جادَّة أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات
إن جادة أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات وفي الدين عمومًا جادةٌ مستقيمةٌ وصراطهم صراط مستقيم؛ لأنه قام على تعظيم نصوص الشريعة ولزوم ما جاء في الكتاب والسنة دون زيادة أو نقصان، فيؤمنون بما ورد فيهما من أسماء الرب وصفاته، ويمرِّونه كما جاء، ويُثْبِتونه كما ورد، ولا يُحَرِّفون الكلم عن مواضعه، ولا يُلْحِدون في أسمائه وآياته، ولا يكيِّفون صفاته، ولا يمثِّلون شيئًا منها بشيءٍ من صفات خلقه؛ لأنه سبحانه لا سمي له ولا كفء له ولا ند ولا يُقاس بخلقه.
ويؤمنون بأن رسله الذين أخبروا عنه بتلك الصفات صادقون مصدوقون، فكلامهم وحي من الله، ومهمتهم تبليغ رسالة الله، بخلاف الذين يقولون على الله مالا يعلمون بما تُمْليه عليه عقولهم القاصرة وأفهامهم الضعيفة؛ ولهذا قال الله–سبحانه-: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الصافات: 182>.
فسبَّح نفسه عمَّا وصفه به المخالفون للرسل، وسلَّم على المرسلين لسلامة ما قلوه من النقص والعيب، ثم حمَِد نفسه على تفرُّده بالأوصاف التي يستحقُّ عليهما كمال الحمد.
وهكذا الشأن في أتباعهم المقتفين آثارهم، يُثْبِتون ما أثبته رسل الله لربهم من صفات الكمال ونعوت الجلال، كتكليمه لعباده، ومحبته لهم، ورحمته بهم، وعلوه عليهم، واستواءه على عرشه، وغضبه على أعدائه وسخطه عليهم، إلى غير ذلك مما ورد من نعوت الرب الكريمة وصفاته الجليلة، فآمنوا بذلك كله، وأمرُّوه كما جاء، من غير تعرض لكيفية، أو اعتقاد مشابهة، أو مِثْلِية، أو تأويل يؤدِّي إلى تعطيل صفات ربه البرية؛ بل وسِعَتْهم السنة المحمدية والطريقة المرضية، ولم يتجاوزوها إلى ضلالات بدعية أو أهواء ردية، فحازوا بسبب ذلك الرُتَب السنية والمنازل العلية في الدنيا والآخرة، فسَنَنُهم أبيَّن وطريقهم أقوم وهَدْيُهم أَرْشد، بل هو الحق الذي لا حق سواه، والهدى الذي ليس بعده إلا الضلال.
ومنهجهم في هذا الباب قائم على أصلين عظيمين وأساسيين متينين هما: الإثبات بلا تمثيل، والتنزيه بلا تعطيل، فلا يمثِّلون صفات الله بصفات خلقه، كما لا يمثِّلون ذاته سبحانه بذواتهم، ولا ينفون عنه صفات كماله ونعوت جلاله الثابتة في كتابه وسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم-؛ بل يؤمنون بأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.وهذا الإيمان يعدُّ أصلًا من أصول الإيمان الراسخة وأساسًا من أُسُسِه العظيمة التي لا إيمان لمن لم يؤمن بها، فمن جحد شيئًا من أسماء الله وصفاته ونفاها وأنكرها فليس بمؤمن، وكذلك من كيَّفها أو شبَّهها بصفات المخلوقين-سبحان الله عما يصفون وتعالى الله عما يقوله الظالمون-.
قال نُعَيَم بن حمَّاد-رحمه الله-: "من شبَّه الله بشيءٍ من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، فليس فيما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله-صلى الله عليه وسلم- تشبيه".
وقال الإمام أحمد-رحمه الله: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله-صلى الله عليه وسلم-، لا يتَُجاوز القرآن والحديث"
وقال ابن عبد البر-رحمه الله-: "ليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء به منصوصًا في كتاب الله، أو صحَّ عن رسول–صلى الله عليه وسلم-، أو أجمعت عليه الأمة، وما جاء في أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يُسَلَّم له ولا يُنَاظَر فيه".
ومن عظيم نعمة الله على العبد أن يوفِّقه لسلوك هذا النهج القويم القائم على لزوم كتاب الله تعالى وسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم-، بعيدًا عن انحرافات أهل الباطل، وتخرُّصات أهل الضلال؛ بل إنهم مضوا-بحمد الله- على جادَّة واحدة، ولم يتنازعوا في مسألة ٍ واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة كلمةً واحدةً من أولهم إلى آخرهم، لم يسوموها تأويلًا، ولم يحرِّفوها عن مواضعها تبديلًا، ولم يُبْدوا لشيءٍ منها إبطالًا، ولا ضربوا لها أمثالًا؛ بل تلَقَّوها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم، وجعلوا الأمر فيها أمرًا واحدًا، وأَجْرَوها على سَنَن ٍ واحد، ولسان حال قائلهم يقول: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. وهذا الاتفاق الذي مضى عليه أهل السنة عبر التاريخ المديد يُعَدُّ من أبين الدلائل على صحة منهجهم واستقامة مسلكهم.
ولهذا يقول أبو المظفر السمعاني-رحمه الله-: "ومما يدلُّ على أن أهل الحديث على الحق، أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنَّفة من أولهم إلى آخرهم، قديمها وحديثها، وجدتها مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحدٍ منهم قِطرًا من الأقطار، في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمط واحد، يَجْرون فيها على طريقة لا يحيدون عنها، ولا يميلون عنها، قلوبهم في ذلك على قلب واحد، ونَقْلُهم لا ترى فيه اختلافًا، ولا تَفَرُّقًا في شيءٍ ما وإن قل؛ بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم، ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه جاء عن قلبٍ واحد، وجرى على لسانٍ واحد.
وهل على الحق دليل أبين من هذا؟
قال الله تعالى:{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}[النساء: 82>، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}[آل عمران: 103> إلى أن قال-رحمه الله-: وكان السبب في اتفاق أهل الحديث: أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطريق النقل، فأورثهم الاتفاق والائتلاف، وأهل البدع أخذوا الدين من عقولهم، فأورثهم التفرق والاختلاف. فإن النقل والرواية من الثقات والمتقنين قلَّما يختلف، وإن اختلفت في لفظةٍ أو كلمة فذلك الاختلاف لا يضر الدين ولا يقدح فيه، وأما المعقولات والخواطر والآراء فقلَّما تتفق، بل عقل كل واحد ورأيه وخاطره يرى صاحبه غير ما يُرِي الآخر" انتهى كلامه-رحمه الله-.
هذا وإن الخطأ في أسماء الرب سبحانه وصفاته ليس كالخطأ في أي أمر آخر، والواجب على كل مسلم أن يلزم نهج أهل السنة والجماعة، ويسلك سبيلهم، فإنهم على الحق المستبين.قال ابن مسعود-رضي الله عنه-: "من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة؛ أولئك أصحاب محمد-صلى الله عليه وسلم-، أبرَّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقهم علمًا، فاعرفوا لهم حقَّهم وتمسَّكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم".
فهؤلاء معاشر المستمعين سادات هذا الشأن، ثم يليهم تابعيهم بإحسان رزقنا الله حسن الاتباع وحسن العمل إنه سميع مجيب’’’