عباد الله:
نِعَمُ الله علينا في هذه الحياة كثيرة، لا تُعدُّ ولا تُحصَى، نتقلب فيها صباحَ مساءَ، لا غِنى بنا طرفة عين عن واحدة منها؛ ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 34]، ومِن بين تلك النِّعم عباد الله، التي امتنَّ الله بها علينا، نعمةُ نتلبَّس بها كلَّ يوم، تتكرَّر في حياتنا، ونحن عنها غافلون، وعمَّا فيها من العِبَر والعظات معرِضون.
تلك النِّعمة - عباد الله - هي: نِعمةُ النَّوْم، الذي جعله الله - تعالى - رحمةً بالعباد؛ لترتاحَ أبدانُهم، وتسكنَ جوارحُهم، وتهدأ أنفسُهم، ولا يُدرِك قدْرَ نعمة النوم إلاَّ مَن أُصيب بمرض أو أَرَقٍ، أو مسَّه جوعٌ أو بَرْد، أو حالَتْ دون نومِه الهمومُ والغموم.
أيها المسلمون:
النومُ نعمةٌ امتنَّ الله بها على عبادِه، ودعاهم ليتفكَّروا فيها، ويشكروا الله - تعالى – عليها؛ فقال – سبحانه -: ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾ [الرُّوم: 23]، فيا تُرى: أيُّ قوَّة في هذا الكون سوى قوَّة الله تستطيع أن تجعلَ اللَّيْل هادئًا ساكنًا للمنام، والنهار مبصرًا للحركة وانتشار الأنام؟! وأيُّ قوة - مهما بلغت - تستطيع أن تتصرَّف لو استمرَّ الزمانُ ليلاً سرمديًّا أو نهارًا أبديًّا؟! ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ﴾ [القصص: 71 - 72].
عباد الله:
إنَّ العبد إذا تدبَّر نِعمَ الله عليه، وتبصَّر فيها، ووازنَ بين حالة وجودها، وبين حالة عدمِها - تنبَّه عقله لمواضع المِنَّة، بخلاف مَن جرى مع العوائد، ورأى أنَّ هذا أمر لم يزلْ مستمرًّا ولا يزال، وعمي قلبُه عن الثناء على الله بنِعمه، ورؤية افتقارِه إليها في كلِّ وقت، فإنَّ هذا لا يُحْدِث له فكره شُكرًا ولا ذِكْرًا.
أيها المسلمون:
في النوم سِرٌّ من أسرار الله الدالَّة على قيوميته ووحدانيته، وأنَّه - سبحانه - المتفرِّد بتدبير العباد في يقظتهم ومنامهم؛ ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 60].
عباد الله:
إنَّ الأنفُسَ يتوفَّاها الله جميعًا عندَ نومها، فإذا شاء أن يُفسِح لبعضها في الأجَلِ، أعادها إلى الحياة مرَّة أخرى، ومن قَدَّر عليها الوفاةَ أمسكها، فلا يقظةَ بعد هذه النومة إلاَّ يوم يُنفخ في الصُّور، فمن ذا الذي يَقدِرُ على هذا ويُقدِّره سوى الله - جلَّ جلاله - ﴿ اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الزُّمر: 42].
أيها المسلمون:
لقد كان للمصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - هَديٌ عظيم في النوم، حيث كان ينام أوَّل الليل، ويقوم آخرَه، وأعدل النوم وأنفعه للبدن والأعضاء كما يقول الأطبَّاء ثمان ساعات في اليوم واللَّيْلة؛ أي: ما يعادل ثُلُثَ الليل والنهار، وإذا لم يأخذِ المرء كفايتَه من النوم أضرَّ بنفسه، وأوردها مواردَ التَّلَف والهلاك، وإذا نام زِيادةً على مقدار الحاجة اعتاد الخمولَ والكسل، وفوَّت على نفسه الكثيرَ من مصالِح الدنيا والآخرة، وقد جاء في منثور الحِكم "مَن لَزِم الرُّقاد عَدِم المُراد".
عباد الله:
لقد كَرِه العلماء نوم الصبحة؛ لضرره على البدن، حيث يُضعِف القُوَى، وينهك البدن، ويورث الأمراض، ولأنَّ أوَّل النهار وقتُ الرزق والسعي شَرْعًا وعُرفًا، وقد قال - عليه الصلاة والسلام -: ((اللهمَّ بارِكْ لأمَّتي في بكورها))، وقد رأى ابن عباس - رضي الله عنهما - ابنًا له نائمًا نومةَ الصبحة، فقال له: قم، أتنامُ في الساعة التي تُقسَّم فيها الأرزاق؟! وجاء عن بعض التابعين قولُه: إنَّ الأرض تعجُّ من نوم العالَم بعدَ صلاة الفجر.
عباد الله:
لقد كان نبيُّكم - صلَّى الله عليه وسلَّم - ينام على شِقِّه الأيمن، ويضع يدَه اليُمنى تحت خدِّه الأيمن، ثم يقول: ((اللهمَّ قِنِي عذابَك يومَ تبعث عبادَك))؛ أخرجه أبو داود وغيره، ولَمَّا رأى - صلَّى الله عليه وسلَّم - رجلاً نائمًا على بطنِه نهاه عن تلك الضجعة، وقال: ((ما لك وهذا النوم؟ هذه نومةٌ يكرهها الله، أو قال: يُبغِضها الله))، وسبب الكراهة عندَ هذه الرقدة أنَّها ضجعة أهْل النار، كما صحَّ بذلك الحديثُ عند ابن ماجه - رحمه الله تعالى.
أيها المسلمون:
لقد رعى الإسلامُ المسلِم في كلِّ شؤونه، فها هو الحبيب - صلَّى الله عليه وسلَّم - يأمر المسلِم أن ينفضَ فراشه قبل أن يضطجع عليه بقوله: ((إذا أوى أحدُكم إلى فراشه فلْينفضْه بداخلةِ ثوبِه))، وفي رواية: ((فليأخذْ إزارَه فلينفضْ بها فراشَه، وليسم الله فإنَّه لا يعلم ما خَلَفَه بعدَه على فراشه)).
عباد الله:
إنَّ من أدب الإسلام عندَ المنام ألاَّ ينامَ المرء وبيده بقايا من أثَر الطعام حتى يغسلها؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: ((مَن نام وفي يدِه غمر ولم يغسلها، فأصابَه شيءٌ، فلا يلومنَّ إلاَّ نفسه))؛ رواه أحمد، وصحَّحه الألباني، و(الغمر): هو الدسم والزهومة من اللَّحم وغيره، وقد ذَكَر أهلُ الطبِّ أنَّ رائحةَ الدسم قد تجذِب بعضَ أنواع الحشرات أو الحيوانات التي قد تسبِّب للإنسان أنواعًا من الأذى.
عباد الله:
لَمَّا كان النوم هو المحطَّة الأخيرة في يوم المسلِم، وقد يكون المحطَّة الأخيرة في عمره الدنيويِّ، حَسُن أن يختمَ المسلِمُ يومَه بالطهارة، وذِكْر الله - عزَّ وجلَّ - جاء في حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا أتيتَ مضجعك فتوضأْ وضوءَك للصلاة))؛ أخرجه الشيخان.
ومن هديه - عليه الصلاة والسلام - في ذِكْرِه لله عندَ النوم: أنه يجمع كفَّيه، ثم ينفث فيهما، ويقرأ فيهما بـ "قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس"، ثم يمسحُ بهما ما استطاع من جَسدِه، يبدأ بهما على رأسه ووجِهه، وما أقبلَ من جسدِه، يفعل ذلك ثلاثَ مرَّات.
عباد الله:
هناك الكثيرُ من الأذكار الواردِة عن نبيِّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - عندَ النوم، وحريٌّ بنا أن نحافِظ عليها، وأن نكون قدوةً صالِحة لأبنائنا في أدائها، والمحافظة عليها، وكم يَحسُن أن يشجِّعَ الأولياء أولادَهم على حِفْظ هذه الأذكار؛ لتكونَ حصنًا لهم من الشيطان، وليحوزوا بها رِضَا الرحمن.
عبد الله:
إذا كنتَ لا تدري إذا صَعِدتْ رُوحك إلى بارئها حالَ النوم، أتكون ممَّن تُمسَك رُوحُه فلا تعود، أم ممَّن تُرسل لتستكملَ بقية أجلها - فليس يليقُ بك أن تُودِّع الدنيا بالفجور والعصيان، أو أن يكون آخِرُ ما يقرع سمعَك ما يُغضِب الرحمن، بل ودِّع الدنيا بخير ما ينبغي أن تودَّع به مِن ذِكْر الله، وعزيمة على القيام لأداءِ فريضة الله، وإذا أنعم الله عليك، وأمدَّ في عمرك فاستيقظتَ، فاحمدِ الله، وقلْ كما قال المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الحمدُ لله الذي أحيانا بعدَ ما أماتنا، وإليه النُّشور))؛ أخرجه البخاري ومسلم.
اللهم يا حي يا قيوم، فقِّهْنا في الدِّين، وارزقْنا شكرَك، وذِكْرَك، وحُسنَ عبادتك.
الخطبة الثانية
عباد الله:
أعمارُ أمَّة محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما بين السِّتِّين والسبعين، ومَن نام في يومه وليلته ثمان ساعات، وأمدَّ الله في عمره حتى بَلَغ 60 سنة، فقد أمضى من عمره عشرين سَنَة نائمًا، وإنَّ العاقل منَّا حين يدرك مُضِيَّ كلِّ هذا العمر في النوم، العاقل هو مَن ينتفع بنومِه، ويضمُّه إلى ميزان حسناته، ويجعله عبادةً يُثاب عليها، بدلاً من أن يخسر كلَّ هذا الكمِّ من ساعات وأيَّام حياته دون فائدة، وقد كان ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: "إنِّي لأحتسبُ نوْمتي (أي: أرجو الثواب عليها) كما أحتسِبُ قَوْمتي".
أيها المسلمون:
إنَّ المتأمِّلَ اليوم في حال العلماء الربانيِّين، والدعاة المخلصين، يلحظ قِلَّة نومهم - مع حِرْصهم على أخْذ كفايتهم - وهذا هو دَيْدن السَّلف - رحمهم الله تعالى - لا يَطْعمون الكرَى إلاَّ قليلاً، ولا يهجعون في ليلهم إلاَّ يسيرًا، تتجافَى جنوبُهم عن المضاجع، يَدْعُون ربهم خوفًا وطمعًا، قال الحسنُ البصريُّ - رحمه الله -: "توبوا إلى الله مِن كثرة النوْم والطعام"، وقال ابن قدامة المقدسيُّ - رحمه الله -: وينبغي ألاَّ ينامَ حتى يغلبَه النوم، فقد كان السَّلَف لا ينامون إلاَّ غَلبةً، ويقول الضحَّاك - رحمه الله -: أدركتُ أقوامًا يَستحْيُون من الله في سوادِ هذا اللَّيْل من طولِ الضَّجْعة.
فاتَّقوا الله عبادَ الله، واحْرِصوا - رحمكم الله - على هدِي الإسلام وأدبه في النوم، وغيره من شؤون الحياة، تفوزوا وتُفْلِحوا.
ثم صلُّوا على مَن أَمَركم الله بالصلاة والسلام عليه.