الخطوة الأولى في أي مشروع هي تاريخه الكبير بعد ذلك ، وهي الشرارة التي تلهب في أرضه قوادح النار ، ولو لم تكن كذلك لما جسرت أن أجعلها عنواناً لهذه المقالة ..
كثيرون هم الذين يتمنون السعادة ، ويهتفون بالراحة والطمأنينة ، ويجهدون في تحقيق معاني الحياة الكريمة في أنفسهم ، ثم لا يصلون .. ! وكثيرون كذلك هم الذين يبحثون عن صلاح زوجة ، ووفاء أسرة ، وقضاء دين ثم يرسبون في الوصول إلى النهاية !
وحين تمعن في سبب إخفاق هؤلاء عن الوصول تجد أن كل هؤلاء يجهدون في غير طريق ، وفي النهاية يخسرون كل شيء .
إن ثمة سنن لله تعالى في خلقه لا يمكن أن يطال شيء من الدنيا إلا بعد الأخذ بها كما أراد الله تعالى ، وأي رغبة في الإصلاح لا تتواءم مع هذه السنن هي رغبة مشوهة ، عارية عن عوامل التوفيق حتى لو كانت تجيش بالقلب أوسع ما يكون .
إن جزءاً من إشكالاتنا أننا نقرأ القرآن ونحن لا ندرك أن فيه حياتنا أكمل ما تكون ، ونقرأ القرآن بغية في الأجر وننسى أن حلول مشكلاتنا مهما بلغت سر حلها الجذري في كتاب الله تعالى ، وقد قال الله تعالى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [سورة يونس - 57] والهدى والرحمة المشار إليها في الآية أوسع مما يتخيل قارئ في لحظة تدبّر !
إن الخطوة الأولى للتغيير تكمن في الأخذ بسنن الله تعالى في التغيير ، وقد قرر الله تعالى في كتابه أن التغيير في حياة الأمم والأفراد والمجتمعات منوط بهذه الخطوة ، ومعقود على الأخذ بها في بداية الرحلة ، قال تعالى { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [سورة الرعد - 11] وكم نحن بحاجة إلى إعادة قراءة هذه الآية قراءة تأملية نقف منها على هذه السنة الكبرى في عالم التغيير .
إن الآية واضحة صريحة تؤكّد على مسألة في غاية الأهمية هو أنه مهما كانت الأماني تعصف بالإنسان للتغيير ، ومهما كانت الأشواق تهييج روح الخلاص من المشكلات التي يعيشها الإنسان إلا أنها ليست كافية في إحداث التغيير المرغوب ، مهما كانت جذوتها في القلب ! وعيشها في الضمير ! .
إن الله تعالى قادر على أن يقول للشيء " كن فيكون " لكن سننه في خلقه ، وعادته في الكون تأبى أن يقول ذلك ، وتأبى لأي تغيير أن يأخذ مساحته في حياة أي إنسان إلا بعد الأخذ بسنة الله تعالى في هذا التغيير ، وكل من يحاول خلاف ذلك ، ويجهد بغير هذا الطريق فإنما يعبث بوقته في غير طائل ، ويكتب على نفسه مزيداً من الرحلة في العناء الطويل ..
إن الخطوة الأولى في هذا التغيير تبدأ من الإنسان ذاته ، وحين يحسن العناية بهذه الخطوة تتنزّل عليه بعد ذلك بشائر التغيير كأنما حرّك جذرها ، وأهاج ورقها الكثير ..
إن هذه السنة واضحة في كتاب الله تعالى غاية الوضوح ، فهاهو الله تعالى في سورة الليل يقرر قدر هذه الخطوة في التغيير فيقول تعالى { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل - 10:5] إن التيسير لليسرى ، والتيسير للعسرى هنا هو نتيجة للخطوة الأولى التي يخوضها الإنسان في حياته ، فإن كانت هذه الخطوة تقوى وعطاء وتصديق كانت الخاتمة يسرى في كل شيء ، يسرى في قلبه ، ويسرى في وقته ، ويسرى في بيته ، ويسرى في عمله ، ويسرى في كل حياته ، وإن كانت الخطوة بخل وتكذيب كانت الخاتمة عسرى في كل شيء ، عسرى في قلبه وحياته ، وعسرى في بيته وعمله ، وعسرى في رزقه وأهله .. وأظن هذه الخطوة بهذا البيان واضحة الأثر ، كبيرة المعنى.. !
وإذا تأملت أكثر في كتاب الله تعالى وجدت أن الله تعالى ساق لك الأمثلة الواضحة لتقرير أهمية هذه الخطوة في حياتك ، فخذ على سبيل المثال قصة مريم بنت عمران والتي ساق الله تعالى أحداثها في سورة مريم ، وتأمل في قول الله تعالى لها بعد نفاسها مباشرة { وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً } [سورة مريم - 25] إن هذا التوجيه يصل إلى مسمع مريم وهي في حالة إعياء من اثر النفاس ، وقد تجد كللاً في التقاط الرطب المتساقط لتأكله ، فكيف تهز جذعاً لو اجتمع على هزه جمع من الرجال ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً؟! ويعلم كل عاقل أنه كان يمكن اختصار ذلك الجهد في أمر الله تعالى للنخلة أن تساقط رطبها بين يدي مريم في لحظة ضعفها ، لكن سنة الله تعالى تأبى ذلك وترفضه ، لأن الخطوة الأولى لا يعدلها شيء في سنن الله تعالى ، " وهزي " ليس شرطاً أن يكون هز مريم قوياً للدرجة التي يتساقط منها الرطب .. لا ! وليس لها إلى ذلك من سبيل ، وإنما السنة تؤكّد على أن على مريم أن تمد يدها وتحاول ، وتبدأ رحلة جني الرطب بهذا الجهد حتى في حالة ضعفها وظروفها الراهنة ... ثم يكون لها ما تريد !
وتأمل في قصة موسى عليه السلام ، وقد خرج هارباً من فرعون وجنوده ، فارً بمن آمن معه من بني إسرائيل ، لما وصل البحر ، ضاق به الأمر ، وفزع وقومه أن فرعون وصل إليهم ولا سبيل إلى الخلاص منه ، وهنا أراد الله تعالى أن يربد الأشياء بأسبابها ، وأن يبين عن أثر الخطوة في كل مشروع ، فقال تعالى { فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } [الشعراء - 63] وكان يمكن اختصار الطريق كذلك في كلمة " كن فيكون " تأييداً لعبادة ، ونصراً لأوليائه إلا أن هذا يخالف سنته الكونية ، فأراد الله تعالى أن يمضي هذا الحادث في فلك الأخذ بالأسباب فأمره بضرب البحر بتلك العصا التي كان يهش بها على غنمه بالأمس ..
إنني أود أن أقول لك أن العناية بالخطوة الأولى هو الذي يهب لك التوفيق ، وتحقيق مرادك على ظهر الأرض ، ولن يكون غير تلك الخطوة شيئ يدفع بك إلى ما يتنتظر من آثار ..
إن الأُنس الذي تريده في حياتك ، والمتعة التي تتشوّق إليها بقلبك ، والسعادة التي تلهث من أجل الحصول عليها لن تتم إلا بتلك الخطوة التي تقوم بها من إصلاح نفسك ، وترتيب علاقتك بالله تعالى ، وإعادة الوهج إلى تلك العلاقة وحينئذ تتنزّل عليك آثار الرحمة والسعادة والطمأنينة أفرح ما تكون ، قال الله تعالى { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [سورة النحل - 97] وأعلم أن آثار هذه الخطوة أكبر مما تتصوّر في حياتك ، وفي سورة الكهف التي تقرأها كل أسبوع خبر الجدار الذي بني للفتية دون مقابل ذلك أن أباهم كان صالحاً قال الله تعالى { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا } [الكهف - 82] قد قال أهل التفسير أن هذا الأب هو الجد السابع ..
ومثل ذلك تماماً ذلك الذي يعاني من سوء وضعه المالي لن يكون فرجه وإعادة ترتيب وضعه إلا بالخطوة الأولى في حياته ، وقد قال الله تعالى في كتابه مبيناً ذلك { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ } [الأعراف - 96].
ومثلهما طالب العلم الذي يرجو أن يكون متميزاً في قادم الأيام لن يكون له ذلك أو حتى بعضه حتى يعيش هذه الأمنية في كل ذرة من شعوره أولاً ثم يذهب يركض إليها بروحه وجسده وماله ووقته ثم تتنزّل بعد ذلك منح السماء معانقة له مباركة له جهده ، مهنأة له بالوصول ..
ومثل ذلك من يريد أن يكون متميزاً في كل مشروع عليه أن يدرك تماماً أن الخطوة الأولى هي الشرارة التي تنير الظلمة مهما كانت حالكة ، وهي الوهج الذي يشع في الأرض نوراً كبيراً ..
وإلى تاريخ هذه اللحظة لم أسمع أن إنساناً يرفع يديه يريد ذرية صالحة وهو لم يتزوج ، ولم أسمع أن إنساناً سأل ربه الثمرة ولم يزرع بعد ! ولا طالباً يريد النجاح والتميّز وهو لم ينتظم في مدرسة ولا عمل ...
أسأل الله أن يكتب لنا ولكم التوفيق .. إنه ولي ذلك والقادر عليه .