بخ بخ .. إنها لحياة طويلة
بخ بخ .. إنها لحياة طويلة
عادل الكلباني
الحمد لله، المعز المذل، الواحد القهار، يصطفي من يشاء من عباده، فيسكنهم جنات النعيم، تجري من تحتها الأنهار.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بالغ أمره، معز دينه، معلي كلمته، إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار، فقل لكل معاند له أو معرض عن دينه كافر به، تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، بلغ رسالة ربه، وجاهد في الله حق جهاده، فكان بحق إماما للمتقين الأبرار، حفظه الله كرامة له، فمات على فراشه شهيدا، قتله سم اليهود الفجار، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه ما تعاقب الليل والنهار، وسلم تسليما.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، في سركم وعلانيتكم، واعلموا الخير والزموه، تكن خاتمتكم حسنة، وإنما العبرة بالخواتيم.
معاشر المسلمين: لما بعث الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالهدى ودين الحق، قال له ورقة ابن نوفل: يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله -صلى عليه وسلم-: "أوَ مخرجي هم؟" قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي. وفي رواية أخرى: "لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا أوذي".وكلتا الروايتين في البخاري.
وصدق ورقة، فقد أثبت مقولته القرآن والسنة والسيرة والتاريخ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾[الفرقان: 31].
وكل من اتبع الرسول، وسار على هديه، ونهج منهجه، فلابد أن يصيبه من البلاء ما شاء الله -تعالى-، بقدر قربه من المنهج أو بعده منه.
وهذا ما سطرته كتب السيرة النبوية، فقد كان المسلمون في بداية أمر الإسلام أذلة صاغرين، عُذب منهم من عُذب، واضطُهِد منهم من اضطُهد، وهاجر إلى الحبشة منهم من هاجر، وقُتل منهم من قُتل، وكان الموقف النبوي من ذلك: صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة.
وكان موقف القرآن إذ ذاك: ﴿لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾[النساء: 77].
حتى إذا علم الله صدق إيمانهم، ورسوخ يقينهم، أراد رفع هاماتهم في سماء العز والسؤدد، فقدر تقدير العليم القدير، وفي بدر التقى الجمعان، والتحم الجيشان، والتقت الفئتان: ﴿فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ﴾ [آل عمران: 13].
فقام قائد المسيرة صلى الله عليه وسلم، يثبت جيشه، ويرص صفوفهم، ويقوي عزائمهم، ويبشرهم بإحدى الحسنيين، النصر أو الشهادة، فكان مما قال: والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا، مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة.
وقال صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض"، فقام عمير بن الحُمام: بخ بخ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما يحملك على قولك: بخ بخ؟" قال: لا، والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: "فإنك من أهلها" فأخرج تمرات من قَرَنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل.
وصدق -والله- عمير -رضي الله عنه-، إنها لحياة طويلة، وإن كانت دقائق معدودة؛ لأنها تحول بينه وبين الجنة، وهل يعيش المرء إلا للجنة، وهل حياته إلا وسيلة للجنة، وهل جهاده وصبره وبذله وصيامه وقيامه ونسكه إلا للجنة؟ فما أطول الحياة تمنع الإنسان أن يدخل الجنة، فلما ضمنها، وبشر بها شهر بما شعر به فكأنه وجد ريح الجنة، فاستطال الحياة، واستعجل الممات.
معاشر المسلمين: تلك سنة الله التي خلت، ولا تتبدل، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ففي كل زمان، وفي كل مكان من هذه الأرض سيكون هناك فئتان، فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، ويستمر القتال بينهما ليمن الله على من يشاء من عباده المخلصين بالاصطفاء، ويتخذ منهم شهداء: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ﴾ [الحديد: 25].
وليعلم الله الذين آمنوا ويعلم المنافقين: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 142].
أمة الإسلام: بين فينة وأخرى، ويوم وآخر، تُصاب الأمة بفلذات أكبادها، علماء ربانيين، ودعاة مصلحين، وقادة مجاهدين، ممن باعوا أنفسهم لله، فاشتراها بأغلى ثمن: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ﴾ [ص: 50]. ﴿يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [غافر: 40]. ﴿جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا﴾ [النبأ: 36]. ﴿فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾[محمد: 4-6]. لبذلهم مهجهم في سبيله، يبتغون فضلا من الله ورضواناً: ﴿وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحشر: 8]. ﴿صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: 23]. ﴿وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب: 23].
وفجر كل يوم جديد، ينكأ عدونا لنا جرحا جديدا، يضاف إلى جراحنا القديمة، أبت أن تندمل، وما تركت يوما لتندمل، ويتجدد الألم مرة بعد مرة، وكرة إثر كرة، ويحارب الإسلام في أشخاص قادته، وعلماءه ومجاهديه: ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [التوبة: 32].
فسعي الأعداء لقتل القادة سنة قد مضت، وستستمر: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾[الأنفال: 30].
واليهود -عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين- هم قادةُ قتل المصلحين، فسيرتهم في قتل الأنبياء معروفة، أثبتها القرآن، وحيا منزلاً: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ [النساء: 155]. ﴿كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾ [المائدة: 70].
فلا غرابة ممن قتل زكريا ويحيى -عليهما السلام-، وسعى لقتل عيسى -عليه السلام-، لا عجب ممن هذا ديدنه، وهذه طبيعته أن يقتل المصلحين، وقادة المجاهدين، وأن يسعى في الأرض فساداً، والله لا يحب المفسدين.
وهي سنة ماضية يتخذ الله بها من يشاء من صفوة عباده شهيدا، وهي نعمة ينعم بها على المختار يقتله العدو، وهو الصراط الذي نسأل ربنا كل يوم وليلة مرات عديدة أن يهدينا، صراط الذين أنعمت عليهم، والمنعم عليهم هم المذكورون في سورة النساء: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾ [النساء: 69-70].
كما منَّ بها جل وعلا على نبيه وعبده محمد - صلى الله عليه وسلم -، إذ إن زينب بنت الحارث، امرأة سلام بن مِشكم، من يهود خيبر، أهدت للنبي - صلى الله عليه وسلم - شاة مصلية، وكانت قد سألت أي عضو أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها من السم، ثم سمت سائر الشاة، ثم جاءت بها ووضعتها بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتناول الذراع فلاك منها مضغة لم يسغها ولفظها، ثم قال: "إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم"، ثم دعا بزينب، فاعترفت، فقال: "ما حملك على ذلك؟"، قالت: قلت: إن كان ملكا استرحت منه، وإن كان نبيا فسيخبر، فتجاوز عنها. فلما مات بشر، وهو أحد من أكل من الشاة معه عليه الصلاة والسلام، قتلها النبي -صلى الله عليه وسلم- قصاصا، حتى كان اليوم الذي مات فيه -بأبي هو وأمي-، وطفق الوجع يشتد ويزيد، فقد ظهر أثر ذلك السم الذي أكله بخيبر، فقال: "يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم".
معاشر الأحبة: يقول فرعون لقومه بعد أن كتم موسى -عليه الصلاة والسلام- أنفاسه بالحق، والنور المبين يقول فرعون: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ [غافر: 26].
ولا يشك كل عاقل لبيب أن هذه الكلمات تحمل من قلب الحقائق، وتزييفها ما لا ينكره إلا فرعون وأتباعه، ممن يريدون علواً في الأرض وفساداً، فصار المجاهد إرهابياً، والمسلم المتمسك بهدي نبيه، غدا أصولياً، متشدداً، ومتزمتاً معقداً، وأصبح الإرهابي المجرم مدافعاً عن نفسه، داعية للسلام، وقتل المسلمون وسفكت دماؤهم لتحريرهم من البطش والاضطهاد!.
وإن تعجب فعجب قولهم: إنما احتللنا أرضكم، وسفكنا دماءكم؛ لنحرركم، ولنقيم العدل فيكم، أتقيم العدل والصواريخ تتفجر في كرسي متحرك، يحمل شيخا كبيراً أقعده الشلل، ووهن منه العظم، وبُح منه الصوت؟ أفلا أقمتم العدل في فلسطين، والعدل تنتهك حرماته في جنباتها صبح مساء، أمام نظر وكالات الأنباء، وعدسات المصورين، وتقارير المراسلين.
إني لتسألني العدالة بعد ما *** لقيت جحود القوم والنكرانا
أين الحضارة أيها الغرب الذي *** جعل الحضارة جمرة ودخانا
وصدق إمامكم وهو كذوب: ﴿قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ [الشعراء: 29].
وهو ما فعله أهل البغي والضلال في يوسف -عليه السلام-: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾ [يوسف: 35].
فبضلالهم تقتدون، وبفسادهم تعملون.
أيها المسلمون: كم حاول المشركون أن يقتلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بيْدَ أن الله حفظه وعصمه من كيدهم ومكرهم.
ولكن الرغبة الجامحة لأعداء الملة في كل حين لابد أن تظهر، فاستل أشقاهم خنجره، وطعن بها الفاروق، وقتل عثمان علي -رضي الله عنهم-، والهدف من القتل واحد، هو إطفاء نور الله، ووقف انتشاره، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
مساكين، ظنوا ويظن أتباعهم وخلفاؤهم أن قتل الرموز يقضي على الدين، ويزيل كابوس الحق الجاثم فوق صدورهم، المهدد لمصالحهم الدنيوية، وظنوا أنهم سيرعبون البقية منهم فيتركوا دينهم لا ينصرونه، ولا يبلغونه، مساكين!! كم توهموا، ثم حلموا، وما شعروا أنهم مغرورين بالأماني، غارقين في الأحلام، قد غرهم بالله الغرور، فمهما كانت قيمة الشخص، أو مكانته، فلا والله لا يموت بموته الإسلام، ولا يميت الإسلام اجتماع الأحزاب، ولا نقض العهود، من المنافقين وأذناب اليهود، بل والله ليظهرن الله دينه، حتى لا يبقى بيت وبر ولا مدر إلا دخله، بعز عزيز وذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام وأهله، وذلا يذل به الله الكفر وأهله، وذلا يذل به الله الكفر وأهله: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصافات: 171-173].
ولقد رأيتم ورأينا كيف امتد أثر تلك الحفنة من الحصباء، يأخذها رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدر، فيستقبل بها قريشا، ثم يقول: "شاهت الوجوه"، ورمى بها في وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه من تلك القبضة، وفيها نزل قوله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [الأنفال: 17].
ووالله لحجارة الأطفال في فلسطين اليوم شبيهة بتلك الرمية، ونرجو أن يكون أثرها كأثرها: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 146-148].
فالبطش، والقتل، والتهديد، والسجن، والاتهام جميعها، أو أكثر منها، لا تزيد المؤمنين إلا إيماناً وتسليماً، لأنهم باعوا أنفسهم لله، واشتاقت قلوبهم للقياه، فاستطالوا الدقائق التي تحول بينهم وبين محبوبهم، فلما جاءهم الموت من حيث كانوا يترقبونه، أصبحوا: ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 170-171].
فكل المؤمنين، كل الصادقين، كل المجاهدين، كل الشهداء يقولون مقولة عمير بن الحمام - رضي الله عنه -: "بخ بخ، لئن أنا حييت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة".
وهي المقولة التي أسالت أودية الهداية إلى كل أرض عطشى، للنور والخير دماؤهم هي التي تروي الأرض فتهتز وتنبت من كل زوج بهيج، خشية لله، وذكراً، وتوحيداً.
ودموعهم، هي التي تفجرت منها ينابيع الخير والهدى، يتأسون بنبيهم وحبيبهم، فكم اغترف من دلاء البلاء اغترافاً، ما زاده وأتباعه إلا صبراً ويقينا، فصبراً أيها المسلمون، فإن الموعد الجنة.
ثم اعلموا أن قد مات صاحب الرسالة نفسه، واهتزت لموته المدينة، بل الأرض كلها قد مادت بأهلها، وأظلمت جنباتها لعظم المصيبة، بيد أن المؤمنين الصادقين حملوا الراية، وواجهوا بها كل من وقف في طريقها تثبيطاً أو تحدياً، وسارت ركاب الدين محملة بالنور تنشره في أصقاع الأرض أكثر مما انتشر في حياة صاحبه صلى الله عليه وسلم، وفتحت له فارس والروم، وحملت أسورة كسرى ووضعت بين يدي أمير المؤمنين، تصديقا له، وبشارة لأتباعه، وتثبيتاً لمن خالط قلبه شك أو ارتياب، وهو بأبي وأمي موسد في قبره.
وهكذا ظلت قافلة الإسلام تطوي البقاع، وتنتشر في الأصقاع، لا يضرها من خذلها ولا من خالفها؛ لأنها النور الذي ارتضاه الله هداية ورحمة للعالمين، فلن -والله- تنطفئ شعلتها، ولن تُخمد نارها، ولن يخبو بريقها بموت عظيم، ولا بموت عظماء.
﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [آل عمران: 120].
بارك الله لي ولكم في خير كتاب نزل على العالمين، ونفعنا بسنة سيد المرسلين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، المحمود على كل حال، القريب ممن رفع إليه يديه بالطلب والسؤال.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إليه المرجع والمآل
﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ [الرعد: 11].
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، عظيم المزايا، كريم الخصال، كان أشجع الناس، يتترس به أصحابه إذا حمي الوطيس واشتد القتال، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، خير صحب وخير آل، وسلّم تسليماً.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن الموت لكم بالرصد، ولن ينجو من الموت أحد، ويبقى الواحد الفرد الصمد، ولا يقرب الموت مرض، ولا يبعده عافية: ﴿إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا﴾ [مريم: 84].وإنما الأمر مرهون باكتمال العدد.
فمن ظن أن الجبن يطيل في عمره، فليستمع إلى ابن الوليد -رضي الله عنه-، وقد حضرته منيته وهو على فراشه، وما في جسمه موضع إلا وبه طعنة من رمح، أو ضربة من سهم، وخاض معارك جمة، لم تصبه فيها منيته، ثم هو يموت على الفراش، قال: "وها أنذا أموت كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء".
أي إن خوضه المعارك، وقيادته لأكثرها، وتلك الطعنات، وتلك الضربات لم تصب منه مقتلا؛ لأن الله لم يكتب له الموت شهادة.
وكم في ذلك من عبرة، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وإنما منعه من الشهادة تسمية الحبيب له بسيف الله، وما ينبغي لسيف الله أن يكسر، فلم تستطع معركة أن تقضي عليه، وما سلم من الموت، فكل نفس ذائقة الموت.
إذا لم يكن من الموت بد *** فمن العار أن تموت جبانا
عباد الله: إن اغتيال الشيخ المقعد فوق كرسيه بالصواريخ، دليل على مدى حقد القوم، وما تخفي صدورهم أكبر، وإني لأرجو أن يكون كما قال الشاعر:
لقب الشهادة مطمح لم تدخر *** وسعا لتحمله فكنت وكانا
ما كنت إلا همة وعزيمة *** وشموخ صبر أعجز العدوانا
دمك الزكي هو الينابيع التي *** تسقي الجذور وتنعش الأغصانا
رويت بساتين الإباء بدفقة *** ما أجمل الأنهار والبستانا
ستظل نجما في سماء جهادنا *** يا مقعدا جعل العدو جبانا
معاشر المسلمين: إن اغتيال المشلول العاجز، إنما كان ذلك لرمزيته وأثره ومكانته، وهو أي الاغتيال- دليل على رغبة القوم في اغتيال من هو أولى منه وأقدر، ولهذا يسعون للنيل من هذه البلاد المباركة، ويرمونها بسهم واحدة، لأنها رمز فعال لهذا الدين، دعوة وجهاداً، وصموداً واتحاداً، ووالله إن أغلى أمانيهم أن يروها متفرقة متشرذمة، يقتتل أهلها بينهم، ويخربون بلادهم بأيديهم، ألا فاعتبروا يا أولي الأبصار، وكونوا شوكة في حلق عدوكم، بتمسككم بكتابكم وسنة نبيكم أولاً، وبشد عضدكم مع ولاة أمركم، علماء وأمراء، يداً واحدة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، وكما كان المقعد رمزاً للجهاد، فإن هذه البلاد رمز للدين، وهي مئرزه ومحضنه ومرضعته، فيها ولد، وعلى أرضها ترعرع وشب، فالله الله أن ينفذ العدو إليكم بالتحريش والتفرقة، فمراده وأيم الله دينكم، وصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فما كان يزعجهم من ذلك المقعد المشلول إلا رمزيته وأثره وقيمته، مع عجزه عن العمل، فوالله لما يغيظهم من بلادكم ومنكم مثل ذلك، وأعظم منه أن هذه البلاد تعمل وتتحرك، وتسعى وتبذل، فليست مجرد رمز مشلول، ولكنها مع رمزيتها متحركة فعالة، فكان الغيظ منها أشد، والرغبة في القضاء عليها واغتيالها أقوى. وليس من معين عليهم إلا الاعتصام بحبل الله، فاعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ووجهوا حرابكم وسهامكم وشجاعتكم إلى ساحات الوغى، حيث المشركين المقاتلين المحاربين، أما بلادكم وإخوانكم فيها فلا يصح لهم منكم إلا أن تشدوا أيديكم بأيديهم، وسواعدكم بسواعدهم، تبنونها وتعلون مناراتها، لتبقى شامخة بعز الإسلام، قوية بأبناء الإسلام، عزيزة متحدة، يتميز العدو من قوتها غيظاً، ويعض على يديه من تماسكها حقداً وحسداً، فنقول لهم واثقين: ﴿مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران: 119].
اللهم ارحم عبدك أحمد ياسين رحمة واسعة، وامنن عليه بمنازل الشهداء، وارفعه درجات مع الأنبياء، وارحم اللهم قتلى المسلمين، وارفع درجاتهم في عليين، وتقبلهم عندك شهداء، وألحقناهم بالنبيين، ورد كيد الكافرين في نحورهم، وفرق شملهم، وزد غيظهم بإعزاز دينك، ونصرة شريعتك.
ملتقى الخطباء