الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتديَ لولا أن هدانا الله، أحمده سبحانه وأشكره على ما أسبغ من الخير وأعطاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا ربَّ لنا غيرُه، ولا معبود بحقٍّ سواه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسوله، وصفيُّه ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم نلقاه.
أما بعد:
فاتَّقوا ربَّكم أيها المؤمنون حقَّ التقوى؛ فهي الزادُ ليومِ الميعاد، وبها النجاةُ يوم التَّناد؛ {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].
إخوة الإيمان:
ترقُّ القلوب، وتخشعُ النفوس، وتُصغي الآذان، وترنو العيون، حينما يكون الحديثُ عن حياةِ محمد وصحابةِ محمد - صلى الله عليه وسلم - تلك الحياة التي تمثَّلت هذا الدِّينَ في أكملِ صُوره، وأبهى مقاماته، فكانت سيرتُه وسيرتُهم سلفًا ومثلاً لمن بعدهم، ولا يزالُ أواخرُ الأمِّة بخيرٍ ما لحقوا بركبِ أوائلِهم، فاهتدوا بمنارِهم، وتمثَّلوا نهجَهم.
نقتربُ مع مشهدٍ واحد من مشاهدِ حياتِهم وصدقِهم، وكرمهم وإيثارِهم، مشهدٍ يجلي لنا حقيقة الدنيا في قلوبِهم، ويُبرز لنا شرفَ نفوسِهم، وتعلُّقَها بالدار الآخرة.
فيا أخي المبارك:
استجمعْ معنا قالبك وقلبك أمامَ هذا المشهدِ العظيمِ، الفريد في تاريخنا المجيد، تَصوَّرْ فصولَه بفكرك، وتأمَّلْ حَلقَاتِه بوجدانك، وسرِّح معه ما شئتَ من خيالك، فأنت أمام مشهد لا يتكررُ إلا نادرًا.
ها هو رجلٌ من صحابةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَمشي الهُوَينى، قد علا وجْهَه شُحُوبُ الجوع، وقَتَرةُ الإعياء، تجرُّه رِجلاه نحو الرحمة المهداة، ومَن فاضتْ بالعطايا يُمناه، حتى وقف بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إني مجهود.
لم تُسمِّ لنا دواوينُ السُّنةِ ذلك الرجلَ، ولم تَذكُرْ كتبُ السِّيَر والتاريخِ وصْفَه، وإنما شخَّصت لنا حاله، ونَقَلَتْ إلينا شِكَايَتَه.
يا رسولَ الله، إني مجهود، فما كان مِن الرؤوف الرحيم إلا أن رقَّ لحاله، وتحرَّك في قلبِه الكرمُ النبوي المعهود، فأرسلَ خيرُ الخلق وأكرمُ الخلق إلى إحدى زوجاتِه يسألُها إن كان عندها ما يَقري الضيف؛ فأتاه الجوابُ سريعًا: والذي بَعثَكَ بالحقِّ، ليس عندنا إلا ماء! فأرسَلَ رسولَه إلى زوجتِه الأخرى، فأتاه الرسولُ بعد هنيهة، وهَمَسَ له بردِّ أهله: ليس عندنا إلا ماء؛ فأرسلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رسولَه مرةً ثالثة، ورابعةً، وخامسة، في كل مرة يعودُ الرسولُ بجوابِ أهله: والذي بعثك بالحق، ليس عندي إلا ماء.
فيا تاريخُ، سجِّل، ويا بَشَريةُ، تعجَّبي، ويا نفسُ، اتَّعظي، خَوتْ بيوتُ خيرِ الخلق وأشرفِ الخلق من أبجديات العيش، وأساسياتِ الحياة.
أما والله، لو شاءَ رسول الله، لعجَّت تلك البيوتُ بأطيبِ الطعام، وأشهى الثمار.
أما والله، لو شاء رسول الله، لطرَّز مساكنه بحللِ الفضة، ودرر الذهب.
أمَا قال له ربُّه: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} [الفرقان: 10]؟!
أما خيَّرَه ربُّه بين دنياه وما عند الله، فاختار ما عند الله؟!
فلذا لم يكن رسول الهدى، ولا أهلُ بيتهِ الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيرًا - يأسفون على ما فات من أمر الدنيا، فرَضُوا أن يكونَ عيشُهم كفافًا، ورزقهم قوتًا؛ انتظارًا ورجاء لما عند الله؛ {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضُّحى: 4].
نعم، لقد خَلَتْ بيوتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - من المتع والزينة؛ لأن صاحبها كان يواسي الآخرينَ بمالِه قبلَ نفسِه وأهلِه، لقد رأى الناسُ صاحبَ هذه البيوت التي لم يوجد فيها إلا الماء، يُعطي عطاءً يَعجزُ عنه الملوك.
رأوه يُعطي الإبلَ بالمِئين، والغنم بين جبلين، حتى قال قائلهم: إن محمدًا يعطي عطاءَ مَن لا يَخشى الفقر.
ما ردَّ في حياته محتاجًا، ولا نَهَرَ سائلاً؛ بل حتى الثياب التي عليه أعطاها لمن سأله إياها.
لما بلغ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رسالةُ زوجاته، وَعَلِم أنه قد عَجَزَ عن ضيافةِ الرجلِ المجهود، التفَتَ حينها إلى صحابته الكرام، فقال لهم: ((مَن يُضيفُ ضَيفَ رسول الله؟))، فقامَ رجلٌ من الأنصار، أسمرُ البَشَرة، مربوعُ الخِلقة، فقال: أنا يا رسول الله.
بادَرَ ذلك الرجلُ وهو ليس مِن عِليةِ القوم، ولا أشرافهم، ولا تجارهم، بادر ذلك الرجل وهو لا يدري كيف وكم في بيته من غذاء ومؤونة!
ويزول عجبُك، وتذهبُ دهشتك، إذا عرَفتَ أن ذاك الأنصاري هو الشهم الكريم أبو طلحةَ زيدُ بنُ سهل، ذلك الباذل البار، الذي سَمِعَ قولَ الله - تعالى -: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، فأوقف أرضَ بَيْرحاء - أغلى وأنفس ما يملك - على أقاربه وعشيرته.
ذلك الرجل الشجاع، الذي قال عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لصوتُ أبي طلحة في الجيش خيرٌ من ألف رجل)).
ذلك الرجل المِسْعَر، الذي كان يَدورُ حول النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحد يتلقَّى السهام بصدره، ويكفُّها عن حبيبه، وهو يقول: نحري دون نحركِ.
انطلق الأنصاريُّ أبو طلحة إلى بيته، وهو يرى أنه قد حَظِيَ بَشَرَفِ ضِيافةِ ضَيفِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل على أهلِه وسألهم: هل عندكم هذه الليلةَ من شيء؟ فيأتيه الجواب: ليس عندنا والله إلا قوت صبياننا. ولك أن تتخيل كم هو مقدارُ ذلك الطعام، الذي لا يَكفي إلا لتلك الأكباد الصغيرة.
لم ينزعج هذا الأنصاري، ولم يتأفَّفْ أو يُحوقل؛ بل اتَّخذ قراره سريعًا، وقال لزوجته: علِّلي الصبيان بشيءٍ ونوميهم، فإذا دخل الضيف، فأطفئي السراج، وأريه أنَّا نأكل، فما كان من تلك المرأة إلا أن هزَّت رأسَها طاعةً لزوجها، وهي تتغصَّصُ مشاعر الأمومةِ في قلبها.
لم تَتَبرَّمْ من تلك الضيافةِ المفاجئة، والزيارةِ الخاطفة؛ تقديرًا لزوجها، وإكرامًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك المرأةُ الصالحةُ التقيَّة، هي أمُّ سليم بنتُ ملحان، والتي كثيرًا ما كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يسألُ عنها، ويرِقُّ لحالها، ويقول: ((قُتِلَ أخوها وأبوها معي))، وأكرمها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يومًا بالصلاة في بيتها.
نوَّمتْ أمُّ سليمٍ صِبْيانَها على مَسْغَبَتِهم، وأَصْلَحتْ طعامها، وأَوْقَدَتْ سِراجها، ودخل الضيفُ بيتَ الأنصاري، فقُدِّم إليه عشاءُ الصِّبيةِ المتواضع القليل، وقامت أمُّ سليمٍ إلى السراج كأنَّها تُصْلحُه، فأطفأتْه، حتى عمَّ الظلامُ، وجعل الزوجان الأنصاريان يتصنَّعان مضغَ الطعام، والأكلَ مع الضيف، حتى أتى الضيفُ على طعامِهم كلِّه، ولم يَشعر أنَّ أهل البيت لم يأكلوا منه شيئًا.
ومرَّت تلك الليلةُ على الضَّيفِ هادئةً رخيَّة، وبات عند الأنصاري في بيته براحةٍ وهناء، أما أبو طلحة وزوجته وصبيانُه، فقد ناموا، ولكن بعد أن طَوَى الجوعُ أكبادَهم، وانتهت تلك الليلة بضيافتها المتواضعة، ولكن انتَهَتْ حلقاتُ ذلك المشهد؟ وهل طوت القصةُ صفحاتِها؟
أشرقت الشمسُ شعاعها، وأنارَ في الأفقِ ضياؤها، فغدا أبو طلحة الأنصاري إلى مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجده، فرأى أساريرَ الوجه النبوي الكريم قد استنارتْ كأنه قِطْعة قمر، فهشَّ له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وبشَّ، وقال له مبشِّرًا ومثنيًا: ((لقد ضحك الله - أو عجب الله - مِن فعالكما بضيفكما، فأنزل عليَّ الليلة: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 9])).
لم يتمالك أبو طلحةَ نَفسَه من الفرح، حين سَمِعَ تلك البشارةَ من فم النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسرع خُطاه نحوَ بيته الذي بات جائعًا؛ ليُثلجَ صَدرَ زوجتِه، ويُقرَّ عينَها بأنَّ الله - تعالى - قد أنزل في شأنهما كتابًا يُتلى إلى قيام الساعة.
ولكأني بهما والله، أن يتمنَّيا أن يبيتا جائعينِ لياليَ وأيامًا عدة؛ لينالا بعدها ذاك الوسامَ، وذاك الشرف.
وظل أبو طلحة الأنصاري بصدقه وصدقته، وإيثاره البالغ، قريبًا من قلبِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرف لأبي طلحة فضلَه، وكرمَه، ومعروفه، حتى إذا كانت حجةُ الوداع، ازدحم الناسُ حول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمنًى وهو يحلقُ رأسه، كلٌّ يرجو أن ينالَ من بَرَكةِ شَعَرَاتِه، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعطي الناسَ من شَعر شِقِّه الأيمن الشعرةَ والشعرتين، وحَبَسَ شَعر شِقِّه الأيسر وأعطاه كلَّه لأبي طلحة الأنصاري.
تلك - عبادَ الله - صفحةٌ بيضاء، ومشهدٌ مذكور، وموقفٌ سطَّره القرآن، لا يسعُ النفسَ إلا أن تقف أمامه خاشعةً، مترضية عن الصحابة الكرام، وسادة الأمة الأعلام.
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عبده المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اجتبى.
أما بعد:
فيا معاشر المؤمنين، علَّمتنا هذه القصَّةُ دروسًا وفوائدَ عدة:
* فصوَّرت لنا نموذجًا من نَماذج الإيثار الذي عاشه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
الإيثارُ: أن تتركَ ما تحتاجُ إليه لمن يحتاجُ إليه، ذاك الخلق سلوكٌ نبيل، يزرعُ روحَ المحبة، ويقوِّي أواصرَ الأخوَّة، ويصفِّي النفسَ من الجشع، ويهذِّبها من الشحِّ، وهو خلقٌ إسلامي حميد، يَعِزُّ وجودُه في عالمِ الماديات.
* وعلمتنا هذه الحادثة: أن الأخلاقَ الحقَّة تظهر في الأزماتِ الحَرِجَة، والمواقفِ الصعبة؛ فكل إنسانٍ يدَّعي وصلاً بالأخلاق، ويَنْعتُ نفسَه بها، ولكن عند الأزمات تُمتحن الأخلاق، فعند الخصاصةِ والحاجة، تبرزُ أخلاقُ الكرماء، وعند الخوف والهلع، تتجلى شجاعةُ الشجعانِ، وعند المقدرةِ مع إمكانيةِ الانتقامِ والعقوبة، يَبين خُلقُ العفوِ والصفح، وعند مواطن الفتن والمغريات، يظهر خلقُ العفة.
* وصورت لنا هذه القصة: المشهدَ الرائعَ للأُسرة وهي تتفاعل مع الموقف، وتوزِّعُ الأدوار بينها.
فما أجملَ أن تكون المرأة نِعمَ العونُ لزوجها في حياته ومواقفه! وأجمل من ذلك أن يعرفَ هذا الزوج مواقفَ أهلِه ومعروفَهم، فيذكرها ويشكرها.
* وعلمتنا هذه الحادثة أيضًا: أدبًا لطيفًا في الضيافة، وهو أنه ينبغي للمضيف ألاَّ يُخجل ضيفه، أو يشعره أنه ثقيل عليه؛ فأبو طلحة أمرَ أهله بإطفاءِ المصباح؛ حتى لا يُشعر ضيفَه أنه قد حَرَمَهم عشاءهم.
وهذا الأدب الجليل قد تمثَّله أبو الأنبياء الخليل - عليه السلام -: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات: 26]؛ أي: ذهب بسرعة وخفية؛ لئلا يخجل منه الضيف.
* وعلمتنا هذه القصة: أهميةَ المبادرة الإيجابية إذا لاحت الحاجات، وأن هذه المبادرات هي التي تبقى وتُرسم عن شخصية الإنسان، فهذه المبادرةُ من أبي طلحة للخير ظَلَّتْ باقيةً له في أَثَرِه وسيرته، وقلِّب نظرك في حياة العظماء والمصلحين المؤثرين، ترى فيها سلسلةً من المبادرات الإيجابية نحو الخير ونفع الناس؛ ولذا حصل تأثيرهم، وبقي أثرهم.
فيا أخي المبارك:
اجعل روحك سبَّاقة للخيرات، لا تترك فرصةَ خيرٍ أو أجر، إلا وثبتَ عليها؛ فلا تدري فلعل ذلك العمل - وإن كان صغيرًا - تكون به ومعه سعادتُك ونجاتك في أخراك، وبقاءُ ذِكرك في دنياك.
تلك - عبادَ الله - بعضُ الوقفات والفوائد، والفوائد كثيرة.
نسأل الله - عز وجل - أن يجعلنا مفاتيحَ لكل خير، مغاليقَ دون كل شر، وأن يجعلنا مباركين أينما كنا.