لما كان في قراءة قصص السابقين من العبر والعظات التي تعين كل مهموم بأمر دينه ، على الصبر والثبات على مايلقاه من مصاعب وإبتلاءات في طريقه الى الله ، كان لابد من تدارس هذه القصة التي بين أيدينا وتدبر مافيها من فوائد ، خاصة ونحن في زمان طغت فيه فتن الشهوات والشبهات ، وهذه القصة هي قصة الغلام والساحر والراهب
وبين ثنايا الحديث سأطرح بعض الفوائد بلون مخالف حتى لا تختلط بالحديث .
روى الإمام مسلم في صحيحه عن صهيب؛
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "كان ملك فيمن كان قبلكم. وكان له ساحر. فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت. فابعث إلي غلاما أعلمه السحر.
من توفيق الله للحاكم أن يختار لنفسه بطانة صالحة من أهل العلم والتخصص في جميع المجالات ، أما أن يهمل ذلك كله ويلجأ الى أهل السحر والكهانة فهذا من الخذلان .
فبعث إليه غلاما يعلمه. فكان في طريقه، إذا سلك، راهب. فقعد إليه وسمع كلامه. فأعجبه.
أسرة غشت صغيرها فدفعت به الى تعلم السحر ليسلك دروب الهالكين ، ولكن العناية الإلهية قيضت له داعية خير يوجهه الى طريق الحق الذي مال إليه بفطرته النقية
فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه. فإذا أتى الساحر ضربه. فشكا ذلك إلى الراهب. فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي. وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر.
وهنا تبدأ مرحلة العلم والتلقي وشتان بين نبع الايمان ونبع الكفر والخسران ، ويبتلى الغلام بالضرب فيفتيه الراهب بالكذب عند الحاجة ، وهذا وان كان في شريعة من قبلنا فإنه يجوز في شريعتنا أيضا الكذب حينما تكون المصلحة ظاهرة ، مثل كذب الرجل على زوجته والعكس، والكذب للإصلاح .
فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس. فقال: اليوم أعلم آلساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجرا فقال: اللهم! إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة. حتى يمضي الناس. فرماها فقتلها. ومضى الناس.
وهذا دور المؤمن الحق في مجتمعه فهو دائما في مصالح الناس من قضاء الحوائج وتذليل العقبات ، ثم يظهر تأييد الله ونصرته للغلام بهذه الكرامة التي أظهرها الله على يديه
فأتى الراهب فأخبره. فقال له الراهب: أي بني! أنت، اليوم، أفضل مني. قد بلغ من أمرك ما أرى. وإنك ستبتلى. فإن ابتليت فلا تدل علي. وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء.
اذن لابد من الابتلاء والتمحيص لكل سائر على طريق الحق ويبتلى المرء على قدر دينه ، وفي قول الراهب (فإن ابتليت فلا تدل علي) دليل على أنه من فقه المرء أن يبتعد عن مواطن البلاء سواء كانت في باب الشبهات أو الشهوات
فسمع جليس للملك كان قد عمي. فأتاه بهدايا كثيرة. فقال: ما ههنا لك أجمع، إن أنت شفيتني. فقال: إني لا أشفي أحدا. إنما يشفي الله. فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك. فآمن بالله. فشفاه الله.
هل نترك الناس على عقائدهم الضالة بإعتقاد النفع والضر لغير الله ؟!!! بالطبع لا ، فلابد من الحرص على تصحيح معتقدات الناس في ربهم وخالفهم ، وهنا تظهر ثمرة التوحيد الخالص للغلام وللمريض على حد سواء فاستجيبت دعوة الغلام وشُفِي المريض بإذن الله
فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس. فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام. فجئ بالغلام. فقال له الملك: أي بني! قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل. فقال: إني لا أشفي أحدا. إنما يشفي الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب. فجئ بالراهب. فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى. فدعا بالمئشار. فوضع المئشار على مفرق رأسه. فشقه حتى وقع شقاه. ثم جئ بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى. فوضع المئشار في مفرق رأسه. فشقه به حتى وقع شقاه.
(بالمئشار) مهموز في رواية الأكثرين: ويجوز تخفيف الهمزة بقلبها ياء. وروى: المنشار، بالنون. وهما لغتان صحيحتان
لا إله إلا الله ما أغلظها من قلوب تفننت في طرق التعذيب وإزهاق الأرواح الطاهرة
سبحان الله ... أهذه نهاية جليس الملك صاحب المنصب والوجاهة ؟!! ينشر بالمنشار ويثبت على دينه !!!
ولماذا العجب ؟ أليس له قلب ؟!!!
وهل ستقف الوجاهة والمنصب حائلا دون تدفق الإيمان في القلب ؟!!!
ثم جئ بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى. فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا. فاصعدوا به الجبل. فإذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه، وإلا فاطرحوه. فذهبوا به فصعدوا به الجبل. فقال: اللهم! اكفنيهم بما شئت. فرجف بهم الجبل فسقطوا.
وهنا يأبى الغلام الا الثبات على دينه وسط كل مظاهر الترهيب من حوله ويلجأ الى القوي العزيز فهو حسبه وكافيه وحاميه من كل شر
وجاء يمشي إلى الملك. فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله. فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور، فتوسطوا به البحر. فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه. فذهبوا به. فقال: اللهم! اكفنيهم بما شئت. فانكفأت بهم السفينة فغرقوا. وجاء يمشي إلى الملك.
ويعود الواثق بربه الى الملك وزبانيته مصطحبا معه قوة إيمانه ويقينه وكأن الله عز وجل قد قللهم في عينيه فلم يراهم شيئا ، جاءهم ليثبت لهم أن ارادتهم ومشيئتهم ليست بشئ بجانب إرادة الله
فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله. فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به.
أنظروا رحمكم الله إلى قمة التحدي والثقة بالله
قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد. وتصلبني على جذع. ثم خذ سهما من كنانتي. ثم ضع السهم في كبد القوس. ثم قل: باسم الله، رب الغلام. ثم ارمني. فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد واحد. وصلبه على جذع. ثم أخذ سهما من كنانته. ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله، رب الغلام. ثم رماه فوقع السهم في صدغه. فوضع يده في صدغه في موضع السهم. فمات. فقال الناس: آمنا برب الغلام. آمنا برب الغلام. آمنا برب الغلام.
وصف للملك الطريقة الوحيدة الناجعة لكي يتخلص منه ، واندفع الملك سامعا مطيعا لكل ما أملاه عليه الغلام وقد أعمى الله بصيرته عن التدبر في النتيجة النهائية لذلك وهي خروج الناس جميعا من عبادته الى عبادة الله الواحد القهار
فأتى الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد، والله! نزل بك حذرك. قد آمن الناس فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدت. وأضرم النيران. وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها. أو قيل له: اقتحم. ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها. فقال لها الغلام: يا أمه! اصبري. فإنك على الحق".
وبعد أن خسر الملك رعيته ، يلجأ الى الحرق عله يحول دون إيمان الناس بالله عز وجل ولكن هيهات هيهات لهذه العزائم أن تلين ، وتأتى الأم الضعيفة المشفقة على صبيها فتتقاعس فيأتيها التثبيت من الله بقول الغلام (يا أمه! اصبري. فإنك على الحق".)
قالها صلى الله عليه وسلم لآل ياسر (صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة )
ونقولها لإخواننا المسلمين المضطهدين في كل أرجاء الأرض إصبروا فإنكم على الحق
اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك يا أرحم الراحمين