يا رجل.. أفصح عن حُبِّك
لي صديق يعمل عملاً إداريًّا يحتاج فيه إلى توقيع عدد هائل من الأوراق كل يوم، وكنت ألحظ توقيعه فأجده يتبادل التوقيع بشكلين مختلفين بين الفترة والأخرى، ولما سألت عن سر ذلك وعن أن أحد التوقيعين لا يمت لحروف اسمه بصلة، فأجابني بخجل وعيناه تفضلان عدم لقاء عينيَّ: إنني في أحيان كثيرة أشتاق إلى زوجتي، وأستشعر فقدها، وأتلمس لقياها، فسألته: أمن طول غياب؟… فأجابني بالنفي وقد زاد إطراقًا: والله إني لأفتقدها مع أنها تكون قد ودعتني إلى عملي في الصباح، بعد إفطار شهي وشاي صبوح وحوار دافئ، وأنا أعبر عن ذلك الفيض من المشاعر المنثالة بأن أوقع باسمها أو أجرى مكالمة هاتفية معها أبثها تحية سريعة أو كلمة حب خاطفة وسط نهار ازدحم بأعباء العمل.
وتعجبت لشدة إنسانيته وسمو عاطفته وتوهجها، خصوصًا إذا علمت أن هذا الصديق تعدى الستين من عمره، ومضى على زواجه أكثر من 35 عامًا، كما تعجبت لخجل الرجل وحرصه البالغ على إخفاء هذه الحقائق؛ ولأنه صديقي ولأني أعرفه جيدًا فلم أفسر خجله هذا بأن هذه خصوصية يريد إخفاءها، ولكنني فسرته بأنه الخجل من إظهار هذا الحب؛ لذا فقد علقت على هذا الموقف قائلاً: إن هذه المشاعر لهي مشاعر مشرفة تستحق أن تعلن وتبرز ويشار إليها ويشاد بها، لا أن تُكْبَت وتُخْفى وتُسْجن في أقفاص الصدور.
جرَّني ذلك للتفكير في طبيعة عقلياتنا المترددة أمام هذا الأمر، وهو ذكر الحب والإفصاح عنه، فقد شاع عندنا -لا أدري لأسباب تربوية أم أخلاقية- أن الإفصاح عن الحب ضعف، وأن من الكبرياء والكرامة تعمد عدم ذكر هذه العاطفة للطرف الآخر، وإذا فهمنا دوافع الكتمان بين المحبين الذين ليس ثمة رابط شرعيّ بينهما، فإننا لا نفهم -فضلاً عن أن نتفهم- أن يظل الزوجان يدوران في فلك الكتمان، بدعوى الكبرياء والحفاظ على الصورة السامية لكل طرف في عين الآخر لأنه من العيب!!، أن يضبط أحدهما وهو ينفس عما يعتمل داخله من رومانسية رقيقة أو عواطف رقراقة صافية، وكم من حب ضاع بين مفاهيم السمو الخاطئة وبين معاني الكبرياء والكرامة، وبين سوء حصر العلاقة بين الزوجين إلى علاقة الفراش فحسب، فتكون النتيجة أن يبحث أحد الطرفين أو كلاهما لمن يشبع فيهما الاحتياجات الأخرى: الحنان الضائع والرومانسية المفتقدة من كلمات ناعمة، وشموع مضاءة، ونظرات مودة ورحمة.
وإذا كانت هذه ثقافة مجتمعنا العربي تجاه هذه القضية فإن ثقافتنا الإسلامية الأصيلة لا علاقة لها بهذه "الفبركات" التربوية وإنما بها جوانب أخرى نستعرضها.
الله سبحانه وتعالى صرح بحبه لبعض فئات البشر "المؤمنين، المتوكلين، التوابين، المتطهرين"، كما صرَّح بحبه وتزكيته لبعض الأفعال والصفات الإنسانية: "إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا …"، وإذا كان في أمر التصريح بالحب ضعف أو نحوه لما صح ذلك في حق الله -سبحانه وتعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا-، والقرآن يصف أرقى علاقة قلبية في الكون، وهي علاقة الخالق القادر بالمخلوق الطائع بقوله سبحانه :"يحبُّهُم ويحبُّونَه".
وسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهي البيان العملي للإسلام تشهد بعكس ما توارثناه في مجتمعاتنا، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أوصى بنشر هذا الحب، ونشر ثقافة الإفصاح عن الحب حينما أخبره أحد صحابته أنه يحب فلانًا، فسأله: أأخبرته؟ قال: لا، قال: إذن فأخبره".
ولا شك أن الإفصاح عن الحب يعمق الروابط بين القلوب، كما يؤكد على المشاعر التي قد لا يشعر بها البعض أو لا يُقدّر حجمها -وهي مكنونة في الصدور- إلا إذا أظهرها اللسان وعبَّر عنها، والأمر لدى الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ليس وسيلته الوحيدة اللسان ولكن الهدية وسيلة، "تهادوا تحابوا"، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم"، والصحابة -رضي الله عنهم- في شوق يسألونه بلى يا رسول الله .. قال : "أفشوا السلام بينكم"، وإذا كان أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم - بالإفصاح بين الصحابة –رضي الله عنهم- بعضهم البعض، فهو في معاملته لأزواجه كان نموذجًا فريدًا .. فهو يقرأ القرآن في حجر عائشة، ويلعق أصابعها بعد الأكل، ويغتسلا سويًّا في إناء واحد، ويتسابقان خلف القافلة حيث لا يراهما أحد .. ويدللها ويناديها: يا عائش .. كيف نصف هذه اللحظات؟؟ إنها رومانسية فائقة، لحظات من الحب النادر، لم تمنعه أعباء الدعوة، ولا تبعات الجهاد، ولا مكر الأعداء، ولا الوقوف الدائم بين يدي الله من أن يكون عاطفيًّا يتفنن (صلى الله عليه وسلم) في إظهار مشاعره في كل لفتة أو همسة، لم يخش أن يوصف بالإقبال على زوجاته أو إظهار حبه لهن !! لسبب واضح أنه ليس عيبًا بل درسًا يُعَلَّم..
ولله تأمَّل موقفه صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في المسجد، تأتيه زوجته المحِبَّة "صفية" – رضي الله عنها - توصل له طعامًا أو تأنس بالحديث معه، ثم إذا خرجت لم يتركها تذهب وحدها وإنما قطع اعتكافه، ولم يمنعه وجوده بين يدي ربه من أن يخرج ليمشي معها قليلاً ويوصلها إلى بيتها، في حديث متصل حميميّ، ومشاعر نابضة لا تنقطع، ولم يخشَ أن يقال إن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج من معتكفه وقطع عبادته؛ لأنه لا يخشى في الله لومة لائم، ولكن حين يقابل بعض صحابته يُعْلِمْهم ويعَلِّمهم: هذه صفية .. هذه صفية.
والرسول صلى الله عليه وسلم مع كعب بن مالك -أحد المخلفين الذي أمر الله بمقاطعة الأمة المسلمة لهم جميعًا- له أمر عجيب يدل على مدى حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابته الكرام – رضوان الله عليهم -، واستعمال وسيلة النظرة الحانية في إظهار هذا الحب يقول أبي: "إنني كنت أجلس مع الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته في المسجد، يُهَيَّأ إليّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم ينظر لي، وحين ألتفت إليه أجده أشاح بوجهه كأنه لا ينظر إليّ.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقع بين أمرين حبه لكعب، وحرصه عليه، وشفقته من عدم احتماله للمقاطعة العامة ذلك من ناحية، ومن ناحية أخرى أمر الله تعالى بالمقاطعة وعلمه صلى الله عليه وسلم أن ذلك الأمر أصلح تربويًّا ونفسيًّا لأبي، والرسول صلى الله عليه وسلم يُفْهِمنا أن النظرة الحانية وسيلة ساحرة، وأن صدق أشعتها ينفذ إلى القلوب حتى ولو لم ترها العيون.
وللصحابة رضوان الله عليهم في الحب سيرة عجيبة نكتفي بهذه العلاقة الحميمة بين عمر وأبي عبيدة رضي الله عنهما فكان الحب والود بينهم لا ينقطع، ويعبران عن ذلك في مناسبات شتى فعمر رضي الله عنه حين يتمنى كل صحابي شيئاً تمنى عمر رجلاً مثل أبي عبيدة، وحين مات أبو عبيدة رضي الله عنه فحَدِّث ولا حرج عن مشاعر الحزن والوجد عند عمر الفاروق رضي الله عنه، ولكن الموقف الأوضح في هذه العلاقة ما قرأته في "الإحياء" عن أن عمرًا رضي الله عنه ذلك الشديد القوي الذي لا يتوانى عن القتال والجهاد، والذي لا يعبأ من عاقب بدرته ما دام قد أخطأ، عمر هذا هو نفسه الذي كان إذا لقي أبا عبيدة رضي الله عنه انتحى به جانبًا من الطريق وجعل أحدهما يقبل يد الآخر - إجلالاً وإكبارًا - ويسمع صوت بكائهما!!
فالثقافة الإسلامية ليس فيها ما يمنع من "الإفصاح" في إطار منضبط من كونه في إطار العلاقات السوية المعلنة، وفي إطار القول الطيب وعدم إشاعة الفاحشة.
فلنفصح عن مشاعرنا ولنفتح قلوبنا، فإن كثيرًا من الأوراق تذبل، وكثيراً من المشاعر تموت لأننا لا نزكيها بالذكر، ولا نرويها بالتعبير عنها.