في صلح الحديبية كان الاتفاقُ بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعماء قريش على أن من أحب أن يدخل في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم، وكانت بين القبيلتين حروب ومنازعات هدأت لوقت ما بعد هذا الصلح.
وبعد ما حدث للمسلمين في (مؤتة) قام رجل من بني بكر يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسمع رجل من خزاعة، فقام هذا وضربه، فهاج ذلك الحادثُ دفينَ الأحقاد، واستثار كمينَ الأضغان، فقام جماعة من بني بكر فعقدا العزم على الأخذ بثأرهم، واستعانوا بحلفائهم من قريش فأعانوهم سرًّا بالرجال والسلاح، وأغاروا ليلاً على خزاعة وهم على ماء يقال له الوتير، فقتلوا منهم ثلاثة وعشرين رجلاً، فهرعت خزاعة إلى الحرم، ولجأت إلى دار بديل بن ورقاء، وأسرع عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة، فأنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد مع الناس:
يا رب إني ناشد محمدًا *** حلفَ أبينا وأبيه الأتلدا [1]
إن قريشًا قد أخلفوك الموعدا *** ونقضوا ميثاقك المؤكدا
هم بَيَّتونا بالوتير هُجَّدا *** وقتلونا ركعًا وسجدًا [2]
فانصر هداك الله نصرًا أعتدا *** وادع عباد الله يأتوا مددًا [3]
فيهم رسول الله قد تجردا *** إن سِيمَ خسفًا وجهه تربدا [4]
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن سالم"، وعرضت لرسول الله صلى الله عليه وسلم سحابة فنظر إليها وقال: "إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب"، وفي هذا المقام يروى عن ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بات عندها ليلة، فقام يتوضأ للصلاة، قالت: فسمعته يقول في متوضئه: لبيك لبيك ثلاثًا، نصرت نصرت ثلاثًا. فلما خرج قلت: يا رسول الله سمعتك تقول في متوضئك: لبيك لبيك ثلاثًا، نصرت نصرت ثلاثًا، كأنك تكلم إنسانًا، هل كان معك أحد؟ قال: "هذا راجز بني كعب يستنصرني ويزعم أن قريشًا أعانت عليهم بكر بن وائل"... قالت: فأقمنا ثلاثًا ثم صلى الصبح بالناس، فسمعت الراجز ينشد... أخرجه الطبراني في الصغير.
قال ابن إسحق: "ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأخبروه بما أصيب منهم وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم انصرفوا راجعين إلى مكة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: "كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد ويزيد في المدة". وتحقق ما تنبأ به الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد أرسلت قريش أبا سفيان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الغرض بعد أن رهبوا ما صنعوا. ووصل أبو سفيان المدينة، فدخل على بنته أم حبيبة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه. فقال: يا بنية. ما أدري أرغبتِ بي عن هذا الفراش أم رغبتِ به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس. ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر. فقالت: بل هداني الله للإسلام. وأنت يا أبت كيف تنأى عن الإسلام وتقبل أن تعبد حجرًا لا يسمع ولا يبصر؟ فقام من عندها فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فقال: يا محمد. إني كنت غائبًا في صلح في الحديبية، فجدد العهد وزدنا في المدة، فقال صلى الله عليه وسلم: "ألذلك جئت؟"، قال: نعم، فقال: "فهل كان من حدث؟"، فقال: معاذ الله، نحن على صلحنا وعهدنا لا نغير ولا نبدل، فقال صلى الله عليه وسلم: "فنحن على ذلك"، فأعاد القول على النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يرد عليه شيئًا، فانطلق إلى أبي بكر فعرض عليه أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى، فذهب إلى عمر فقال: أنا أشفع لكم؟ والله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به، فأتى عثمان فرفض أن يشفع لهم، فأتى عليًّا فامتنع، وكان معه فاطمة وابنها الحسن، فقال أبو سفيان: يا بنت محمد هل لك أن تجيري بين الناس؟ فقالت: إنما أنا امرأة، فقال: مري بنيك هذا فيجير بين الناس، فقالت: ما بلغ ابني أن يجير. فقال أبو سفيان لعلي: يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني. فقال: والله ما أعلم شيئًا يغني عنك، ولكن قم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك، ففعل ما أشار به، ثم ركب بعيره وانصرف بعد أن طالت غيبته واتهمته قريش من أجل ذلك بأنه دخل في دين محمد.
ولم يكد أبو سفيان يغادر المدينة حتى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن يتجهزوا لمباغتة أهل مكة، وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها، وسمع حاطب بن أبي بلتعة بالأمر فكتب كتابًا يخبر أهل مكة بوجهة النبي صلى الله عليه وسلم، واستأجر لذلك امرأة وطلب منها أن تخفيه ما استطاعت، فأطلع الله نبيه على ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام لعلي والزبير والمقداد: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها"، فانطلقوا حتى أتوا الروضة، فوجدوا المرأة، فطلبوا منها الكتاب، فأنكرت أن يكون معها كتاب، فقالوا: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما هذا يا حاطب؟" قال: لا تعجل علي يا رسول الله؛ إني كنت امرأ ملصقًا في قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدًا يحمون قرابتي، وما فعلت ذلك كفرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه قد صدقكم"، فقال عمر: دعني يا رسول الله فأضرب عنقه، فقال: "لعل الله قد اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". [أخرج هذا البخاري ج 6 ص 186 ومسلم ج 4 ص 1941 عن علي رضي الله عنه]، وقد نزل في هذا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ}... الآيات، ورحم الله من قال:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد *** جاءت محاسنه بألف شفيع
أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى من حوله من العرب يقول لهم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان في المدينة"، فقدم من أسلم منهم حتى تجمع عنده عشرة آلاف، وتلاحق به ألفان، فكانوا اثني عشر ألفًا من المهاجرين والأنصار وبقية القبائل المسلمة، فاستخلف عليه الصلاة والسلام أبا رهم كلثوم بن حصين على المدينة، واستخلف ابن أم مكتوم على الصلاة بها، وخرج عليه الصلاة والسلام بعد العصر لعشر مضين من رمضان سنة ثمان من الهجرة، ولما وصل إلى الكديد أفطر فأفطر الناس، وعندما وصل الجحفة لقيه عمه العباس مهاجرًا بأهله وعياله، فأمره أن يرسل عياله إلى المدينة ويبقى هو معه، وفي مكان يدعي نيق العقاب لقيه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة أخو أم سلمة، فالتمسا الدخول عليه، فقال: لا حاجة لي فيهما، فقال ابن عمه أبو سفيان وكان معه بني له: والله ليأذن لي أو لآخذن بيدي بني هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشًا وجوعًا، فرق لهما وسمح لهما بالدخول فأسلما.
ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران أمر بأن يوقد كل من كان معه في الجيش نارًا فاستجابوا لأمره، وكانت قريش قد أرسلت أبا سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأوا في الطريق نيرانًا كأنها نيران عرفة، فارتاعوا وفزعوا وسقط في أيديهم، واتفق أن كان العباس راكبًا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم يبحث عن رجل يبعث به إلى أهل مكة ليطلب منهم أن يستأمنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن يلتهمهم جيشه، فلما التقى بأبي سفيان عرفه من صوته فنصح العباس له أن يركب خلفه ليأخذ له الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يظفر به أحد من المسلمين فيريق دمه، واستجاب أبو سفيان، وبينما هو راكب خلف العباس إذ لمحه عمر فأسرع إليه يريد أن يدق عنقه، فأسرع به العباس ودخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحقهما عمر يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضرب عنقه، فقال العباس: يا رسول الله إني قد أجرته، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "اذهب به إلى رحلك يا عباس، فإذا أصبحت فأتني به"، فذهب به العباس إلى رحله فبات عنده، فلما أصبح غدا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله"، قال: بأبي أنت وأمي، ما أكرمك وأحلمك وأوصلك، لقد ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عنا شيئًا، لقد دعوت إلهك فأجابك ونصرك، ودعونا آلهتنا فما سمعت لنا. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟" قال: بأبي أنت وأمي! ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أما هذه ففي النفس منها شيء حتى الآن. قال العباس: ويحك يا أبا سفيان أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قبل أن يضرب عنقك فشهد شهادة الحق وأسلم. فقال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن"، فلما أراد أن ينصرف قال الرسول صلى الله عليه وسلم للعباس: "احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها"، فأوقفه العباس حيث أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرت كتائب الجيش كتيبة كتيبة على أبي سفيان حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة رجراجة لا يرى إلا الحدق من الحديد، فقال أبو سفيان: ما لأحد بهؤلاء قِبَل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك بن أخيك عظيمًا، فقال العباس: يا أبا سفيان إنها النبوة، قال: فنعم إذن.
بعد ذلك قال العباس: يا أبا سفيان، أسرع إلى قومك وانصح لهم كي يحسنوا استقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يكون هناك قتل، فهرع إليهم أبو سفيان يصرخ في أهل مكة بأعلى صوته: يا معشر قريش. هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا ويحك! وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.
وضع الرسول صلى الله عليه وسلم خطة الدخول إلى مكة؛ فجعل الزبير بن العوام على الجناح الأيسر من الجيش، وأمره أن يدخل مكة من شمالها، وجعل خالد بن الوليد على الجناح الأيمن، وأمره أن يدخل مكة من أسفلها، وجعل أبا عبيدة بن الجراح على جماعة المهاجرين، وأمره أن يدخل مكة من أعلاها في حذاء جبل هند، وجعل سعد بن عبادة على جماعة الأنصار ليدخل مكة من جانبها الغربي، وبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم عن سعد أنه قال: (اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة... اليوم أذل الله قريشًا)، فقال صلى الله عليه وسلم: "اليوم يوم المرحمة... اليوم تعظم الجزية... اليوم أعز الله فيه قريشًا"، ثم أمر بأن تؤخذ الراية من سعد وتدفع إلى قيس ابنه، فلما دنا من مكة أمر بأن يأخذها علي بن أبي طالب حتى لا يثير حفيظتهم، ويهيج ضغينتهم، وأوصى عليه الصلاة والسلام قادة الجيش ألا يقاتلوا، وألا يسفكوا دمًا إلا إذا أكرهوا على ذلك، ووصل الجمعة لعشرين خلت من رمضان نحو مكة. فرأى أهلا لا يقاومونه فانحنى شاكراً لله، ودخلت الجيوش مكة دون مقاومة إلا جيش خالد، فقد كان يقيم في الحي الذي دخله أعدى أعداء الإسلام فناوشوه فقتل منهم، وفر صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما، وكان هناك رجل يقال له (حماس بن قيس) دخلت عليه امرأته وهو يصلح سلاحًا فسألته: لماذا تعد ما أرى؟ قال: لمحمد وأصحابه، فقد علمت أنهم خرجوا يريدون مكة، وإني لأرجو أن أخدمك بعضهم، ثم قال:
إن يُقبلوا اليوم فما لي عِلةْ *** هذا سلاحٌ كامل وألَّةْ
وذو غرارين سريع السلةْ [5].
وما كاد يخرج حتى عاد إليها منهزمًا يقول لها: أغلقي على بابي، فإن محمدًا يقول: (من أغلق عليه بابه فهو آمن)، ثم قال:
إنك لو شهدتِ يوم الخندمةْ
إذ فر صفوان وفر عكرمةْ
واستقبلتنا بالسيوف المسلمةْ
يقطعن كل ساعد وجمجمةْ
ضربًا فلا تسمع إلا غمغمةْ
لهم نهيتٌ حولنا وهمهمةْ
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمةْ
علم الرسول صلى الله عليه وسلم بما وقع من خالد، وعلم أنه أكره على القتال فقال: "قضاء الله خير"، وطفق عليه الصلاة والسلام يجيل بصره فيما حوله، وخرج حتى بلغ الكعبة، فطاف بالبيت سبعًا على راحلته، واستلم الركن بمحجن في يده، فلما انتهى من طوافه استدعى عثمان بن طلحة ففتح الكعبة ودخلها، ثم خرج فوقف على بابها وقد تكاثر الناس حولها فقال: "لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده"، ثم قال: "أيها الناس! إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص فيها لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله قد أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لكم، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها الآن كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب)، ثم قال: يا معشر قريش! إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء... الناس من آدم وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، ثم قال: "يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟" قالوا: خيرًا؛ أخ كريم وابن أخ كريم، قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، وفي هذا اليوم حمل صلى الله عليه وسلم ثلثمائة وستين صنمًا كانت حول البيت، فكلما مر بصنم أشار إليه بقضيبه [6] وهو يقول: "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد"، فما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه، حتى ما بقي منها صنم إلا وقع، مع أنها كلها كانت مثبتة بالحديد والرصاص. كذلك أمر بمحو صور الملائكة وغيرهم فطمست، يروى أنه لما رأى إبراهيم عليه السلام مصورًا في يده الأزلام يستقسم بها قال: "قاتلهم الله؛ جعلوا شيخنا يستقسم بها، ما شأن إبراهيم والأزلام! ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ولكن كان حنيفًا مسلمًا، وما كان من المشركين".
ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده، وقال: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة والسقاية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين عثمان بن طلحة"، فدعي له، فقال: "هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء".
ويروى أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة ومعه بلال أمره صلى الله عليه وسلم بأن يؤذن، وكان أبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوسًا بفناء الكعبة، فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيدًا ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه، فقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته، فقال أبو سفيان: لا أقول شيئًا، ولو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "قد علمت الذي قلتم"، ثم ذكر ذلك لهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك.
كذلك يروى أن فضالة بن عمير أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضالة؟" قال نعم! فضالة يا رسول الله، قال: "ماذا كنت تحدث به نفسك"، قال: لا شيء، كنت أذكر الله، قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "استغفر الله"، ثم وضع يده على صدره، فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه.
وبقي صلى الله عليه وسلم بمكة خمسة عشر يومًا يفقه أهلها في الدين، وينظم مصالح المسلمين، وفي المدة التي أقام فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة جاء أبو بكر بأبيه يقوده حتى وقف بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه"، فقال أبو بكر: يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه أنت. فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم، ومسح صدره، ثم قال له: أسلم فأسلم، وكذلك أسلم معاوية بن أبي سفيان، وجاءت أمه هند بعد أن كانت مختفية فأعلنت إسلامها ورحب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له: والله يا رسول الله، ما كان أحد أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك، ثم ما أصبح اليوم أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك.
أما الذين استثناهم النبي صلى الله عليه وسلم وأهدر دمهم فقد لاذوا بالفرار وبعضهم أدركته عناية الله فأعلن إسلامه وظفر بالعفو... من هؤلاء عبد الله بن سعد بن أبي سرح غيبه أخوه من الرضاعة عثمان بن عفان حتى سكنت نفسه صلى الله عليه وسلم، ثم استأمن له النبي فأعرض عنه مرارًا، ثم بايعه، فلما خرج عثمان مع عبد الله قال عليه السلام: "أعرضت عنه ليقوم إليه أحدكم فيضرب عنقه"، فقالوا: هلا أشرت إلينا، فقال: "لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين". ومن هؤلاء عكرمة بن أبي جهل، فر يريد أن يركب البحر، فلحقت به زوجته وقد أسلمت وأخذت له أمانًا من الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا تهلك نفسك، فقد جئت من عند أبر الناس وخيرهم، وقد استأمنته لك، فرجع، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم وثب قائمًا فرحًا به وقال: "مرحبًا بمن جاءنا مهاجرًا مسلمًا"، فطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغفر له كل عداوة عاداه إياها، فأجابه واستغفر له.
ومن هؤلاء صفوان بن أمية أراد أن يرمي بنفسه في البحر، فلحق به ابن عمه عمير بن وهب بعد أن أخذ له أمانًا من الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد أن أخذ عمامته كعلامة تلقي في قلبه الطمأنينة، فلما أدركه طمأنه وأراه العمامة، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: إن هذا يزعم أنك أمنتني، قال: "صدق"، قال: أمهلني بالخيار شهرين، قال "أربعة أشهر"، ولم يمض سوى زمن يسير حتى أسلم وحسن إسلامه، وممن أسلم أيضًا عتبة ومعتب ابنا أبي لهب، جاء في الإصابة [ج 2 ص 455] "أخرج ابن سعد من طريق ابن عباس عن أبيه العباس بن عبد المطلب قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في الفتح قال لي: يا عباس! أين ابنا أخيك عتبة ومعتب؟ قلت: تنحيا فيمن تنحى. قال: ائتني بهما، قال: فركبت إليهما إلى عرفة فأقبلا مسرعين وأسلما وبايعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني استوهبت ابني عمي هذين من ربي فوهبهما لي".
وأجارت أم هانئ اثنين؛ أحدهما زهير بن أبي أمية، واختلف في الآخر، فدخل عليها أخوها يريد قتلهما، فأغلقت الباب عليهما، وأسرعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تخبره الخبر، فقال: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ، وقد أسلما وحسن إسلامهما.
وأسلم سهيل بن عمرو وهو الذي تعاقد مع النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، وقد فرح النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه وأثنى عليه. وأسلم وحشي قاتل حمزة مع وفد أهل الطائف فلما عرفه النبي طلب منه أن يغيب وجهه عنه.
بقي صلى الله عليه وسلم في مكة بضع عشرة ليلة يقصر الصلاة، وظن به الأنصار أنه سيدعهم ويبقى في مكة، أخرج مسلم [ج 3 ص 1406] من حديث أبي هريرة في فتح مكة: قالت الأنصار بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قربته ورأفة بعشيرته. قال أبو هريرة: وجاء الوحي. وكان إذا جاء الوحي لا يخفى علينا، فإذا جاء فليس أحد يرفع طرفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينقضي الوحي. فلما انقضى الوحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار". قالوا: لبيك يا رسول الله. قال: "قلتم: أما الرجل فأدركته رغبة في قربته". قالوا: قد كان ذاك، قال: "كلا. إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، والمحيا محياكم والممات مماتكم". فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله وبرسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم".
ولما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرحيل ولى عتاب بن أسيد على مكة وذهب إلى حنين، وكان ما كان هناك، وبعدئذ قفل راجعًا إلى المدينة، وهنالك طار إليه كعب بن زهير مستخفيًا. فلما صلى الصبح قال: يا رسول الله إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبًا مسلمًا، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به! قال: نعم. قال: أنا يا رسول الله كعب بن زهير، ثم أنشده قصيدته (بانت سعاد) وفيها يقول:
وقال كل صديق كنت آمُله *** لا أُلفِينك إني عنك مشغولُ
فقلتُ خلوا سبيلي لا أبالَكم *** فكل ما قدر الله مفعولُ
كل ابنِ أنثى وإن طالت سلامتُه *** يومًا على آلة حدباءَ محمولُ
نُبئت أن رسول الله أوعدني *** والعفوُ عند رسول الله مأمولُ
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة ال *** قرآن فيها مواعيظ وتفصيلُ
لا تأخذنّي بأقوال الوشاة ولم *** أذنب ولو كثرت فيّ الأقاويل
ُ
فلما قال:
إن الرسول لسيف يُستضاءُ به *** مهند من سيوف الله مسلولُ
خلع عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بردته.
عبر ودروس من فتح مكة:
1- أول درس نتلقاه من غزوة الفتح أن الله إذا أراد أمرًا يسر أسبابه؛ فقد كان صلح الحديبية مقدمة الفتح، وكان غدر قريش سبيلاً لإتمامه.
2- وفاء النبي صلى الله عليه وسلم مع حلفائه، ومسارعته لنصرتهم.
3- نورانية الرسالة وصدقها، كما جرى حين تنبأ بمقدم راجز بني كعب، ومقدم أبي سفيان، وكما حدث مع حاملة كتاب حاطب، ومع فضالة بن عمير، ومع عتاب بن أسيد ورفيقيه، ومع الأنصار لما حسبوا أنه سيبقى بمكة ولا يعود إليهم.
4- وفاء أم حبيبة بنت أبي سفيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإيثارها له على أبيها.
5- أدب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
6- أخذ الحيطة في إخفاء أخبار الجيش عن العدو ووضع الخطة لمباغتته.
7- التجاوز عن الهفوات إذا ثبت حسن نية صاحبها إذا كان له ماض مشرف.
8- استخلاف الوالي من ينوب عنه في أثناء غيابه.
9- الرخصة في الفطر للمسافر، فإذا كان الفطر يقوي المجاهدين وكان الخطر محدقًا بهم لزمهم الفطر على أن يقضوا ما أفطروه.
10- اتخاذ وسائل الحرب النفسية إرهابًا للعدو كما حدث من أمره للجنود بإيقاد النيران، وكما جرى من حبس أبي سفيان عند خطم الجبل وقت استعراض الجيش.
11- إكرامه لأبي سفيان تمشيًا مع مبدأ (أكرموا عزيز قوم ذل).
12- حسن سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقد أخذ الراية من سعد بعد أن ظهر خطؤه وأعطاها لنجله، وبهذا عالج خطأه وضمن رضاه، فلما قارب مكة سلمها إلى الزبير وقيل لعلي، حتى يكون قواد الفتح من بينها فلا يثيرون حفيظة المكيين ولا يهيجون أحقادهم.
13- تواضع الرسول صلى الله عليه وسلم واعترافه بفضل الله عليه.
14- حرمة مكة وأهليها وأشجارها.
15- سماحة الرسول الحربية، وعفوه عمن أساء إليه كسبًا لودهم.
16- سقوط الأصنام وتحطمها بإشارة من قضيبه.
17- طمس الصور المحرمة منعًا للفتنة.
18- أمانة النبي صلى الله عليه وسلم وتسليمه مفتاح الكعبة لحامله.
19- شفاء قلب فضالة من الأحقاد بمجرد وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده عليه.
20- تواضع النبي صلى الله عليه وسلم مع والد أبي بكر واستجابته لمن طلب عمامته أمارة لتأمين أحد خصومه، وإمهاله لمن استمهله في اعتناق الإسلام ليدخل فيه طائعًا مختارًا كما حدث مع صفوان.
21- بره بأهله وأبناء عمه أبي لهب.
22- للمرأة أن تجير، وإجارتها ملزمة للمسلمين.
23- الإسلام يجب ما قبله كما يستفاد من خبر وحشي قاتل حمزة.
24- حب الأنصار للنبي المختار وبر النبي صلى الله عليه وسلم بهم.
هذه دروس وعبر نقتبسها من غزوة الفتح، وتبقى عبرة لعلها أوضح العبر؛ وهي أن الباطل وأهله قد ينعمون مدة من الوقت فيصولون ويجولون، ولكن الجولة الأخيرة دائمًا للحق، فهو الذي يعلو ولا يعلى عليه، كما قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18].
وإننا لنأمل في هذه الأيام العطرة أن يؤيدنا الله بروح من عنده، ويهبنا القوة والعزة، والنصر والتمكين، إنه نعم المولى ونعم النصير.
[1] ناشد: طالب ومذكر.
[2] الوتير: ماء بأسفل مكة لخزاعة، الهجد: النيام.
[3] أعتد: حاضر – مدد: عون.
[4] تجرد بالجيم: شمر وتهيأ للحرب، وبالحاء: غضب، سيم: طلب منه وكلب. الخسف: الذل – تربد: تغير إلى السواد.
[5] الألة: الحربة لها سنان طويل ذو غرارين: سيف ذو حديث.
[6] بقضيبه: أي بسيفه.
إذا كثُر الاستغفار في الأمة وصدَر عن قلوبٍ بربّها مطمئنة دفع الله عنها ضروباً من النقم، وصرَف عنها صنوفًا من البلايا والمحن، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}