الحل الأخير في قضية الصفات
الحل الأخير في قضية الصفات
ومن خلال النصوص الواردة في هذا الباب يظهر جلياً أن هذه النصوص لم ترد في القرآن أو في السنة لإثبات صفة من هذه الصفات المتعلقة بالذات التي تُسمى ( صفات الجوارح ) أو للإخبار عنها من حيث هي صفة ، وإنما تأتي ويأتي بعدها ما يترتب عليها من صفات القهر والغلبة والربوبية والتملك والرحمة والشفقة والخلق والإيجاد وغير ذلك من المعاني التي ليست فيها الجوارح التي تتعلق بالجسمية والجرمية .
وهذا ظهر لي بالاستقراء ، ولو أردنا أن نورد جميع النصوص التي تبين هذه الحقيقة الاستقرائية لاحتاج ذلك إلى رسالة خاصة أو بحث خاص .
ولكن نكتفي بإيراد بعض الأمثلة والشواهد ، فلنأخذ أول مثال وهو الاستواء ، وهو رأس المشاكل وهو الذي عليه تدور رحى الخلاف والنقاش والرد والمردود ، فنقول باختصار وإيجاز : أشهر آيات الاستواء التي وردت في القرآن هي ( الرحمن على العرش استوى ) وقد وردت آيات أخرى في هذا الباب سنذكرها واحدة واحدة ، ونتكلم عنها في هذا البحث المختصر سائلين المولى جل جلاله أن ينفعنا بالعلم النافع وأن يلهمنا الرشد والصواب .
فأما الآية الأولى وهي ( الرحمن على العرش استوى ) فتدبر ما بعدها وهو قول الله تعالى ( له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى . وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السرّ وأخفى(
فهل يصح أن يقول الذين يتحدثون حول الاستواء ويجعلون منه قضية لوزن المذاهب والأفكار ، وتصنيف الناس إلى سلفية وخلفية وحلولية وجهمية ومعطّلة وحشوية ؟
هل يصح أن يقولوا : إن الآية جاءت لإثبات الاستواء والإخبار بأن الله استوى على عرشه ؟ وغيرهم يقول : إن المقصود من الآية هو إثبات ما يترتب على صفة الاستواء من التملك والتصريف تقريباً للحقيقة إلى عقول العباد الذين يتصورون بنظرهم وفكرهم أن الملك المسؤول عن البلاد لا يحكم ولا يتصرف ، ولا يأمر ولا ينهى ، ولا يستطيع أن يفعل شيئاً ، ولا يستجيب له أحد إلاّ إذا استولى على البلاد بقوته وسلطانه وقهره ، هذا الاستيلاء الذي يعبرون عنه ( بالجلوس على العرش ) وإذا جاء الخطاب بهذا المعنى فإنه يفهمه العامة والخاصة ، ولا أحد يجهل من الخلق أن معنى الجلوس على العرش هو الاستيلاء على الحكم وتولي أمر البلاد ، والقرآن جاء لمخاطبة الخلق جميعاً على اختلاف مستويات عقولهم ، وكل يأخذ منه على قدره .
إذا علمت هذا فاعلم أن الآية جاءت لبيان هذا المعنى – والله تعالى أعلم بمراده – ونحن لا نلزم الناس بفهمنا كما أننا نرفض أن يلزمنا غيرنا بفهمه إلاّ إذا جاء الفهم من مشكاة النبوة فنقول : سمعنا وأطعنا وآمنّا وصدّقنا _ وإذا جاء نهر الله بطل نهر مَعقِل ) وهنا نصوص محدودة مقطوع بها ، وأفهام مطلقة واسعة تدور في فلكها وتمشي تحت ظلها ، والحمد لله الذي جعل في الأمر سعة .
ولو نظر العاقل المتبصر في جميع آيات الاستواء التي وردت في القرآن الكريم لوجد أن هذه الحقيقة ظاهرة بوضوح في كل النصوص .
ففي آية الأعراف يقول جل جلاله : ( إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ) ثم يقول بعد ذلك ( يُغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ) فجاء ذكر الاستواء بين قضية الخلق والإيجاد ، والتصرف في تدبير أمور الكون بليله ونهاره ، وشمسه وقمره ، وبيان أنها مسخرات بأمره .
وفي آية يونس توضيح ظاهر لهذه الحقيقة إذ يقول : ( إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ) ثم يقول مبيناً ما يترتب على هذه الصفة من حقائق كونية ظاهرة وآيات عظيمة باهرة بقوله بعده ( يدبر الأمر ما من شفيع إلاّ من بعد إذنه ) .
وكذلك الحال في آية الرعد إذ يقول سبحانه وتعالى ( الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش ) ثم يقول مبيناً ما يترتب على هذه الصفة من حقائق كونية عظيمة ( وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى )
ويجري هذا المقصود القرآني العظيم كذلك في آية السجدة وهي قوله تعالى : ( الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ) ثم يذكر بعد الاستواء ما يترتب عليه من حقائق إيمانية يجب على المسلم ملاحظتها وذلك بقوله ( مالكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون ) .
ويجري كذلك في قوله سبحانه وتعالى ( هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ) ثم يقول مبيناً ما يترتب على هذه الصفة من حقائق علمية يجب الإيمان بها والتسليم لها لأنها من لوازم ( الاستواء ) الذي هو الهيمنة والتصرف في الكون بالخلق والتدبير فيقول ( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينـزل من السماء وما يعرج فيها ) .
ويجري هذا الكلام أيضاً في سورة الفرقان التي بدأت بذكر خلق السموات والأرض لتنبيه الإنسان إلى النظر في الكون فيقول سبحانه وتعالى : ( الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ) ثم يعقب ذلك بقوله ( الرحمن فسئل به خبيراً ) .
وكذلك نقول مثل هذا في قول الله تعالى ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) بأنه ليس المقصود الإخبار باستواء الله تعالى على السماء أو بتعيين وقت هذا الفعل الإلهي المرتب بثُمَّ ، وإنما المقصود الظاهر من تمام الآية هو الإخبار عن تمام الهيمنة والتصرف في السموات والأرض ، وذلك مستفاد من قوله تعالى ( فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين )
فانظر إلى هذا المعنى الجليل اللائق بمقام الألوهية والربوبية وتنـزيه أسماء الله وصفاته عن الحلول والحدوث والمماثلة والمشابهة .
فهل يصح أن يقول قائل : إن الآية جاءت لبيان استواء الله تعالى على السماء ، وماهو الكمال والجلال الذي يحصل بإثبات هذه الصفة التي هي الاستواء إلى السماء ؟
وهل يصح بعد هذا أن يأتي من يفسر صفة الاستواء بأنها الجلوس الحقيقي الذاتي والاستقرار التام المستفاد لغويا من جلس يجلس أي بمعنى استقر يستقر .
اليد:
أما مسألة اليد فقد وردت في خمسة نصوص وهي قوله تعالى : ( بل يداه مبسوطتان ) وقوله تعالى : ( لما خلقت بيدي ) ، وقوله تعالى : ( يد الله فوق أيديهم ) ، وقوله تعالى : ( بيده ملكوت كل شئ ) وقوله تعالى : ( بيدك الخير ) .
فهذه الآيات يجري فيها التحليل والتطبيق السابق تماماً ، ويمكن أن نقول في قوله تعالى : ( بل يداه مبسوطتان ) إن الآية لم ترد في مسألة إثبات اليدين لله تعالى لينبني على ذلك أنها يدٌ حقيقيةٌ أو غير حقيقية وإن كنا نجهل الكيفية ( إذ القول بالكيفية كفر صريح ) لأن مسألة إثبات اليدين من حيث هي يدان لايقدم ولا يؤخر في الكمال أو الجلال الإلهي ، ولا يترتب على اعتقاده زيادة إيمان أو يقين بل قد يجرّ إلى الكفر إن توسع تصوره فيه وزاد عن الحد الوارد ، لكن الذي يزيد الإيمان ويقوي اليقين ويُعظْمِ الرجاء والأمل في الله هو ثبوت الإنفاق والجود والفضل الإلهي .
وهذا الذي جاء بيانه بعد ذلك بقوله ( بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) ولذلك يعبرون عن الكرم بطول اليد فيقولون : فلان يده طويلة ، والمراد أنه كريم جواد ، وليس المراد الطول الحقيقي لأن الوصف بهذا لا فائدة منه في كمال أو جمال ، كما يقولون : فلان يده مخروقة ، والمراد أنه لا يُمسك شيئاً أي لا يدّخر ، وقد قال صلّىالله عليه وسلّم في حق السيدة زينب بنت جحش : (أسرعكنَّ لحاقاً بي أطولكنَّ يداً ) فكنَّ يتطاوَلْنَ بأيديهن ، وإنما كان ذلك لأنها كانت صَنَاعاً تعين بما تصنع في سبيل الله ، فتبادر إلى ذهنهن الطول الحسّي الحقيقي .
ومثل هذا يجري في قول الله تعالى : ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم ) ، فنقول : الآية لم ترد للإخبار عن الله بأن له يداً ، وأن يده هذه فوق الصحابة المبايعين ، وإنما وردت لبيان قضية أكبر من ذلك والإخبار عن مسألة أعظم ، ألا وهي تأكيد هذه البيعة وتعظيم أمرها والإخبار عن شرفها وعلو مقامها ، وربطها بالله سبحانه وتعالى مباشرة لتقوية روابطها وتوثيق عراها لذلك بدأت الآية بالبيعة فقال : ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم ) ثم تَدرج إلى التنبيه إلى أن البيعة مع الله فقال : ( إنما يبايعون الله ) ثم صوَّر هذا المعنى لتقريبه إلى الأذهان فقال: (يد الله فوق أيديهم ) تعظيماً وتبريكا ، ثم بين ما يترتب على قضية اليد للمبايعة والمبايَعَة من الالتزام بالعهد والميثاق وخطر الخيانة ، وأن الذي يخون إنما يخون الله فقال : ( ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ) .
و أكرر فأقول مؤكداً ما سبق : إن مسألة اليد وإثباتها وما يدور في هذه المسألة ليست هي وظيفة الآية وإلاّ لقال : اعلموا أن لله له يد ، أو هو الله الذي له عين ، أو هو الله الذي له يدان مبسوطتان أو هو الله المستوي على عرشه ، فتدبر ، أو هو الله الذي استوى على السماء ، بخلاف غير ذلك من الصفات المعنوية التي ليست بجوارح فإنها تأتي على طريقة الإخبار كقوله تعالى : ( هو الله الذي لا إله إلاّ هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الله الذي لا إله إلاّ هو الملك القدوس السلام المؤمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عمّا يشركون * هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يُسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم ) .
فهذه الصفات جاءت في الآية خبراً عن الله سبحانه وتعالى وعن صفاته ، كقوله سبحانه وتعالى : (اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم ) وعشرات الآيات المشتملة على هذا المعنى مثل (والله غفور رحيم ) ، ( والله محيط بالكافرين ) ، ( إن الله على كل شئ قدير ) ، ( والله عزيز ذوانتقام ) ، ( لا إله إلاّ الله العزيز الحكيم ) .