عباد الله : إن خير ما وعظت به القلوب ، وهذبت به النفوس آيات من كتاب الله أو أحاديث من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقوا الأسماع ، وافتحوا القلوب لكلمات معدودات من سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم ، رواها تميم بن أوس الداري رضي الله عنه ، وأخرجها الإمام مسلم في صحيحه ، وليس لتميم الداري في صحيح مسلم سوى هذا الحديث وتلك الكلمات .
عن تميم بن أوس الداري رضي الله عنه : حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال : الدين النصيحة : قلنا لمن : قال : لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم .
عباد الله : النصيحة كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادة وعملاً، وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم الدين كله فيها، يقول عليه الصلاة والسلام " الدين النصيحة " وذلك لأن النصيحة تشمل الإسلام والإيمان والإحسان ، وهذه الخصال الثلاث هي خصال الدين فلذا حصر النبي صلى الله عليه وسلم الدين فيها ، بل عد بعض العلماء كمحمد بن أسلم رحمه الله هذا الحديث أحد أرباع الدين، أي أحد الأحاديث التي يدور الفقه عليها .
عباد الله : لقد أعطى الإسلام للنصيحة المكانة العظمى والمنزلة الكبرى فها هو المولى سبحانه يصف الأنبياء الذين أمرنا بالاقتداء بهم بأنهم أصحاب نصيحة لأقوامهم، يخوّفونهم من عذاب الله إن هم عصوه، ويبشرونهم بالجنات والرضوان إن هم أطاعوه، فهذا نوح عليه السلام يقول لقومه: قال الملأ من قومه {قَالَ المَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأعراف:60] {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ} [الأعراف:61] {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:62] وهذا هود عليه السلام يقول لقومه:{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ} [الأعراف:67] {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:68] ، وهذا النبي صالح عليه السلام يقول: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79] .
أيها المسلمون: لقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على النصيحة وأكد عليها في الكثير من أقواله وأخباره، فعند الطبراني من حديث حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ومن لم يمس ويصبح ناصحاً لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ولعامة المسلمين فليس منهم " ، وأخرج الإمام أحمد رحمه الله من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله عز وجل : " أحب ما تعبدني به عبدي النصح لي " ، وعن جبير بن مطعم أنّ النبيّ قال: ((ثلاثٌ لا يَغلّ عليهن قلبُ امرئ مسلم: إخلاصُ العملِ لله، ومناصحةُ ولاةِ الأمر، ولزوم جماعة المسلمين)) رواه أحمد وابن حبان. ومعنى الحديث أنّ هذِه الخلالَ الثلاث تصلِح القلوبَ وتطهّرها مِن الخيانة والغِلّ والخبائث ، ولم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بالحث على النصيحة فقط، بل جعلها إحدى الركائز والشروط فيمن يريد مبايعته صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين من حيث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: بايعت رسول الله على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم. متفقٌ عليه. وعنه رضي الله عنه أنه قال لمن معه: إني أتيت النبي قلت: أُبايعك على الإسلام، فشرط عليَّ: ((والنصح لكل مسلم))، فبايعته على ذلك ثم قال: ورب هذا المسجد، إني لناصح لكم. متفق عليه.
عباد الله : كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم كلها نصح للناس في الحضر والسفر ، في الصحة والسقم، مع جميع الناس وفئاتهم ، صغيرهم وكبيرهم ، مسلمهم وكافرهم ، تارة بالشدة، وتارة باللين حسبما يقتضيه المقام ، وهذا من كمال حكمته وعظيم نصحه صلى الله عليه وسلم ، ومن الشواهد على ذلك نصحه صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب عند وفاته : يا عم ، قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله ، وكذا نصحه للفلاح اليهودي : يا غلام أتشهد أني رسول الله ، وكذا نصحه لأبي ذر عندما عير رجلاً بأمه فقال له : إنك امرؤ فيك جاهلية ، والشواهد على ذلك كثيرة.
عباد الله : إن صلحاء هذه الأمة هم المتصفون بالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ، قال أبو بكر المازني رحمه الله تعالى : ما فاق أبو بكر رضي الله عنه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم ولا صلاة ، ولكن بشيء كان في قلبه ، قال ابن علية رحمه الله: الذي كان في قلبه الحب لله عز وجل ، والنصيحة لخلقه ، وقال الحسن رحمه الله : قال بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إن شئتم لأقسمن لكم بالله ، إن أحب عباد الله إلى الله الذين يحببون الله إلى عباده ، ويحببون عباد الله إلى الله ، ويسعون في الأرض بالنصيحة ، وقال الفضيل بن عياض : ما أدرك عندنا من أدرك بكثرة الصلاة والصيام ، وإنما أدرك عندنا بسخاء الأنفس ، وسلامة الصدور ، والنصح للأمة .
عباد الله : لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث مواضع النصيحة وأنها تكون لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ، فأما النصيحة لهف فهي شهادة العبد لله بالوحدانية في ربوبيته وإلوهيته وأسماءه وصفاته ، وأن يقوم العبد بأداء ما أوجبه الله تعالى عليه من العبادات ، ويترك ما نهى عنه من المحرمات ، وأن يكون عمله خالصاً لله تعالى ، قال الحواريون لعيسى عليه السلام ما الخالص من العمل ؟ قال : ما لا تحب أن يحمدك الناس عليه ، قالوا فما النصح له : قال : أن تبدأ بحق الله تعالى قبل حق الناس ، وإن عرض لك أمران : احدهما لله والآخر للدنيا بدأت بحق الله تعالى .
وأما النصيحة لكتاب الله تعالى فتكون بالإيمان به ومحبته وتعلمه وتعليمه وتدبره وامتثال أوامره واجتناب نواهيه .
وأما النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم فهي التصديق بنبوته والتزام طاعته في أمره ونهيه، وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه، وتوقيره ومحبته ومحبة آل بيته وإحياء سنته بعد موته ونشرها والدعاء إليها وإماتة كل بدعة تخالفها، فمن أحيا سنة فقد أمات بدعة ومن أحيا بدعة فقد أمات سنة، قال تعالى: وإن تطيعوه تهتدوا .
أما أئمة المسلمين فهم صنفان من الناس :
الأول : العلماء الربانيون الذين ورثوا النبي صلى الله عليه وسلم علماً وعبادة وأخلاقاً ودعوة، ونصيحة العلماء تكون بمحبتهم ، ومعونتهم على نشر رسائلهم وكتبهم ، وبالذب عن أعراضهم، ونشر مناقبهم وإحسان الظن بهم .
وأما الصنف الثاني من أئمة المسلمين : الأمراء المنفذين لشريعة الله ونصيحتهم تكون بحب صلاحهم واجتماع كلمتهم على الحق ، وطاعتهم بالمعروف ، وإسداء المشورة النافعة لهم، وتنبيههم على الخطأ بطريق المشافهة أو المكاتبة، وعدم الخروج عليهم مالم يحصل منهم كفر بواح .
أما النصيحة لعامة المسلمين فبالشفقة عليهم والسعي فيما يعود بالنفع لهم ، ودفع الأذى والمكروه عنهم، وإيثار فقيرهم وتعليم جاهلهم ورد من زاغ منهم عن الحق في قول أو عمل بالتلطف في ردهم إلى الحق، والرفق بهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحبة إزالة فسادهم ولو بحصول ضرر له في دنياه كما قال بعض السلف: وددت أن هذا الخلق أطاعوا الله وأن لحمي قرض بالمقاريض.
عباد الله : مع عظم أجر النصيحة وسهولة أمرها لمن سهلها الله عليه إلا أن الشيطان ثقلها على كثير من الناس فحرموا أنفسهم أجراً ، وحرموا غيرهم خيراً ، مع أن وسائل النصح متنوعة وكثيرة، فتارة تكون النصيحة بالمكاتبة ، وتارة تكون بالمشافهة وتارة تكون بالفعل، وكم من نصيحة أثمرت خيراً كثيراً ، ولقد كثر في الأقارب والجيران والأصحاب والخلان من وقع في معصية الله وتهاون بأوامر الله ، وأضاع فرائض الله لما قلت وضعفت النصيحة بين المسلمين ، وأصبح حال الجيد من الناس كما قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } .... الآية ، وكأنهم تناسوا قول الصديق رضي الله عنه : يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } .... الآية . وإنكم تضعونها على غير موضعها ، وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعذاب . رواه احمد وابن ماجه.
عباد الله : مما ينبغي أن يمتثله الناصح حين نصحه أن يكون نصحه خالصاً لله عز وجل حتى يكتب الله عز وجل للنصيحة القبول والتأثير، كما ينبغي أن يكون الدافع للنصيحة المحبة والإشفاق للآخرين، وإرادة الإصلاح لهم ، لا إظهار الشماتة والتعيير ، لأن الستر في النصح من سمات المؤمن الصادق ، قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: "الحبُّ أفضل من الخَوف، ألا ترى إذا كان لك عبدان مملوكان أحدُهما يحبّك والآخر يخافك، فالذي يحبّك منهما ينصحُك شاهدًا كنتَ أو غائبًا لحبِّه إياك، والذي يخافك عسَى أن ينصحَك إذا شهدتَ لِما يخافك، ويغشّك إذا غبتَ عنه ولا ينصحُك".
عباد الله : إن من كمال عقل المنصوح ونبل نفسه وسلامة سريرته قبوله النصيحة التي تقدم له لأن الناصح لم يقدم نصيحته إلا من محبة له يقول أحد السلف " أعلم أن من نصحك فقد أحبك ، ومن داهنك فقد غشك " أما من كره النصح من غيره وتكبر عن سماع الحق والموعظة فلا يأمن على نفسه من العاقبة ، قال العلامة ابن بطة رحمه الله : اعلم يا أخي أن من كره الصواب من غيره ونصر الخطأ من نفسه ، لم يؤمن أن يسلبه الله ما علمه ويكسبه ما ذكره ، بل يخاف عليه أن يسلبه الله إيمانه ، لأن الحق من رسول الله إليك افترض عليك طاعته ، فمن سمع الحق فأنكره بعد علمه له فهو من المتكبرين على الله ا.هـ .
الخطبة الثانية :
عباد الله : إن من أجل النعم التي أسبغها الله سبحانه على الصالحين من عباده بعد نعمة التوحيد والإيمان ما هيأ الله لهم من هؤلاء الناصحين الصادقين من إخوانهم في الدين ، الذين يسدون إليهم أوثق الجميل ، وأبلغ المعروف ، حين يذكرونهم بالله فيحسنون التذكير ، وحين يبصرونهم بالخفي من عيوبهم فيحكمون التبصير ، وما ذاك الفعل منهم إلا لأنهم علموا أن من حقوق إخوانهم عليهم بذل النصح لهم ، أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه انه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حق المسلم على المسلم ست وذكر منها وإذا استنصحك فانصح له .
أيها المسلمون : إن من علامات الإخوة الصادقة بين الأخوان بذل الأخ النصيحة لأخيه، فيبصره بعيوبه لكي يسير وإياه في طريق الخير أصفياء أنقياء ، تحفهم الملائكة في مجالس الذكر ، ويذكرهم الله سبحانه فيمن عنده ، وهذا النصيحة لا يقتصر بذلها في وجه الناصح فقط، بل للأخ حق في غيبته وذلك بالذب عن عرضه والدفاع عنه ، قال صلى الله عليه وسلم: " إن من حق المسلم على المسلم أن ينصح له في غيبته " ، ومعنى ذلك كما يقول ابن رجب رحمه الله تعالى : أي إذا ذكر في غيبته بالسوء فعلى أخيه أن ينصره ، ويرد عنه ، وإذا رأى من يريد أذاه في غيبته ، كفه عن ذلك ،فإن النصح في الغيب يدل على صدق النصح ا . هـ
عباد الله : الإنسان بطبعه لا يسلم من الخطأ والزلل والواجب على الأخ صادق الأخوة إذا رأى من أخيه هفوة أو زلة أن يبادره بالنصح والإرشاد ملتمساً في ذلك الستر وعدم التشهير فهو أدعى للقبول وأرجى للإخلاص وأبعد عن الشبهة ، قال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أمام الناس : يا أمير المؤمنين : إنك أخطأت في كذا وكذا ، وأنصحك بكذا وبكذا ، فقال له علي رضي الله عنه :" إذا نصحتني فانصحني بيني وبينك ، فإني لا آمن عليكم ولا على نفسي حين تنصحني علناً بين الناس " ، وقيل يوماً لبعض العلماء : أتحب من يخبرك بعيبك فقال : إن نصحني بيني وبينه فنعم ، وإن مرغني بين الناس فلا ، وما أجمل مقولة الشافعي رحمه الله حين قال : من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه ، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشأنه ...
تعمدني بنصحك بانفراد * وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع * من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت أمري * فلا تجزع إذا لم تلق طاعة
عباد الله : صلوا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة كما أمركم الله بذلك في كتابه