العمرة بفضل الله ثم عدنا للسكن مع فجر اليوم السابع .. حيث قصرنا وتحللنا .. نمنا قليلاً .. وبعد أن استيقظنا سنحت لنا الفرصة حينها للتعرف على زميلات السكن في الغرفة المخصصة لنا .. وألفنا بعضنا لدرجة أننا ذهبنا للسوق ظهراً معاً .. وحدث أننا لم نتمكن من معرفة الطريق الصحيح فعدنا للسكن على أن نعاود المحاولة عصراً .. وبالفعل صلينا العصر وعدنا إلى السوق .. ولكن سبحان الله الذي لم يشأن لنا أن نستغرق وقتاً طويلاً حيث عدنا مع أذان المغرب .. وقد اشتريت سجادات صلاة ومسابيح فقط.
ولمن يعرف قصة طبطاب الجنة .. فقد حاولت أن أعثر عليه ولكن يبدو أنني كنت أسأل عن مخلوق فضائي مجهول الهوية!!
قضينا باقي اليوم السابع في السكن ما بين عبادة فردية واستماع للشيخ المرافق لحملتنا .. الذي كان يرافقنا صوته على مدار اليوم خاصةً بعد كل صلاة .. حيث كان يقيم في قسم الرجال ونستمع له نحن النساء عبر الميكروفونات .. فكان جزاه الله خيراً يحدثنا عن مناسك الحج تارةً وعن بعض المواضيع الدينية المختلفة تارةً أخرى .. كما كان يجيب على أسئلة الحجاج (الرجال يسألونه مباشرة والنساء يبعثن له رسائل نصية عنر الموبايل) .. وكان هذا حاله على الدوام بارك الله فيه .. حيث كان حريصاً إضافةً إلى كل هذا على توضيح وشرح العمل المطلوب من الحجاج في كل يوم من أيام الحج.
وفي صباح اليوم الثامن انطلقنا إلى منى حيث أحرمنا في الباص قبل تحركنا .. وبعد الوصول ذهب كلٌ إلى المخيم المخصص له رجالاً ونساءً .. ووضعنا حاجياتنا وقضينا هذا اليوم ما بين دعاء وصلاة وقراءة قرآن ... وطبعاً بعض السوالف
.. ولكن الحمدلله كانت صحبة السكن ـ وهي ذاتها كانت معنا في المخيم ـ صحبة صالحة تعي أهمية العبادة في هذه الأيام المباركة وعدم التفريط فيها .. لذلك فإننا رغم بعض السوالف والحكاوي كنا نعود بعد قليل للتعبد والدعاء والتسبيح وقراءة القرآن.
ومع اقتراب اليوم من نهايته طلب منا مسؤول الحملة أن نستعد للتوجه إلى عرفة في تمام الثانية بعد منتصف الليل .. وذلك تحسباً للزحام ولأننا لو انطلقنا مع الفجر فربما يعوقنا الزحام ونتأخر كثيراً عن الوصول .. وبالفعل وصلنا إلى مخيمنا في عرفة قبل الفجر بقليل.
وعندما أشرقت شمس اليوم التاسع اتصلت بزوجي أسأله: هل سنبقى في المخيم هكذا طوال الوقت؟ نريد أن نخرج لنرى جبل عرفة من بعيد على الأقل .. فأحبطني قائلاً إن مسؤول الحملة قال إن الجبل بعيد عن المخيم بمسافة طويلة وقد نضل الطريق ذهاباً أو إياباً .. لذلك فالبقاء في المخيم أفضل
سلمت أمري إلى الله مع أنني كنت متشوقة جداً لرؤية جبل عرفة والحجاج منتشرون من حوله
.. وقضينا نهارنا في الدعاء وقراءة القرآن .. ودعوت لي ولأبنائي ولزوجي ولأهلي وأهل زوجي ولمعارفي ولكم جميعاً .. أسأل الله أن يتقبل دعائي.
كان معظمنا يستشعر عظم هذا اليوم .. حريصاً على استغلال دقائقه ولحظاته أفضل استغلال .. وبعد أن صلينا الظهر والعصر جمعاً قمت أبحث عن مكان أختلي فيه بنفسي .. فرأيت في طريقي كثيرات تبارك الرحمن قد منّ الله عليهن بالخشوع والتضرع منهمكات في الدعاء والقراءة .. ثم رأيت إحدى زميلات السكن تبحث لنفسها عن خلوة هي الأخرى .. فصحبنا بعضنا وجلسنا في مكان بعيد قليلاً عن الأخريات وعاشت كل منا مع نفسها لتستمع بحلاوة هذا اليوم العظيم ولسان حالها يقول: هي لحظات معدودة لا يجب التفريط فيها .. فإن هي ذهبت فلن تعود.
وعند الرابعة عصراً طلب منا مسؤول الحملة التوجه إلى الباصات والبقاء فيها حتى غروب الشمس .. وخيراً فعل لأن الزحام قد اشتد مع اقتراب الغروب ونفير الحجاج ولم نكن سنتمكن من الخروج من المخيم وركوب الباصات بسهولة عندها .. ولكن كان يجب أن ننتظر لبعض الوقت الإضافي بسبب الزحام وكثرة الباصات .. ثم تحركنا أخيراً منطلقين إلى مزدلفة.
يتبع...