المبحث الثاني: الوليد بن المغيرة وقوله في القرآن
67 - من حديث عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن الوليد بن المغيرة جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم، إنَّ قومك يريدون أن يجمعوا لك مالًا فقال: لِمَ؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدًا لتعرض ما قبله.
قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالًا.
قال: فقل فيه قولًا يبلغ قومك إنك منكر له.
قال: وماذا أقول؟ فوالله ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجنَّ، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، والله إنَّ لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله؛ لأنه ليعلو ولا يعلى؛ لأنه ليحطم ما تحته. قال: لا يرض عنك قومك حتى تقول فيه.
قال: قف عني حتى أفكر فيه، فلما فكَّر، قال: إن هذا إلا سحر يؤثر. يأثره عن غيره، فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} (سورة المدثر: (11 - 13)) (رواه الحاكم في المستدرك: 2/ 507، وقال صحيح على شرط البخاري).
المبحث الثالث: صور من أذى قومه له
وسيأتي تفصيل أكثر ولكن نذكر بعضه هنا لمناسبته للأحداث في هذا المبحث.
68 - من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال:
"حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يومًا في الحِجْر، فذكروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صرنا منه على أمر عظيم أو كما قالوا.
قال. فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مرَّ بهم طائفًا بالبيت، فلما أن مر بهم غمزوه ببعض ما يقول، قال: فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضي، فلما مرَّ بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فقال: (تسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفس محمَّد بيده لقد جئتكم بالذبح)، فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدَّهم فيه وصاة من قبل ذلك ليرفأه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم، انصرف راشدًا، فوالله ما كنت جهولًا.
قال: فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان من الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا، كما كان يبلغهم عنه من عيب آلهتهم ودينهم، قال: فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (نعم أنا الذي أقول ذلك)، قال: فلقد رأيت رجلًا منهم أخذ بمجمع ردائه، قال: وقام أبو بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - دونه يقول وهو يبكي: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله؟ ثم انصرفوا عنه، فإن ذلك لأشدُّ ما رأيت قريشًا بلغت منها" (رواه أحمد في المسند: 2/ 218 بإسناد صحيح).
وقوله "فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشًا بلغت منه" لا يعني أن النبي لم يؤذ أشد من ذلك، ولكن قال ذلك لما رأى هو، وليس لما رأى غيره.
المبحث الرابع: الدخول في الإسلام على الرغم من الأذى
1 - إسلام حمزة - رضي الله عنه -
جاء في قصة إسلامه عليه رضوان الله عليه آثار مرسلة بأسانيد رجالها ثقات:
69 - عن محمَّد بن كعب القرظي قال: "كان إسلام حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه - حَمِيَّةً، وكان يخرج من الحرم فيصطاد، فإذا رجع مر بمجلس قريش، وكانوا يجلسون عند الصفا والمروة، فيمر بهم فيقول: رميت كذا وكذا، وصنعت كذا وكذا، ثم ينطلق إلى منزله، فأقبل من رميه ذات يوم، فلقيته امرأة فقالت: يا أبا عمارة، ماذا لقي ابن أخيك من أبي جهل بن هشام! شتمه، وتناوله، وعمل وفعل.
فقال: هل رآه أحد؟
قالت: أي والله، لقد رآه ناس.
فأقبل حتى انتهى إلى ذلك المجلس عند الصفا والمروة، فإذا هم جلوس وأبو جهل فيهم.
فاتكأ على قوسه، وقال: رميت كذا وكذا، وفعلت كذا وكذا، ثم جمع يديه بالقوس، فضرب بها بين أذني أبي جهل فوق سنتها، ثم قال: خذها بالقوس، وأخرى بالسيف: وأشهد أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه جاء بالحق من عند الله. قالوا: يا أبا عمارة إنه سبَّ آلهتنا، وإن كنت أنت، وأنت أفضل منه، ما أقررناك وذاك، وما كنت يا أبا عمارة فاحشًا" (قال الهيثمي: 9/ 267 رواه الطبراني مرسلًا، ورجاله ثقات. ومجموع الطرق المرسلة تفيد الحديث قوة وصحة).
وقد جاء من حديث ابن إسحاق عن رجل من أسلم، فذكر القصة أطول مما ذكرت هنا (رواه الحاكم في المستدرك).
2 - إسلام أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه -
70 - من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "لما بلغ أبا ذر مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي، فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله، ثم ائتني. فانطلق الأخ حتى قدمه وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلامًا ما هو بالشعر. فقال: ما شفيتني مما أردت. فتزود، وحمل سنة له فيها ماء، حتى قدم مكة، فأتى المسجد، فالتمس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه، حتى أدركه بعض الليل (اضطجع)، فرآه علي فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه، فلم يسأل واحدًا صاحبه عن شيء حتى أصبح، قام احتمل قربته وزاده إلى المسجد، وظلَّ ذلك اليوم، ولا يراه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمر به عليٌّ فقال: أما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه، فذهب به معه، لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان يوم الثالث فعاد علي على مثل ذلك، فأقام معه، فقال: ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟
قال: إن أعطيتني عهدًا وميثاقًا لترشدني فعلت. ففعل، فأخبره. قال: فإنه حقٌّ، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئًا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي.
ففعل، فانطلق يقفوه (يتبعه)، حتى دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودخل معه، فسمع من قوله، وأسلم مكانه.
فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري. قال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم.
فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ثم قام القوم فضربوه حتى أوجعوه. وأتى العباس فأكب علي، قال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم إلى الشام؟ فأنقذه منهم.
ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه وثاروا إليه، فأكب العباس عليه" (البخاري).
وقد جاءت قصة إسلامه مبسوطة أكثر عند مسلم من حديث عبد الله بن الصامت، وفيها زيادات كثيرة، فانظر التوفيق بين الروايتين في فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى.