هكذا فليكن الآباء
يحيى بن موسى الزهراني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى ، وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى . . وبعد : المقدمة :
أبدأ حديثي هذا بقصة عالم من العلماء ، وفقيه من الفقهاء ، عابد زاهد ، ترك الدنيا ، واشترى الآخرة ، في قصة العجيبة الغريبة علينا اليوم ، قصة تزويجه ابنته لطالب علم فقير ، فأغناه الله بذلك ، ورفع ذكر العالم الفقيه ، إنه أبو محمد سعيد بن المسيب ؛ أحد الفقهاء السبعة بالمدينة .
كان سيد التابعين من الطراز الأول ، جمع بين الحديث والفقه والزهد والعبادة والورع ، سمع سعد بن أبي وقاص الزهري وأبا هريرة رضي الله عنهما .
القصة :
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لرجل سأله عن مسألة: أيت ذاك فسله، يعني سعيداً، ثم ارجع إلي بأخبرني، ففعل ذلك وأخبره، فقال: ألم أخبركم أنه أحد العلماء وقال أيضاً في حقه لأصحابه: لو رأى هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لسره. وكان قد لقي جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وسمع منهم، ودخل على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عنهن، وأكثر روايته المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه، وكان زوج ابنته. وسئل الزهري ومكحول: من أفقه من أدركتما فقالا: سعيد بن المسيب؛ وروي عنه أنه قال: حججت أربعين حجة؛ وعنه أنه قال: ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ أربعين سنة، وما نظرت إلى قفا رجل في الصلاة منذ أربعين سنة، لمحافظته على الصف الأول، وقيل إنه صلى الصبح بوضوء العشاء خمسين سنة ، وكان يقول : ما أعزت العباد نفسها بمثل طاعة الله، ولا أهانت نفسها بمثل معصية الله، ودعي إلى نيف وثلاثين ألفاً ليأخذها فقال: لا حاجة لي فيها ولا في بني مروان، حتى ألقى الله فيحكم بيني وبينهم.
وقال أبو وداعة _ هو كثير بن المطلب بن أبي وداعة _ كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أياماً، فلما جئته قال: أين كنت قلت: توفيت أهلي فاشتغلت بها، فقال: هلا أخبرتنا فشهدناها قال: ثم أردت أن أقوم فقال: هلا أحدثت امرأة غيرها فقلت: يرحمك الله ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة فقال: إن أنا فعلت تفعل قلت: نعم، ثم حمد الله تعالى وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وزوجني على درهمين أو قال على ثلاثة، قال: فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح، فصرت إلى منزلي، وجعلت أتفكر ممن آخذ وأستدين، وصليت المغرب، وكنت صائماً، فقدمت عشاي لأفطر، وكان خبزاً وزيتاً، وإذا بالباب يقرع، فقلت: من هذا قال: سعيد، ففكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب، فإنه لم ير منذ أربعين سنة إلا ما بين بيته والمسجد، فقمت وخرجت، وإذا بسعيد بن المسيب، فظننت أنه قد بدا له، فقلت: يا أبا محمد، هلا أرسلت إلي فآتيك قال: لا، أنت أحق أن تؤتى، قلت: فما تأمرني قال: رأيتك رجلاً عزباً قد تزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك، فإذا هي قائمة خلفه في طوله ثم دفعها في الباب ورد الباب، فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب، ثم صعدت إلى السطح، فناديت الجيران، فجاءوني وقالوا: ما شأنك فقلت: زوجني سعيد بن المسيب اليوم ابنته وقد جاء بها على غفلة، وها هي في الدار، فنزلوا إليها، وبلغ أمي فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها ثلاثة أيام، فأقمت ثلاثاً ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس وأحفظهم لكتاب الله تعالى وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرفهم بحق الزوج؛ قال: فمكث شهراً لا يأتيني ولا آتيه، ثم أتيته بعد شهر وهو في حلقته، فسلمت عليه، فرد علي ولم يكلمني حتى انفض من في المسجد، فلما لم يبق غيري، قال: ما حال ذلك الإنسان قلت: هو على ما يحب الصديق ويكره العدو، قال: إن رابك شيء فالعصا، فانصرفت إلى منزلي ، فوجه إلي بعشرين ألف درهم .
فوائد وفرائد :
من هذه القصة التي تبدوا اليوم وكأنها أساطير ، بل من قصص ألف ليلة وليلة ، بل وكأنها من قصص الغول والسعالي التي يخوف بها الأولاد ، وكأنها خيال لا صحة له ، لكنها حقيقة صحيحة لا مراء فيها ، ولا جدال فيها ، هل يأخذ الآباء والأولياء منها عبرة وعظة ؟
للأب الصادق المخلص الذي لا يعرض ابنته للبيع والمزايدة والمساومة ، بل يتق الله فيها ، ويعمل جاهداً لإسعادها في الدنيا والآخرة ، وذلك بتزويجها الرجل الصالح المؤمن الخائف الوجل من ربه ، تحقيقاً لقول رسولُ الله _ صلى الله عليه وسلم _ : " إِذا خَطَبَ إِليكم من تَرضَون دينه وخُلُقَه _ وفي رواية أمانته _ فزوجّوه ، إِلا أن تفعلوا تكن فتنة في الأرض ، وفساد عريض " [ أخرجه الترمذي وحسنه الألباني ] .
إذا أتاكم : أي خطب إليكم بنتكم .
من ترضون خلقه : لأن الخلق مدار حسن المعاش .
ودينه : لأن الدين مدار أداء الحقوق .
إلا تفعلوا . . . الخ : أي إن لم تزوجوا من ترضون دينه وخلقه ، وترغبوا في ذوي الحسب والمال ، تكن فتنة وفساد ، لأن الحسب والمال يؤديان إلى الفتنة والفساد عادة ، وهذا هو المشاهد في كل زمان ، إلا من رحم ربك .
الزمام والخطام :
نحن اليوم بحاجة ماسة ، وضرورة ملحة إلى رجال يمتثلون أمر الله عز وجل القائل سبحانه : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } [ النساء34 ] .
نعم أيها الإخوة نحن بحاجة إلى رجال يقومون بشأن البيوت والأسر ، ولا يتركونها لبعض السفهاء وقاصرات التفكير والعلم والدين من النساء ، وما نحن فيه اليوم من إسراف وتبذير إلا بسبب ذلك .
فاجعل زمام الزواج ، وخطام العرس بيديك أنت ، ولا مانع من المشورة الأسرية في حدود العقل والمعرفة .
الأمانة العظيمة :
أيها الآباء . . اتقوا الله عز وجل في بناتكم ومن هن تحت ولايتكم ، زوجوهن إذا رغبن الزواج وأتاكم من ترضون دينه وخلقه وأمانته ، فهذا من أعظم حقوق بناتكم عليكم ، وإلا سوف تلقى الله وهي متعلقة في رقبتك ، تشكوك إلى جبار السموات والأرض ، تقول : يا رب منعني أبي من الزواج ، يا رب أبي سبب انحرافي وضياعي ، قال تعالى : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ } [ الصافات24 ] .
تذكر أيها الولي أن ابنتك أمانة عظيمة بين يديك ، فما أنت صانع بها ، ألا فاصنع كما صنع الشيخ العالم الرباني سعيد بن المسيب ، الذي زوج ابنته لطالب علم فقير ، لأنه يعلم أن الله سيغنيه من فضله ، لأنه يقرأ قول الله تعالى : { وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ النور32 ] .
وتفسير الآية : زوِّجوا _ أيها المؤمنون _ مَن لا زوج له من الأحرار والحرائر والصالحين مِن عبيدكم وجواريكم ، إن يكن الراغب في الزواج للعفة فقيرًا يغنه الله من واسع رزقه ، والله واسع ، كثير الخير ، عظيم الفضل ، عليم بأحوال عباده .
فالنكاح من أسباب الغنى من الفقر ، فلا يغرنك أيها الأب الفاضل غنى بعض الخطاب الفساق ، فالغنى غنى النفس ، وليس عن كثرة العرض كما صح الخبر بذلك ، فالفقير الصالح التقي ، خير من ملئ الأرض من غني فاسق عاص لله ، واعلم أن الزواج مما يعين الفقير على الغنى ، عن أبي بكر رضي الله عنه قال : أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ، ينجز لكم ما وعدكم من الغنى _ يقصد تفسير الآية السابقة _ وعن عمر وابن عباس مثله ، قال ابن عباس : التمسوا الرزق بالنكاح ، وقال طلحة بن مطرف : تزوجوا فإنه أوسع لكم في رزقكم ، وأوسع لكم في أخلاقكم ، ويزيد في مروءتكم .
فتوى مهمة :
قال العلامة الشيخ صالح الفوزان عضو هيئة كبار العلماء في المنتقى من فتاوى الفوزان 1/55 : " ويحرم على الوالد أن يعضل ابنته عن الزواج من أجل أن يحصل على مهر كثير " .
وقال حفظه الله : " ولا يجوز للأب أن يمنع تزويج ابنته من الكفء الصالح " .
وقال أيضاً : " يجب على ولي المرأة إذا تقدم لها كفء يناسبها ورغبت في الزواج منه فإنه يجب عليه أن يزوجها منه لقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد " [ رواه الترمذي في سننه من حديث أبي حاتم المزني رضي الله عنه ] . فإذا لم يزوجها بكفئها الذي رضيت به فإنه يكون قد عضلها ، والعضل محرم ، وحينئذ تسقط ولايته عليها إلى من بعده من أوليائها على الترتيب ، ويجب عليه أن يختار لها الكفء الذي يناسبها ، أما إذا لم يكن لرفضه سبب صحيح فحرام عليه أن يمنعها وأن يعضلها ، وإذا كان في المسألة أولياء آخرون ، فالولاية تنتقل إليهم ، ويرجع إلى القاضي في هذه القضية ليراعي المصلحة ، وينقل الولاية من هذا إلى من هو بعده في الترتيب ، لضبط هذه المسألة ، وضبط الواقع فيها " [ 4/69 ] .
خيانة الأمانة :
كم من الآباء من خانوا الأمانة التي حملهم الله إياها ، في قوله تعالى : { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً } [ النساء58 ] .
وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ الأنفال27-28 ] .
وتأمل أيها العبد ضعفك وجهلك ، حيث يقول الحق تبارك وتعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب72 ] .
كثر الزنا :
لقد كثر الزنا ، وانتشرت بيوت الدعارة ، وسافر الشباب إلى بلاد موبوءة محمومة مشبوهة ، واكتفوا بالحرام عن الحلال ، فلماذا هذا أيها المسلمون ؟
إنه بسبب تعنت الكثير من الآباء ، بسبب ظلم الكثير من الأولياء ، بسبب الجشع والطمع في راتب البنت والبنات ، ونسي أولئك الآباء أنهم بفعلهم هذا يصادمون القرآن والسنة ، يمنعون الزواج بكثرة الطلبات ، والمغالاة في المهور ، وسد الطرق إلى الحلال ، وفتح الطرق إلى الحرام ، فإذا لم يجد أولئك الشباب والشابات طريق وملاذا حلالاً يقضون فيه شهوتهم ، فلا ريب أنهم سيسلكون طرق الحرام ، فيكون الوزر والذنب والشؤم على الأمة جمعاء ، ومن سبب ذلك إنهم الآباء والأولياء الذين خالفوا الفطر السليمة ، والعقول الصحيحة ، فأغلقوا أبواب الحلال ، وفتحوا أبواب الحرام ، ليلج منها أبناء المسلمين وبناتهم ، بالمغالاة في المهور ، والإسراف في الولائم والدعوات ، ومنع الخطاب الصلحاء الأكفاء ، ولقد جاء في حقهم قولاً غليظاً ، ووعيداً عظيماً ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ ، مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ ، مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ " [ رواه ابن ماجة ] .
همسة مهمة :
لقد أصبحت بيوت الدعارة التي يديرها أعداء الله تعالى وأعداؤنا منتشرة في بلادنا ، لنشر الفاحشة والرذيلة بين أبنائنا وبناتنا ، وانتشار الأمراض المهلكة في ربوع بلادنا ، بلاد الحرمين ، والأماكن المقدسة ، حتى أصبح الحرام بعشرة ريالات ، ومن أراد إحصان نفسه بالحلال يكلف مئات الآلاف من الريالات .
فلا تكن يداً أو ضلعاً في هذه المؤامرة القذرة ضد أبنائنا وبناتنا وبلادنا ، وإلا دخلت في هذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [ النور19 ] .
لأنك بمنعك زواج ابنتك ، بكثرة مهرها ، أو عضلها لأكل راتبها ، أو منعها لأي سبب كان غير مقنع ، فأنت ممن يسبب انتشار الفاحشة والزنا والفساد بين العباد في أطهر البلاد .
فما أنت فاعل أيها الأب الكريم ، أيها الولي المبارك ؟
ألا فكن أيها الأب والولي ممن حصلت له الطوبى ، واحذر من الأخرى .
لا للمغالاة في المهور :
قال العلامة الشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله : " الذي ينبغي للإنسان أن يجعل أكبر همه دين الخاطب وخلقه, فإن هذا هو الذي فيه البركة, فكما أنه ينظر إلى دين الخاطب وخلقه, كذلك أيضاً ينظر إلى دين المرأة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لمالها وحسبها وجمالها ودينها, فاظفر بذات الدين) وكون الناس الآن لا يزوجون إلا بمهور عالية مرتفعة جداً, هذا خطر على الأمة من عدة وجوه: الوجه الأول: نزع البركة من النكاح؛ لأن (أعظم النكاح بركة أيسره مئونة). الوجه الثاني: أن الناس يعزفون عن نكاح بنات البلد, ويذهبون إلى النكاح من خارج البلد, كما هو الواقع الآن؛ لأن خارج البلد يزوجون بالرخيص لأسباب ليس المراد هنا ذكرها, ومعلوم أن تزوج الإنسان من خارج البلد -ولا أعني بالبلد بلده الخاصة أعني البلد خارج المملكة - يترتب عليه مشاكل كثيرة؛ لأن النكاح يترتب عليه أحكام كثيرة: النسب, والإرث, والصلة, وغير ذلك, وهذا يولد مشاكل في المستقبل, ولهذا ندم كثير من الناس الذين تزوجوا من الخارج على ما فعلوا, لكن متى..؟! بعد أن فات الأوان, وحصل الأولاد والذرية. الوجه الثالث: أنه إذا تقلص النكاح من بنات البلد فالمرأة كالرجل, تحتاج إلى نكاح, ويكون هذا سبباً للزنا والعهر والعياذ بالله. الوجه الرابع: أن هذه التي يأتي بها من الخارج ربما يكون لها عادات وأخلاق وديانة تفسد الزوج وأولادها, وفيهم من فيه الخير والصلاح لا شك. فلهذا نحن ننهى عن المغالاة في المهور, ونقول: (أعظم النكاح بركة أيسره مئونة). الوجه الخامس: إذا رد ولي المرأة من هو كفء لها في الخلق والدين ولم يتقدم خاطب أولى منه؛ كان غاشاً لها وخائناً لأمانته, لأن ولي الأمر وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي له الولاية العامة على أمته بالتوجيه والإرشاد يقول: (أنكحوا ...) وهذا يخالف. وأما إذا اختار لموليته من بنت أو أخت أو غيرهما من لا يصلي فهذا -والعياذ بالله- أخطأ خطأً عظيماً؛ لأن الذي لا يصلي لا يجوز أن يزوج, مهما كان في الخلق, ومهما كان في المال, ومهما كان في الجمال, لا يجوز أن يزوج إطلاقاً، بل إذا كان معه زوجة يجب أن يفسخ النكاح إذا ترك الصلاة؛ لأنه إذا ترك الصلاة كان كافراً مرتداً عن دين الله, وقد قال الله تعالى: { فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } [ الممتحنة10 ] ، كذلك إذا اختار الإنسان لموليته فاسقاً سيئ الخلق فإنه غاش لها, وما أكثر النساء اللاتي يشتكين من هذه المسألة, يزوجن بمن ليسوا بأكفاء فيحصل الشر والبلاء والنكد, فنسأل الله أن يهدي الجميع. مسألة التعدد: إذا كانت البنت لا تختار هذا فمعلوم أن الأمر إليها, وأما إذا رضيت بإنسان عنده زوجة سابقة فلا يجوز لوليها أن يمنعها, بل إن العلماء قالوا: إذا منع الأب ابنته من خاطب كفء وتكرر ذلك منه صار فاسقاً لا تصلح له ولاية, وتنزع الولاية منه إلى من بعده.
البنات جنة ونار :
يا أيها الآباء ، يا أيها الأولياء . . ألا تريدون جنة الخلد وملك لا يبلى ، ألا تريدون مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة ، ألا تريدون النجاة من النار ، تأملوا بقلوبكم وعقولكم قول الحبيب الشفيق الرفيق بكم _ عليه الصلاة والسلام وهو يناديكم ويعلمكم كيفية التعامل مع البنات والأخوات :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ عَالَ ابْنَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثَ بَنَاتٍ أَوْ أُخْتَيْنِ أَوْ ثَلاَثَ أَخَوَاتٍ حَتَّى يَمُتْنَ أَوْ يَمُوتَ عَنْهُنَّ كُنْتُ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ " ، وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى " [ رواه الترمذي وأحمد وغيرهما ] .
وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا وَمَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا فَأَعْطَيْتُهَا تَمْرَةً فَشَقَّتْهَا بَيْنَهُمَا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : " مَنِ ابْتُلِىَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْراً مِنَ النَّارِ " [ متفق عليه ] .
فأين الإحسان الذي أمر به الإسلام ، مع آباء لا يعرفون إلا لغة الريالات ، والمغالاة في المهور ، ومنع البنات من الزواج بالكفء من الخطاب .
ألا وإن من أعظم الإحسان إلى البنات تزويجهن ، وتقليل مهرهن ، بل والسعي جاهداً لمساعدة الزوج على كلفة الزواج ، من استراحة أو بيت أو مخيم بدل قصور الأفراح ، والوليمة بكبشين ، بدل العشرين ، والتيسير بدل التعسير ، هكذا نكون قد أصبحنا قدوة يُحتذى بها ، وأسوة يُقتدى بها ، وبهذا نكون قد حققنا مراد الله ورسوله من الزواج ، وإقامة الأسرة المسلمة ، والمكاثرة بهذه الأمة .
آباء ناجحون فائزون :
ونحن إذ نناصح بعض الآباء الجشعين الطماعين ، الجماعين المناعين ، الذين قال الله فيهم وفي جمعهم للمال : { كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى } [ المعارج 15-18 ] ، وقال الله فيهم وفي كسبهم للمال من وراء بناتهم : { وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ} .
أولئك الآباء والأولياء الذين لم يعرفوا حتى الآن حقيقة الحياة الدنيا وأنها زائلة مبغوضة مرفوضة ، لا تعدل عند الله جناح بعوضة ، وأنها مزرعة للآخرة ، وليست دار خلد ، بل دار زيارة ومغادرة ، إذ نقول لهم ذلك ، فإننا نكن لهذه الدولة المباركة كل تحية وتقدير ، واحترام وتأييد ، ونفرح ونفخر بالكثير من الأسر والقبائل ، والآباء والأولياء ، الذين عرفوا مقاصد الشريعة والدين في الزواج ، فسهلوا ويسروا ، وبشروا وسددوا وقاربوا ، حتى عُملت الزواجات الجماعية ، في أقل تكلفة ممكنة ، واقتصروا على أهل الزوج والزوجة وبعض الجيران القريبين ، والاكتفاء بذبيحيتن أو مثلها معها ، في صورة مشرقة براقة رائعة ، جمعت شتات الأسر ، ومنعت الانحراف ، وهدمت بيوت الحرام ، من فضائيات وشبكات ، وصور واتصالات ومقابلات ولقاءات ، لقد أوصدت تلك الأبواب المحرمة ، وفتحت أبواب الحلال مشرعة أمام الراغبين في الزواج من البنين والبنات ، فلله الحمد من قبل ومن بعد ، ويومئذ يفرح المؤمنون بهذه العقول المتفتحة النيرة ، الممتثلة لأمر ربها تبارك وتعالى القائل في محكم التنزيل ، ومعجزة التأويل : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } [ الأحزاب21 ] .
والنبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلاً بخاتم من حديد ، وزوج آخر بما معه من القرآن ، وقال لثالث : أولم ولو بشاة ، ليتميز صحيح النكاح من السفاح .
وإن كان من كلمة أخيرة فهي وصية لكل أب وأم وولي أمر . . أن يتبع أمر ثاني الخلفاء ، عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه ، الذي بحث لابنته حفصة رضي الله عنه الزوج الكفء ، فعرضها على عثمان ثم أبي بكر رضي الله عنهما ، ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لعلم الله صدق ما في قلب عمر لاختيار الزواج الصالح لابنته ، لأنه سوف يسأل عنها يوم القيامة .
ولنا في قصة سعيد بن المسيب المثل العظيم .
فكونوا كذلك يا رعاكم الله ، ولا تهتموا بقول كل قائل من الناس ، فقد قال فيهم : { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } [ الأنعام116 ] .
خاتمة لابد منها :
السؤال : فضيلة الشيخ تعلم ما يحدث في المجتمع من قضية العصبية [ هذا قبيلي , وهذا غير قبيلي ] ، رجل تزوج من غير قبيلته فغضب عليه أبوه , وقال : طلقها وإلا تنقطع الصلة بيني وبينك , فما رأيك ؟
الجواب :
أولاً : أنصح المسلمين في مثل هذه الأمور, لأن الله تعالى أذهب عنا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم تربية الجاهلية, ونهانا عن التعصب, ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبغي أحد على أحد, والناس كلهم لآدم وآدم من تراب, ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى, قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات13 ] ، لكن لا شك أن الأنساب تختلف ، منها ما هو عال ، ومنها ما دون ذلك , ومنها من لم يعرف له نسب في العرب , وهذا ما يسمى عند الناس بالنبطي أو بالخضيري أو ما أشبه ذلك , وكل هذه ذهبت بالإسلام , قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [ الحجرات10 ] ، ولهذا جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام : " إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه _ ولم يذكر النسب _ إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير " . فإذا كانت هذه المرأة قد أعجبت الرجل _ وهذا هو الجواب المباشر لسؤالك _ في دينها وخلقها فليستمسك بها , حتى وإن أمره أبوه بطلاقها ، فلا يسمع له ولا يطيعه , ولا يعتبر معصيته في ذلك عقوقاً , بل إن الوالد هو الذي قطع الرحم , إذا قال : إن أبقيتها فإني أقطع صلتي بك ، فهو القاطع للرحم ، وقد قال الله تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } [ محمد22-23 ] ، ولا شك أن محاولة التفريق بين المرء وزوجه من الإفساد في الأرض , ولهذا جعل الله ذلك من عمل السحرة , قال : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } [ البقرة 102 ] ، والسحرة مفسدون, كما قال موسى عليه الصلاة والسلام : { مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ } [ يونس81 ] ، فجعل السحرة من المفسدين .
ومن أعظم سحرهم التفريق بين الرجل وأهله , فهذا الأب الذي يحاول أن يفرق بين ابنه وزوجته , يكون فعله من جنس فعل السحرة , وهو من الفساد في الأرض , فيكون هذا الأب الذي يأمر ابنه بطلاق الزوجة وإلا قاطعه , يكون ممن قطع الرحم وأفسد في الأرض , فيدخل في الآية : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } [ محمد22-23 ] ، وأنا الآن أوجه نصيحتي إلى الابن وأقول : الزم زوجتك ما دامت قد أعجبتك في دينها وخلقها , ونصيحة أخرى إلى الأب وأقول : اتق الله في نفسك , ولا تفرق بين ابنك وأهله , فتقع في الإفساد في الأرض ، وكذلك في قطع الرحم , والابن نقول له : امضِ فيما أنت عليه , وسواء رضي أبوك أم لم يرضَ , وسواء قاطعك أم وصلك , ولكن إذا قُدِّر أنه نفذ وقاطع , فأنت اذهب إليه وحاول أن تصله فإذا أبى فالإثم عليه وحده ، قد يقول بعض الناس : إن عمر رضي الله عنه أمر ابنه أن يطلق زوجته فطلقها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم , وأنا آمر ولدي فليطلق زوجته , نقول : إن هذه المسألة سئل عنها الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : فجاءه رجل يقول : إن أبي يأمرني أن أطلق زوجتي ؟ فقال له : ولو أمرك لا تطلقها , وأظن الإمام أحمد سأله : هل هو راغب فيها أم لا ؟ فلما أخبره بأنه راغب ، قال : لا تطلقها , قال : أليس عمر قد أمر ابنه أن يطلق زوجته فطلقها ؟ قال : وهل أبوك عمر ؟ عمر ما أمر ابنه أن يطلق امرأته بمجرد هوىً أو عصبية , لكن لأمر رأى أنه من المصلحة ، وخلاصة القول : أن للولد أن يبقي زوجته ما دامت قد أعجبته ديناً وخلقاً ، سواء رضيت أمه أو أبوه أو لم يرضيا " [ لقاءات الباب المفتوح 12/110 ، للشيخ ابن عثيمين رحمه الله ] .
النسب للدين :
وقال سماحة العلامة الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى في معرض سؤال عن التكافؤ في الزواج : " ومن الأمور المنكرة أن بعض من يدعي أنه من بني هاشم يقولون : إنه لا يكافئهم أحد فهم لا يزوجون غيرهم ولا يتزوجون من غيرهم وهذا خطأ عظيم وجهل كبير وظلم للمرأة وتشريع لم يشرعه الله ورسوله قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وقال سبحانه : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وقال : {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وقال : {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى ، الناس من آدم وآدم من تراب " وقال صلى الله عليه وسلم : " إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين " متفق عليه . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض " خرجه الترمذي وغيره بإسناد حسن ، وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش الأسدية من زيد بن حارثة مولاه ، وزوج فاطمة بنت قيس القرشية من أسامة بن زيد وهو وأبوه عتيقان . وتزوج بلال بن رباح الحبشي بأخت عبد الرحمن بن عوف الزهرية القرشية ، وزوج أبو حذيفة ابن عتبة بن ربيعة القرشي ابنة أخيه الوليد سالما مولاه وهو عتيق لامرأة من الأنصار . وقد قال الله تعالى : {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} وكذا زوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنتيه رقية وأم كلثوم عثمان وزوج أبا العاص ابن الربيع ابنته زينب وهما من بني عبد شمس وليسا من بني هاشم ، وزوج علي عمر بن الخطاب ابنته أم كلثوم وهو عدوي لا هاشمي ، وتزوج عبد الله بن عمرو بن عثمان فاطمة بنت الحسين بن علي وهو أموي لا هاشمي ، وتزوج مصعب بن الزبير أختها سكينة وليس هاشميا بل أسدي من أسد قريش ، وتزوج المقدس ابن الأسود ضباعة ابنة الزبير بن عبد المطلب الهاشمية ابنة عم النبي صلى الله عليه وسلم وهو كندي لا هاشمي ، وهذا شيء كثير . والمقصود بيان بطلان ما يدعيه بعض الهاشميين من تحريم تزويج الهاشمية بغير الهاشمي أو كراهة ذلك ، وإنما الواجب في ذلك اعتبار كفاءته في الدين فالذي أبعد أبا طالب وأبا لهب عدم الإسلام والذي قرب سلمان الفارسي وصهيبا الرومي وبلالا الحبشي إنما هو الإيمان والصلاح والتقوى واتباع الشرع والسير على النهج المستقيم ، ومما ينجم عن هذا الجهل والتصرف الباطل حبس النساء الهاشميات وتعطيلهن من الزواج أو تأخيره فيحصل ما لا تحمد عقباه من الفساد وتعطيل النسل أو تقليله ، وقد قال تعالى : {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} فأمر بإنكاح الأيامى أمرا مطلقا ليعم الغني والفقير وسائر أصناف المسلمين ، وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد رغبت في الزواج وحثت عليه فإن على المسلمين أن يبادروا إلى امتثال أمر الله وأمر رسوله ، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " متفق على صحته ، فعلى الأولياء أن يتقوا الله في مولياتهم فإنهن أمانة في أعناقهم وأن الله سائلهم عن هذه الأمانة فعليهم أن يبادروا إلى تزويج بناتهم وأخواتهم وأبنائهم حتى يؤدي كل دوره في هذه الحياة ويقل الفساد والجرائم . ومن المعلوم أن حبس النساء عن الزواج أو تأخيره سبب في فشو الجرائم الأخلاقية وانتشارها التي هي من معاول الهدم والدمار ، فيا عباد الله اتقوا الله في أنفسكم وفيمن ولاكم الله عليهم من البنات والأخوات وغيرهن وفي إخوانكم المسلمين ، واسعوا جميعا إلى تحقيق الخير والسعادة في المجتمع وتيسير سبل نموه وتكاثره وإزالة أسباب انتشار الجرائم . واعلموا أنكم مسئولون ومحاسبون ومجزيون على أعمالكم قال الله تعالى : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقال عز وجل : { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} وبادروا إلى تزويج بناتكم وأبنائكم مقتدين بنبيكم صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم والسائرين على هديهم وطريقتهم وأوصيكم بتقليل مؤن الزواج وعدم المغالاة في المهور ، واقتصدوا في تكاليف الزواج واجتهدوا في اختيار الأزواج الصالحين الأتقياء ذوي الأمانة والعفة " [ مجموع فتاوى و مقالات ابن باز 3 / 103 ] .
نهاية المطاف :
وفي الختام أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يهدي ضال المسلمين ، وأن يمن علينا جميعنا للعمل بكتابه ، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، والله من وراء القصد ، وهو الهادي إلى سواء السبيل ، قد كتبت ما كتبت ، فما كان من توفيق وصواب فمن الله وحده ، وما كان غير ذلك فأبرأ إلى الله منه ، وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت ، وإليه أنبت ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله وسلم على نبي الرحمات ، محمد بن عبد الله أفضل البريات ، وذريته وزوجاته الأمهات ، للمؤمنين والمؤمنات ، وعلى آله وأصحابه والصحابيات ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم العرصات .
كتبه
يحيى بن موسى الزهراني