وهذا الموقـف الثالـث بعنـوان :
أربـــــــح عَــــقـــــد .. !
أبرزُ صفة عرف بها صديقي أبو أحمد هي < الجِــد > , وأظهر خلق لازمه هو العمل الدؤوب .
ولهذا فقد كان من الأوائل دائماً في جميع مراحله الدراسية , قليل اللعب واللهو , بل لعل اللعب
واللهو لا يعرفانـه ولا يعرفهما .
ورافقه جده في حياته الدراسية , مع حياته العملية , بعد التخرج في الجامعة , ولهذا سرعان ما ارتقى
في المناصب , حتى صار مدير الشركة التي بدأ العمل فيها , ونال ثقة أصحابها الذين أعطوه كثيراُ
من الصلاحيـات التي زادته حباً لعمله وإخلاصاً فيه , إلى درجة كان فيها يستمر في العمل حتى بعد
ساعات انتهاء الدوام الرسمي , بل كان يأخذ كثيراً من الأوراق والملفات إلى بيته , ولم ينس أصحاب
الشركة جهده هذا .. فكانوا يجزلون له المكافآت , وكانت تتوالى في مرتبه الزيادات .
قالت لي زوجتي يوماً , وكانت صديقة حميمة لزوجته , إن أم أحمد تشتكي انشغال زوجها الدائم عنها ,
وانصرافه شبه التام إلى عمله , وإيثاره له على كل أحد , وكل شيء , وإنها لترجوا أن أكلم زوجها
بما ينبهه إلى تقصيره تجاه أهله وبيته , دون أن يعلم مني أنها هي التي اشتكت منه هذا .
في اتصالي به , للاتفاق معه على زيارته في بيته , حدثني عن مشاغله الكثيرة , وفراغه القليل , ولم
أظفر منه بموعد لزيارته في بيته , ولم أجد بُداً عن القبول بزيارته في مكتبه في الشركة .. ولكن في
غير ساعات الدوام الرسمي .. حتى لا أكون مثل أولئك الذين يزورون الناس في أماكن عملهم ..ويأخذون
من أوقاتهم , في قضايا لا صلة لها بالعمل .
زرته في الموعد , وجلست معه أتحدث إليه ويتحدث إليَ في العمل , وفي غير العمل ... ثم قلت له :
ألا تتضايق زوجتك من طول غيابك عن البيت .. وكثرة انشغالك عنها ؟
قال: ولماذا تتضايـق .. ؟
قلت: حاجات البيت كثيرة .. فمن يلبيها ؟
قال: أمام بيتنا بقالة فيها كل شيء .. ليس على زوجتي إلا أن تتصل بالهاتف وتطلب ما تحتاجه
منها .. ليكون عندها في دقائق .. وأنا أحاسب صاحب البقالة كل شهر .. ولا أسألها عن شيء اشترته :
لم اشترته ؟ّ
قلت: هل هذا كل شيء ؟
قال: لعلك تقصد الأولاد ؟ سيــارة بسائقها رهن اشارتهم في أسفل البيت .. يأخذهم إلى حيث
يريدون ويوصلهم إلى أبعد ما يتوقعون .
قلت: ما أردت هذا .. !
قال: أي شيء إذن ؟
قلت: أنت حدثتني عن الجانب المادي وأنــا ...
قاطعني: وأنت تسأل عن الجانب غير المادي ... أحمـد منتسب إلى نادي رياضي يمارس فيه
هواية لعبة كرة القدم .. وعبدالرحمن يشبع هوايته في القراءة وعنده مكتبة أشجعه على إغنائها بالكتب
دائماً ... وفاطمة منتسبة إلى جمعية (.........) الدينية .. وهي تملأ وقت فراغها فيها .. كما أنها تتلقى
التوجيه الديني اللازم .
قلت: .. وزوجتك ؟
قال: زوجتي لا هواية لها .. اللهم إلا تربية الأولاد .
قلت: إذا كان أحمد يذهب إلى ناديه الرياضي .. وعبدالرحمن يجلس في مكتبته يقرأ .. وفاطمة
تذهب إلى جمعيتها .. وأنت تعمل في الشركة بعد الظهر أيضاً .. فكيف تقضي أم أحمد وقتها في
البيت وحدها ؟
قال: تشاهد التلفزيون .. تقرأ .. تزور جاراتها .. تزورها صديقاتها ... الخيارات أمامها كثيرة .. !
قلت: أهذا كل شيء ؟
قال: ماذا تريدني أن أفعل لها ؟
قلت: متى سابقت زوجتك آخر مرة .. ؟
( نظـر إليَ والدهشة والاستغراب يملآن وجهه لهذا السؤال المفاجئ له ) .
قال: متى سابقت زوجتي آخر مرة ؟!!
قلت: أجل .. متى سابقتها آخر مرة ؟
( صمــت لحظات وكان كمن يبحث عن جواب ) .
قال: أبعد هذا العمر يا أخي ؟
قلت: تعني أنك سابقتها حين كنت أصغر ؟
قال: أصدقك القول .. لم أسابقها قط .. !
قلت: ولكن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- سابق أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها
وسنه قد تجاوزت الخمسين .. هل تجاوزت سنك الخمسين يا أبا أحمــد ؟
قال: أنت تعرف يا أخي كثرة انشغالي ومسؤولياتي .
قلت: لن تكون اكثر انشغالاً ومسؤوليات من نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو يحمل رسالة الله
الخاتمة إلى العالمين .. ولم يمنعه هذا أو يشغله عن مسابقة زوجه مرتين .
تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر , وهي جارية
( أي صغيرة السن ) .
قالت: لم أحمل اللحم ولم أبدن ( أي لم تكن سمينة ) , فقال لأصحابه : تقدموا , فتقدموا .
ثم قال : تعالي أسابقك ! , فسابقته , فسبقته على رجليَ , فلما كان بعدُ , وفي رواية فسكت عني ,
حتى إذا حملت اللحم ( أي سمنت ) وبدنت ونسيت , خرجت معه في سفر , فقال لأصحابه : تقدموا , فتقدموا ,
ثم قال : < تعالي أسابقك > ونسيتُ الذي كان , وقد حملت اللحم , فقلت: كيف أسابقك يا رسول الله ..
وأنا على هذه الحال ؟ قال : لتفعلن . فسابقته فسبقني , فجعل يضحك وقال ( هذه بتلك السبقة ) .
رواه أبو داود والنسائي وأحمد في المسند .
قال: صلى الله عليه وسلم ... ما أعظم خلقه , كم نحن بعيدون عنه ! .
قلت: ولماذا لا نقترب منه وهو أسوتنا . ألم يقل لنا رب العزة جل شأنه ( ولكم في رسول الله أسوة
حسنة ) ؟
قال: بلى . ولكن أين أسابق زوجتي اليوم ؟ في الشارع ؟ أمام الناس ؟ أم في السفر , كما فعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم , والسفر اليوم ماعاد مثل سفر الأمس البعيد ؟!
قلت: ألم تخرج مع زوجك و أولادك إلى خيمة نصبتها في البر .. بعيداً عن أعين الناس .. ؟ ألم تكن
الفرصة مواتية لإجراء مثل هذه المسابقة ؟ ثم أريد أن أسأل : أليست هناك مسابقات أخرى , غير الجري ,
تسابق بها زوجتك ؟
قال: مثل ماذا ؟
قلت: مثل لعبة الشطرنج , أو مسابقة ثقافية تطرح فيها عليها الأسئلة , أو غيرها .. فالغاية هي
التواصل مع زوجتك .. في غير قضايا الحياة الجادة ومسؤولياتها .. لتضفي جواً من المرح والمودة على
علاقتك بها .
قال: يبدوا أنني كنت غافلاً عن هذا كله ؟
قلت: كم تحادث زوجتك كل يوم ؟
قال: ( بعد تفكير قصير ) : ربما ربع ساعة .. نصف ساعة أحياناً .. أنت تعلم مسؤوليات الشركة .
قلت: أتحادث زوجتك نصف ساعة يومياً ؟
قال: بعض الأيام .
قلت: وبم تحادثها ؟
قال: تعلم ...
قلت: عن الشركة وما تحققه فيها من نجاح ؟
قال: وماذا عندي غير الشركة ؟
قلت: أنت تحدثها عن الشركة .. لا تحادثها .. لأن المحادثة تقتضي المشاركة .. تحدثها وتحدثك ..
وقد لا يهم زوجتك حديثك عن الشركة قدر ما يهمك أنت !
قال: عمَ أحدثها إذاً ؟
قلت: أي حديث مرح خفيف .. تشيع فيه روح المودة .. وتتخلله المداعبة ..
قاطعني قائلاً: المداعبـــة ؟!
قلت: وما يمنع ؟
قال: أتريد أن تهدم جدار احترام زوجتي لي .. وتضيع بقية هيبة في نفسها لي !
قلت: لماذا لا تعود معي إلى أسوتنا ؟
قال: صلى الله عليه وسلم .
قلت: كان يُرخم اسم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فيقول لها : (( يا عائش )) .
ويجعل ملاعبة الرجل امرأته أول أربعة ليست من اللهو المنهي عنه .
يقول صلى الله عليه وسلم : < كل شيئ ليس من ذكر الله لهو ولعب .. إلا أن يكون أربعة : ملاعبة الرجل امرأته
وتأديب الرجل فرسه ومشي الرجل بين الغرضين ( أي الهدفين , ويراد به الرماية والسباق ) وتعليم الرجل
السباحــــة > . حديث صحيح رواه النسائي .
قال: لقد جعل صلى الله عليه وسلم ملاعبة الرجل زوجته في المرتبة الأولى من الأربعة التي حث عليها .
قلت: .. وتأمل أيضاً هذا الحديث الذي ترويه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها . تقول : قال لي
رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إني لأعلم إذا كنت عني راضية .. وإذا كنت عليَ غضبى > فقلت: من أين
تعرف ذلك ؟ فقال : < إذا كنت عني راضية فإنك تقولين : لا ورب محمد ... وإذا كنت عليَ غضبى قلت:
لا ورب إبـــراهيم >.
أخرجه البخاري وغيره.
قال: إنه صلى الله عليه وسلم يتودد إليها في هذا الحديث .
قلت: أرأيت ؟ ثم لاحظ أن فيه إشارة إلى أن السيدة عائشة رضي الله عنها كثيراً ما تكون غضبى
على النبي ... ولا يجد النبي صلى الله عليه وسلم أي حرج أو رفض لهذا .. بل ربما أن النبي صلى الله
عليه وسلم حدثها بهذا الحديث في حالة من حالات غضبها ليخرجها منه ويسترضيها .
ألم تلحظ أنه يخبرها مباشرة بعلمه بكل حال من حالها ... بل إنه أثار فيها فضول المعرفة لتسأل هي :
من أين تعرف ذلك ؟
قال: إنها حقاً أخلاق نبي ... وحكمة نبي .
قلت: لكننا مدعوون للتخلق بهذه الأخلاق .. والاقتباس من هذه الحكمة .
قال: مسكينة زوجتي ... لقد حرمتها من هذه الملاطفة والملاعبة التي علمنا إياها النبي صلى الله
عليه وسلم ... كانت حياتي معها جادة كل الجد ...