وفي لحظات وجدت نفسي ممزقة الشمل وحيدة فريدة ، زوجي اتجه إلى المدينة فراراً بدينه ونفسه ، وولدي اختطفه بنو عبد أسد من بين يدي محطماً ، أما أنا فقد استولى عليَّ قومي بنو مخزوم وجعلوني عندهم ، ففرقوا بيني وبين زوجي وبين ابني في ساعة .
رُوِيَ سيدنا صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه أنّ امرأة أسيرة فقدتْ وليدها ، فلما شكتْ إليه ذلك ، وقف ولم يجلس حتى أعادوا لها وليدها ، دخلت إلى خيمة تنتظر مجيء وليدها ، فإذا زوجها بالخيمة ، فلما عرفته وعرفها بعد طول فراق ، وهما من النصارى ، ويبدو أنها عانقته أو عانقها ، فيروي كتاب التاريخ أن سيدنا صلاح الدين الأيوبي غض بصره وأكبر هذه الرحمة التي وضعها الله بين الزوجين ، فلما حدثته عن معاملة المسلمين ، وكان زوجها فارساً من فرسان أوربا المشاهير ، أسلم لتوه وعينه صلاح الدين الأيوبي أحد قادته الكبار ، ما هذه المعاملة ؟ يعني المسلمون يتحلَّون بأعلى درجات الكمال ، لكنهم المسلمون الصادقون !!.
قالت ومنذ ذلك اليوم جعلت أخرج كل غداة إلى الأبطح ، فاجلس في المكان الذي شهد مأساتي ، فإذا قرأ إنسانٌ السيرةَ ، وذهب للحج أو للعمرة فما هي الكلمات التي يقرؤها ؟ الآن إلى جانب الحرم لوحة صغيرة مكتوب عليها في منطقة (الأبطح) ، والآن أقيمت فيها أبنية شامخة ، وشوارع ، وبنايات ، وعمارات ، وجسور ، في هذا المكان كان تخرج أم سلمة كل يوم ، قالت : فأجلس في المكان الذي شهد مأساتي وأستعيد صورة اللحظات التي حيل خلالها بيني وبين ولدي وزوجي ، وأظل أبكي حتى يخيم عليَّ الليل .
إذاً الذي أودعه الله في قلب الزوجة من محبة لزوجها ، والذي أودعه الله في قلب الزوج من محبة لزوجته ، ومن محبة الزوجين لابنهما ، ومن محبة الابن لوالديه ، فهذه رحمة من الله سبحانه أودعها الله قلوبَ عباده .
لذلك فالنبي الكريم قال : ليس منا من فرق بين والدة وولدها ، وينطبق هذا القولُ على كل إنسان يفرِّق بين أم وولدها ، حتى لو كانا من البهائم ، من أجل أنْ يشتري حيوانًا يبيع ابنها ، إذا فرَّقت بين فرس وابنها ، المهر ، وبين سخلة وابنتها ، فالمفرِّق ملعون ، لأن الذي أودعه الله في القلوب لا تمحوه الأحداث أبداً ، لذلك قال تعالى :
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) .( سورة الروم : 21 ) .
وبقيت على ذلك سنة ، أو قريباً من السنة ، إلى أن مر بي رجل من بني عمي فرَقَّ لحالي ، ورحمني ، وقال لبني قومي ، ألا تطلقون هذه المسكينة ، فرقتم بينها وبين زوجها ، وبينها وبين ولدها ، وما زال بهم يستلين قلوبهم ، ويستدر عطفهم حتى قالوا : الْحقي بزوجك إن شئت ، ولكن كيف ألحق بزوجي وهو في المدينة ، وأترك ولدي وفلذة كبدي في مكة عند بني عبد الأسد؟ كيف يمكن لي أن تهدأ لوعة ، أو ترقأَ عَبْرة ، وأنا في دار الهجرة ، وولدي الصغير في مكة لا أعرف عنه شيئاً ؟ فقلب الأم ، وقلب الأب ، يؤكد عظمة الله عز وجل ، قلب الأم يؤكد رحمة الله عز وجل .
أنا رأيت بأم عيني في طريقٍ في بعض المحافظات أنّ شاحنة دهست جرواً ، أول مرة أرى بعيني أمًّا لهذا الجرو تبكي ، والدموع تنهمر من عينيها على الأرض ، حين رأت جروها قد دُهِس .
تقول أمُّ سلمة : ورأى بعض الناس ما أعالج من أحزاني وأشجاني فرقت قلوبهم لحالي ، وكلموا بني عبد الأسد في شأني ، واستعطفوهم عليَّ ، فردوا لي ولدي سلمة ، قالت : فلم أشأ أن أتريث في مكة حتى أجد من أسافر معه ـ قصة غريبة جداً ، لشدة شوقها للمدينة دار الهجرة ، ولزوجها والد ابنها ـ فقد كنت أخشى أن يحدث ما ليس بالحسبان ، فيعوقني عن اللحاق بزوجي عائق ، لذلك بادرت فأعددتُ بعيري ، ووضعت ولدي في حجري ، وخرجتُ متوجهة نحو المدينة أريد زوجي ، وما معي أحد من خلق الله ، امرأة تركب ناقة وفي حجرها ولدها وتُيَمِّم شطر المدينة ، التي تبعد عن مكة 450 كيلومترًا ، تحتاج إلى أن تقطعها الآن في سيارة مكيفة حديثة تسير بسرعة 180 ـ 210 ، في طريق سريعة عريضة مزفَّتة ، تحتاج إلى خمس ساعات سير ، أو ثلاث ساعات ، وكان أصحاب النبي يقطعون هذه الطريق في اثني عشر يوماً.
بربكم أرجو أن توازنوا بين ما نحن فيه وبين ما كان أصحاب رسول الله فيه ، بل الأغرب من ذلك وازنوا بين ما نحن فيه ، وبين ما كان فيه أهل الجاهلية .
قالت : وما إن بلغت التنعيم ؛ التنعيم الآن منطقة فيها مسجد السيدة عائشة ، مكان الإحرام للعمرة ، وما إن بلغت التنعيم حتى لقيت عثمان ابن طلحة فقال : إلى أين يا بنت زاد الراكب ؟
قلت أريد زوجي في المدينة .
قال : أو ما معك أحد ؟.
قلت : لا والله ، إلا الله ، ثم بنيَّ هذا .
قال : واللهِ لا أتركك أبداً حتى تبلغي المدينة .
فسار معها اثني عشر يوماً ، قال : والله لا أتركك أبداً حتى تبلغي المدينة ، ثم أخذ بخطام بعيري وانطلق يهوي بي .
اسمعوا وصف السيدة أم سلمة لهذا الرجل الذي لم يسلم بعد ، هذا مشرك .
قالت : واللهِ ما صحبت رجلاً من العرب قط أكرم منه ولا أشرف ، كان إذا بلغ منزلاً من المنازل ينيخ بعيري ثم يستأخر عني ، حتى إذا نزلت عن ظهره ، واستويت على الأرض ، دنا إلى البعير ، وحط عنه رحله ، واقتاده إلى شجرة ، وقيده فيها ، ثم يتنحى عني بعيداً إلى شجرة أخرى فيضطجع فيها فإذا حان الرواح قام إلى البعير ، فأعدَّه ، وقدَّمه إلي ، ثم يستأخر عني ويقول : أركبي فإذا ركبت واستويت على البعير ، أتى وأخذ بحطامه وقاده .
وازنوا بين هذا الجاهلي وبين شباب المسلمين اليوم ، يعني إذا امرأة في مكان تعثرت ، فالمسلم الشهم يغض بصره فوراً ، أما الدنيء فإنه ينظر إليها ، فهذا الرجل قبل أن يسلم ، هكذا تصرف كما رأيتم وقرأتم عن تصرفاته قبل أسطر .
قالت : والله ما صحبت رجلاً من العرب قط أكرم منه ولا أشرف ، كان إذا بلغ منزلاً من المنازل ينيخ بعيري ثم يستأخر عني ، حتى إذا نزلت عن ظهره ، واستويت على الأرض ، دنا إلى البعير ، وحط عنه رحله ، واقتاده إلى شجرة ، وقيده فيها ، ثم يتَنَحَّى عني بعيداً إلى شجرة أخرى ، فيضطجع في ظلها ، فإذا حان الرواح ، قام إلى البعير فأعده ، وقدمه إلي ، ثم يستأخر عني ويقول : اركبي ، فإذا ركبت واستويت على البعير ، أتى وأخذ بخطامه وقاده ، وما زال يصنع بي مثل ذلك كل يوم حتى بلغنا المدينة ، فلما نظر إلى قرية بقباء لبني عمرو بن عوف قال : زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله ، ثم أنصرف راجعاً ، وسار اثني عشر يومًا، حتى أوصلها سالمةً ، فهو شهم حقًّا ، وصاحب مروءة ، فهذه أخلاق جاهلية أمتنا .
ونضرب مثلا باللغة التجارية فنقول : إذا قبض رجلٌ مالاً من المشتري ، فكتب في سجلاَّته دفعة أولى ، معنى ذلك أنه ستكون هناك دفعة ثانية ، هل هذا الكلام صحيح ؟ نعم ، فكل شيء موثَّق ، ورغم ذلك نجد التحايلَ كثيرًا ، ربنا عز وجل قال :وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) .( سورة الأحزاب : 33 ) .
ولا تبرجــن تبرج الجاهلية الأولى ، فما المعنى ؟ كانت جاهلية أشد ممّا أتى بعدها ، هي جاهلية جهلاء ، يُكذَّب الصادق ، ويُصدَّق الكاذب ، يؤتمن الخائن ، ويخون الأمين ، ويوسَّد الأمر إلى غير أهله ، ويصبح الولد غيظاً ، والمطر قيظاً ، ويفيض اللئام فيضاً ، يغيظ الكرام غيظاً ، يؤمر بالمنكر ، ويُنهى عن المعروف ، وتركب ذواتُ الفروج السروج ، كما ورد في بعض الأحاديث ، ويعق الابنُ أباه ، ويبرُّ صديقه .
وفي أيامنا نجد شبابًا مع والده ووالدته ، أشرس ما يكون ، ومع أصدقائه مثل الجمل الذلول ، سهل المأخذ ، ليّن الجانب ، لطيف ، وديع ، مع رفاقه ، لكنّه مع والده ووالدته شرس .
النبي الكريم أخبر : يوم يذوب قلب المؤمن في جوفه مما يرى ولا يستطيع أن يغير ، أحاديث كثيرة لا أذكرها الآن ، لذلك أُلِّفتْ كتب كثيرة تحت عنوان : جاهلية القرن العشرين ، هناك جاهلية جهلاء ، والملاحَظ الآن في العالَم جاهلية ما بعدها جاهلية ، لا قيم ، ولا مبادئ ، ولا أخلاق ، ولا رحمة ، أبداً ، بل قسوة ما بعدها قسوة ، ووحشية ما بعدها وحشية ، تفاوت ما بعده تفاوت ، قهرٌ ما بعده قهر ، لذلك كلمة الأولى في قوله تعالى لها معانٍ كثيرة ، ولا تبرجن تبـرج الجاهلية الأولى ، فمَن يصدِّق أنّ في بعض البلاد الغربية 30% من حالات الزنى زنى محارم ، الأخت مع أخيها ، والأب مع ابنته ، إلى أن أصبح هذا شبه شائع ، ولا تبتعدوا كثيراً ، هذا الذي نجح في الانتخابات الرئاسية في أمريكا ، لماذا نجح ؟ لأنه وعَد فيما وعدهم بإباحة الإجهاض ، وأما الشاذون جنسياً فهؤلاء سمح لهم بدخول الجيش ، وكأن هذا ليس شذوذاً ، بل هو مقبول اجتماعياً ، هذه هي جاهلية القرن العشرين .
قال : زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله ، ثم أنصرف راجعاً إلى مكة ، اجتمع الشمل الشتيت بعد طول افتراق ، وقرت عين أم سلمة بزوجها وسعد أبو سلمة بصاحبته وولده ، ثم تسارعتْ الأحداث ومضتْ الأيامُ سراعاً كلمح البصر ، فهذه بدر يشهدها أبو سلمة ويعود منها مع المسلمين ، وقد انتصروا نصراً مؤزراً ، وهذه أُحُد يخوض غمارها بعد بدرٍ ، ويبلي فيها أحسن البلاء وأكرمه ، لكنه يخرج منها وقد جرح جرحاً بليغاً ، فما زال يعالجه حتى بدا له أنه قد اندملتْ ، لكن الجرح قد اندمل على فساد ، فما لبث أن انتكأتْ ، ولزم أبو سلمة الفراش ، وفيما كان أبو سلمة يعالَج من جرحه ، قال لزوجته : يا أم سلمة ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يصيب أحد مصيبة فيسترجع عند ذلك فيقول ، ومعنى يسترجع أنْ يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، فيسترجع عند ذلك فيقول اللهم عندك احتسبت مصيبتي هذه ، اللهم اخلفني خيراً منها إلا أعطاه الله عز وجل ، هذا كلام النبي الذي لا ينطق عن الهوى ، اللهم اخلفني خيراً منها إلا فعل الله ذلك ، قالت : ضل أبو سلمة على الفراش مريضًا أياماً ، وفي ذات صباحٍ جاءه النبي صلى الله عليه وسلم ليعوده ، فلم يكد ينتهي من زيارته ويجاوز باب داره حتى فارق أبو سلمة الحياة ، فرجع النبيّ وأغمض عينيه بيديه الشريفتين ، ورفع طرفه إلى السماء وقال : اللهم أغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المقربين ، واخلفه في عقبه من الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين ، هذا دعاء النبي لأبي سلمة وقد توفاه الله عز وجل ، وافسح له في قبره ، ونوِّرْ له فيه .
أمّا أمُّ سلمة فتذكرت ما رواه لها أبو سلمة عن رسول الله فقالت : اللهم عندك احتسبت مصيبتي هذه ـ هكذا يكون المؤمن ، لكنها لشدة إعجابها بأبي سلمة ، ولشدة حبها له ، ولأنها تعتقد أن أحداً لن يكون خيراً منه كزوج لها ، لمّا وصلت لقول النبي : اللهم اخلفني خيراً منه ، ما استساغت نفسُها أنْ تدعوَ بهذا الدعاء ، لم تطب نفسها أن تقول : اللهم اخلفني فيها خيراً منها، لأنها كانت تقول : ومن عساه أن يكون خيراً من أبي سلمة ، ليس معقولاً ، ويبدو أن زوجها كان في أعلى درجة من المروءة ، والشهامة ، والكرم ، والأخوة ، والقوة ، والمنعة ، بعضُ الأزواج ملء السمع والبصر ، فحزن المسلمون لمصاب أم سلمة كما لم يحزنوا لمصاب من قبل ، وأطلقوا عليها اسمَ أيِّم العرب ، إذْ لم يكن لها في المدينة أحدٌ من ذويها غير صِبْية صغار كزغب القطا ، وشعر المهاجرون والأنصار معاً بحق أم سلمة عليهم .
وهنا تعقيب لا بد منه ؛ أنا أقول لكم : هناك زواج في الإسلام لا يقصد منه المتعة إطلاقاً ، زواج شهامة ، زواج مروءة ، حتى تقدم منها أبو بكر الصديق يخطبها لنفسه ، فلا قريب لها ، ولا معيل ، وأولادها صغار ، ولا أحد يدخل عليها ، فأبت أن تستجيب له ، ورفضت ، ثم تقدم منها عمر بن الخطاب ، فردَّته كما ردت صاحبه .
يتبع بإذن الله