الغبطة بالدين والحذر من كيد المفسدين
الشيخ عبدالله بن صالح القصيِّر
إنَّ الحمد لله، نحمَده ونستَعِينُه، ونستَغفِره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا، أمَّا بعد:
فيا أيها الناس:
اتَّقوا الله - تعالى - حقَّ التقوى، واستَمسِكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذَرُوا الذنوب فإنها تُورِث العَمَى، وتجلب الرَّدَى، وتَذَكَّروا أنَّ الله - تعالى - اصطَفَى لكم الدين وسمَّاكم المسلِمين، ومَيَّزكم بذلك بين العالمين، وجعَلَكم به خيرَ أمَّة أُخرِجت للناس، تهدونهم إلى الحقِّ الذي ليس به التِباس، وجعَلَكم أهلَ القرآن، وشرَّفكم باتِّباع محمد - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أوَّل مَن يستَفتِح أبواب الجنان، وضاعَف أجورَكم على صالِح العمل، ويومَ القيامة تُوفَّون سبعين أمَّة أنتم خيرُها وأكرَمُها على الله - عزَّ وجلَّ - فما أعظَمَ ما خصَّكم الله به من منَّة، كيف لا وأنتم شطرُ أهل الجنة؛ ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58].
أيها المسلمون:
إنَّ الإسلام دينٌ كاملٌ، وشرعٌ شاملٌ، محيطٌ بمصالح الأنام، ومشتملٌ على عظيم الحِكَم وجليِّ الأحكام، مبنيٌّ على اليسر ورفْع الحرَج، وللعبد فيه عند كُلِّ ضائقةٍ فرج، تدور أحكامُه على تحصيل المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتعطيلها، فهو دين الفطرة والحنيفيَّة السمحة، برَّأَه الله من الآصار والأغلال، وجعَلَه الشرع الخالد حتى يُؤذَن لهذه الدنيا بالزَّوال، قد حفِظَه الله وكمَّلَه فلا يحتاج إلى زيادة ولا يَقبَل النقصان، ولا يتحقَّق للناس التمتُّع بالنِّعَم إلاَّ بالاستِقامة عليه في سائر الأزمان؛ يقول - سبحانه -: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 3].
فهو طريق الاستِقامة ومِنهاج الكرامة، وأهلُه المستَمسِكون به هم الظاهرون المنصورون والأئمَّة إلى يوم القيامة؛ يقول - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((لا تَزال طائفةٌ من أمَّتي على الحقِّ ظاهِرين))، ويقول - تعالى -: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139].
أيها المسلمون:
﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]، ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]، ﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ [آل عمران: 83]، ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50].
فتبًّا لعبدٍ لم يرضَ من الدين ما رضيه له ربُّه ومولاه، وما أخسر صفقته يومَ يقف بين يدَيْه مُعرِضًا عن هُداه: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا *قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 124 - 127].
فالإعراض عن ذكْر الله وترْك الاتِّباع لهداه يجلبُ على أهل الدنيا ضِيقَ المعيشة وعَمَى البصيرة، وفي الآخِرة العَمَى حقيقةً، وأنْ يُؤخَذوا إلى العذاب الباقي الشديد طريقه، فإنَّه دليلٌ على انتِفاء الإيمان، وعنوان الكفر بالرحمن؛ ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [القصص: 68].
فليس لمؤمنٍ أنْ يختار غيرَ ما اختار الله له دينًا؛ ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36].
أيُّها المسلمون:
لقد حذَّرَكم ربُّكم من الذين يتَّبعون الشهوات ويُثِيرون الشبهات، وكان الله بهم عليمًا؛ ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 27].
وإنَّ من الظواهر الخطيرة والمُنكَرات الكبيرة أنْ يتَفَوَّه بعضُ المفتونين في هذا الزمان، وفي مهبط الوحي ومأرز الإيمان، بتَسفِيه مَسلَك المتديِّنين، والسُّخرية من عِباد الرحمن المهتَدِين، والتَّشكِيك فيما هم عليه من الحقِّ المبين، ويدعون الناس إليه ناصِحين مُخلِصين مُقتَدِين بسَلَف هذه الأمَّة الصالِحين.
إنها ظاهرةٌ مُنكَرة، وبادِرةٌ خَطِيرةٌ، تَنُمُّ عن استِخفاف المتفوِّهين بها دين الله واستِحقارهم لسنَّة محمد - صلَّى الله عليْه وسلَّم - رسول الله ومُصطَفاه، واستهزاء بصالِحِي عِباد الله، ورُكُون إلى الذين ظلَمُوا من شِرار خلْق الله، وقد قال الله - تعالى - لأسلافهم من المنافقين الهالكين: ﴿ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ [التوبة: 65 - 66].
فلا ينبغي لمؤمنٍ بالله واليوم الآخِر أنْ يَرضَى بما هم عليه، ولا لمسؤولٍ يَخاف الله ويتَّقِيه أنْ يسكت عنهم، فلا يُؤاخِذهم بما تفوَّهوا به، فإنهم تارَةً يَزعُمون أنَّ ما يدعون الناس إليه من ضلالٍ لا يَتعارَض مع شرع ربِّ العالمين، وتارَةً يُشكِّكون العوام بأحكام الدين، وأخرى يستَهزِئون بسنَّةٍ من سنن سيِّد المُرسَلين، وثالثة يَسخَرون من سلوك ومَظهَر المُتديِّنين المستَقِيمين، تالله لقد آذَوا الله ورسوله وعباده الصالحين؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 57 - 58].
فيا وَيْحَ مَن يؤيِّدهم أو يُجادِل عنهم؛ ﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 108 - 109].
أيُّها المسلمون:
لو تتبَّعنا سيرَ أولئك المفتونين المفسدين لظهر لنا أنهم عاشوا فترةً في غير بلاد المسلمين، بل في بلادٍ يَظهَر فيها الخنا، ويُجاهَر فيها بالزنا، وتُعاقَر فيها الخمور، وتُرتَكب فيها عَظائِم الأمور، ويوفر فيها الفساد في كلِّ ناد، وتُحكَم بقوانين البشر، وتلك إحدى الكُبَر، وما للحماقة طب، وليس بعد الكفر ذنب، فشاهَدُوا وربما شاركوا في فاحش الفِعال، وغرقوا في حَضِيض تلك الأوحال إلى الأذقان، وتتَلمَذُوا على شِرار بني الإنسان من مَلاحِدة أساطين شياطين اليهود والنَّصارَى، الذين تمكَّنوا من قلوبهم، فصاروا في حبِّهم مَجانِين سَكارَى؛ إذا تربَّوا في أحضانهم، وارتَضَعُوا خبيثَ لبانهم، وتشبَّعوا بعَظِيم ضلالهم، وتلقَّفُوا عنهم عظيمَ إفكهم وبهتانهم، وكلُّ إناء بما فيه ينضَح.
فلهؤلاء الهَلكَى هناك في كثيرٍ من المناسبات آهات، ولهم في أوطاننا بعد مجيئهم هنات، يَتمنَّون الفساد، ويُخَطِّطون للإفساد، وتَفُوح من أفواههم روائح الإلحاد، يُفكِّر أحدهم كيف يجلب لوطنه الفساد برمَّته، وما الحيلة التي يُورِدها لإقناع أمَّته، وقد شرعوا الآن ولا شَكَّ في إفساد المجتمع، وهم يَسِيرون على خطٍّ مرسوم، ومنهج تلقَّوه من شياطينهم معلوم؛ ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ﴾ [الأنعام: 112 - 113].
فوَصَف - سبحانه - هؤلاء المُفسِدين بأنهم شَياطين، وأنهم يَتعاوَنون على نشْر باطلهم مُتَواطِئين، وهذا هو واقِعُهم؛ فإنهم يَتعاوَنون على نشْر الفساد وتَضلِيل العباد، فلهم في كلِّ جهةٍ فُوَيسِقات ينشرن الفساد، وشيطان يشرف على الإفساد، يُرِيدون من المجتمع أنْ يتنكَّر لدعوة أهل الغيرة الناصحين المخلِصين، وأنْ يتحلَّل من الدِّين، وأنْ يتجرَّد من أخلاق النبيِّين وأتباعهم من المؤمنين، وأنْ يَأخُذ بما عليه اليهود المفسِدون والنَّصارى الضالُّون وأذنابهم من الملاحدة والمنافقين، وسلاحهم في ذلك زخرفُ القول وخبيث الفعل، يلبسون الحقَّ بالباطل، ويُشكِّكون بما عليه سلَفُنا الأوائل، وأخبر - سبحانه - أنَّه لا يصغي إلى أقوالهم، ولا يقبل خبيث أفعالهم إلا الذين لا يُؤمِنون بالآخرة، فيؤثرون متاع الدنيا الحاضرة.
فاحذَرُوا عِبادَ الله من الإصغاء إليهم والافتتان بهم؛ فإنهم جنودُ الدجال وجُيوش الضُّلاَّل، وهم في زمانكم كثير والخطر عليكم منهم كبير، فانأوا عنهم ولا تأتوهم، وتعوَّذوا بالله من فتنتهم؛ ففي الحديث عن النبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: ((يا أبا ذر، هل تعوَّذت - أو قال: تعوَّذ بالله - من شياطين الإنس والجن))، وهو حديثٌ قال فيه الحافظ ابن كثير: له طرقٌ مجموعُها يفيد قوَّته وصحَّته.
أيُّها المسلمون:
لقد جاء وصْف هذا الصِّنف المُفسِد من الناس في القرآن والسنَّة بما يبيِّن خطر فتنته وعظم شبهته، فمن ذلك قوله - سبحانه - فيهم: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ﴾ [المنافقون: 4]، وقوله: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾[البقرة: 11- 12]، وقوله: ﴿ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ﴾ [النساء: 62 - 63]، وقوله: ﴿ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ﴾ [محمد: 30]؛ أي: فيما يَبدُو من كلامهم الدالِّ على مَقاصِدهم، يعرضون بتَقبِيح ما عليه المسلمون.
ولقد رُوِي عن النبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أنَّه خافَ على أمَّته المنافق عليم اللسان، وحذَّر من أقوامٍ مفتونين، يلبسون للناس مُسُوح الضأن من اللين وقلوبُهم قلوبُ الشياطين: ﴿ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ [آل عمران: 167].
وأنَّه في آخِر الزمان يَسُود الناس أراذلهم، ويتَصَدَّرهم شِرارهم، ويَنطِق الرُّوَيبِضَة في الأمور العامَّة.
وجاء في الصحيح عنه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - الإخبارُ عن نزْع الأمانة - أي: الإيمان - من القلوب حتى يُقال للرجل: ما أجلده، ما أظرفه، ما أعقله، وما في قلبه مثقال حبَّة خردلٍ من إيمان، فقد وقَع والله شيءٌ من ذلك؛ حيث تصدَّر الفسَقَة، وتولَّى السفلة أمورَ العامَّة، واؤتُمِن الفجَرَة الخوَنَة على الأعراض والأموال، وكم في دنيا الناس اليوم ممَّن يتولَّى الصَّدارة ويحتلُّ مَوقِع الإشارة من أمثال المفتونين المُفسِدين ممَّن يُوصَف بالظرافة واللياقة في جسمه ومنظره، والعقل في رأيه وتدبيره، والجلادة في إدارته وعمله؛ وظاهره وفلتات لسانه وسيرته وحاله يدلُّ على أنَّه ليس في قلبه مثقالُ حبَّةٍ من خردل من إيمان، بل هو عدوٌّ للمجتمع المسلم، متربِّصٌ ومفتون ومهووس بأعداء الإسلام.
أيُّها المسلمون:
إنَّ هذا الصِّنف المُفسِد من الناس يُرِيدون أنْ يصبح الإسلام دينًا اختياريًّا وأدبًا سمحًا مع أهوائهم، فلا يَتعارَض مع هوى ضالٍّ يتبعونه، أو مبدأ هدَّام يَنشُرونه، أو شهوة محرَّمة يتمتَّعون بها، أو غاية فاسدة يهدفون إليها، يُرِيدون إسلامًا لا ولاء فيه لمؤمن، ولا براء فيه من كافر أو مُتَزندِق، ولا التزام فيه بشعيرة، ولا تَعظِيم فيه لحرمة، ولا التزام فيه بفضيلة، ولا حذر فيه من رذيلة، يُرِيدون إسلامًا تُباع فيه الفضيلة بأبخَسِ الأثمان، وكل ذي مروءةٍ وأنفَةٍ يُهان، وأنْ يُصبِح المسلمون أذلَّة لأهل الكتاب وعبَدَة الأوثان، تُستَعاض فيه الدِّياثة بالغيرة، والمهانة بالكَرامة، فذلك في نظرهم رقي وتجديد وتقدُّم وتطوُّر، فما يُوجَد في بلاد الكفر من خَلاعةٍ وتهتُّك، واستِهتار وعري، وإباحيَّة وزندقة - هو في نظرهم مِيزان الحضارة، وبراهين التقدُّم، ومعالم التطوُّر، أولئك هم الأخسَرُون أعمالًا: ﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [الكهف: 104].
أيها المؤمنين:
الحذرَ الحذرَ من كيْد المفسِدين وفتنة المُبطِلين، والنَّجاةَ النَّجاةَ بأنفُسِكم وذَوِيكم من هذا الكيْد المُدبَّر والإفساد المُخطَّط، وإيَّاكم إيَّاكم أنْ تنخَدِعوا بزخرف المُبطِلين وشُبهات المُشَبِّهين من دُعاة الفساد، والمخرِّبين في البلاد، فإنَّ الخسارة كبيرة، والمصيبة عظيمة، إنها فساد الدِّين وتَدمِير الأخلاق، وبذلك تَذهَب الدنيا والآخرة، ويتحقَّق شَقاء الأبد وشؤم المُنقَلَب، إنهم يهدفون إلى أنْ يستَدرِجوكم عن دينكم ويُزَحزحوكم عن عقيدتكم ومبادئكم، ويُفسِدوا عليكم أخلاقَكم وقِيَمَكم بشتَّى أنواع الحِيَل، من زخرف القول ومُجُون الفعل، والوَسائِل المُغرِيَة والمُشكِلات المُشغِلة، ويأتونكم من بين أيديكم ومن خلفكم، وعن أيمانكم وعن شمائلكم؛ لتُصبِحوا كافِرين لا شاكِرين، ومُنحرِفين لا مستقِيمين.
فاستَمسِكوا بالحق الذي أنتم عليه، واحمدوا ربكم إذ هداكم إليه، ولا تستَمِعوا للمُبطِلين فيصدوكم عنه، أو يفتنوكم فيه، فقد أفلَحَ عبدٌ أطاعَ مولاه، واستَمسَك بالدين الذي له ارتَضاه، حتى لقي الله على الحق غير مفتون؛ ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَنا جميعًا بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستَغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم من كلِّ ذنب، فاستَغفِروه يغفر لكم إنَّه هو الغفور الرحيم.
شبكة الألوكة