إنّ الذنوب و المعاصي داء خطير ، ينفذ إلى النفوس فيرديها ، و يخطو على الأبصار فيعميها ، و يتشبث بالأفكار فيحرفها عن جادة الصواب ، ثمّ هو يخالط الطباع و الأمزجة فيفسدها ؛ و هذه المعاصي لها منافذ و أبواب تدخل من خلالها على العبد ، فمن هذه المداخل :
أولاً : النظر و اللحظات ، فهي رائدة الشهوة و رسولها ، و من أطلق بصره فقد أورد نفسه موارد الهلاك ، روى الترمذي و أبو داود من حديث بريدة أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " يَا عَلِيُّ لا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَكَ الأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ " و حسنه الألباني ، " و روى الإمام أحمد في مسنده و ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وغيرهم عن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : « اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة : اصدقوا إذا حدثتم ، و أوفوا إذا وعدتم ، و أدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم ، و غضوا أبصاركم ، و كفوا أيديكم » انظر السلسلة الصحيحة للألباني رحمه الله رقم ( 1470) .
فالنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان ، فإنّ النظرة تولد خطرة ، ثمّ تولد الخطرة فكرة ، والفكرة تولد شهوة ، و الشهوة تبعث إرادة ، ثمّ تقوى حتى تصير عزيمة ، قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ : ( أمر الله تعالى نبيه أن يأمر المؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم ، وأن يعلمهم أنه مشاهد لأعمالهم مطلع عليها: "يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور " [غافر:19]، ولما كان مبدأ ذلك من قبل البصر جعل الأمر بـغضه مقدماً على حفظ الفرج ) .
كل الحوادث مبدأها من النظـر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة بلغت في قلب صاحبها كمبلغ السهم بين القوس والوتر
والعبد ما دام ذا طـرف يقلبـه في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلـته ما ضر مهجـتـه لا مرحـباً بسرور عـاد بالضرر
و للنظر مجالات إصابة تتعلّق من خلالها نفسه فتصل للمحظور ، و هي كثيرة و متعددة ، نجملها فيما يلي :
• الصور المتحركة : كالنظر للتلفاز و مرئيات الفيديو التي تنقل العهر ، و كذا القنوات الفضائية المتاجرة بالفحش ، و مثلها الأجهزة التقنية الناقلة للمقاطع و المرئيات السيئة ونحوها ، فإنّها بلا ريب من أشدّ ما يُفسد القلب ، فصور الممثلات و الراقصات و المطربات ، و مناظر العشق و الغرام ، و لحظات اللقاء بعد الغياب ، ولباس العهر و الفحش ، و الحركات و الضحكات المثيرة و نحوها كثير من الصور الفاتنة التي تجتذب نفس المشاهد ، فربما أخرج من حيث لا يشعر الآهات و الزفرات ، تعلّقاً و عشقاً .
• الصور الثابتة :كما ينشر في بعض الصحف والمجلات الهابطة التي تسعى إلى جمع المال والمتاجرة بالعرض والشرف والأخلاق ، فالغالب أنّ هذه المجلات تستقبلك بصورة فتاة أُعطيت كل مقومات الإغراء والفتنة لتُوقع الشباب الملتهب في هموم الشهوة و تحصيلها ، وبالداخل صور الممثلات والمطربات ونحوهن مدعّمة بأخبارهنّ ، فضلاً عمّا يعتري الصور من المؤثرات ، حتى إذا وقعت عليها العين تعلّقت بها ، وبرمجتها في فكرها و تفكيرها ، فعاشت بها و معها في الحلم و اليقظة ، و هذا أمر خطير جداً .
• المقالات المنحرفة ، و القصص المثيرة ، و قصائد العشق و الغرام بآهات الفراق ، و لذة اللقاء ، فلربما تحركت كوامن الشهوة في نفس القارئ و هو ينقل بصره من سطر إلى آخر ، و يتمنى لو أنّ في الخبر تفصيل أكثر ، كما أنّ هذه المقالات قد تحتوي على انحرافات عقدية ، و تُرهات فكرية ، تصادم العقل الصريح و النقل الصحيح ، فتهاجم الدين و تدعو إلى الثورة على القيم و المبادئ و الآداب الشرعية .
ثانياً : الاستماع ، و هو مورد من موارد الهلاك إذا صُرف في الشر و اللغو ، و هو منصبٌّ على أمرين :
أ ـ استماع اللغو ، كالإنصات إلى جلسات الغيبة و النميمة و الفحش و السبّ و اللعن و قصص الفسق و العهر .
ب ـ استماع اللهو ( و هو الغناء و الطرب ) فهو بريد الشيطان ، و الحجاب الكثيف عن الرحمن ، الذي يصدّ القلوب عن القرآن ، و يجعلها عاكفة على الفسوق و العصيان ، بريد الزنا ، و مورث النفاق في القلب ، يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ واصفاً حال المستمعين إليه (فلو رأيتهم عند ذيّاك السماع وقد خشعت منهم الأصوات وهدأت منهم الحركات وعكفت قلوبهم بكليتها عليه وانصبت انصبابة واحدة إليه فتمايلوا ولا كتمايل النشوان وتكسروا في حركاتهم ورقصهم أرأيت تكسر المخانيث والنسوان ويحق لهم ذلك وقد خالط خماره النفوس ففعل فيها أعظم ما يفعله حميا الكؤوس فلغير الله بل للشيطان قلوب هناك تمزق وأثواب تشقق وأموال في غير طاعة الله تنفق حتى إذا عمل السكر فيهم عمله وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله واستفزهم بصوبه وحيله وأجلب عليهم برجله وخيله وخز في صدورهم وخزا و أزّهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزا فطورا يجعلهم كالحمير حول المدار وتارة كالدباب ترقص وسيط الديار فيا رحمتا للسقوف والأرض من دك تلك الأقدام ويا سوأتا من أشباه الحمير والأنعام ويا شماتة أعداء الإسلام بالدين يزعمون أنهم خواص الإسلام قضوا حياتهم لذة وطربا واتخذوا دينهم لهوا ولعبا مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن لو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك له ساكنا ولا أزعج له قاطنا ولا أثار فيه وجدا ولا قدح فيه من لواعج الشوق إلى النار زندا حتى إذا تلي عليه قرآن الشيطان وولج مزموره سمعه تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينيه فجرت وعلى أقدامه فرقصت وعلى يديه فصفقت وعلى سائر أعضائه فاهتزت وطربت وعلى أنفاسه فتصاعدت وعلى زفراته فتزايدت وعلى نيران أشواقه فاشتعلت ... الخ ).
ثالثاً : اللسان بالكلام ، فهو مغداف ما في النفس ، و ملك الجوارح و قائدها ، بسيط الحركة ، قوي الأثر ، و ضرره على العبد من وجوه :
1 ـ الكلام فيما لا يعني ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلّم : ( من حُسن إسلام العبد تركه ما لا يعنيه ) .
2 ـ الخوض في الباطل كالكذب و السبّ و الشتم و الغيبة و النميمة و الغمز و اللمز و الكذب و اللغو في الكلام كذكر قصص العشق و العُشاق و الفواحش ، و كذا قول الزور و الدعوة إلى المنكرات وتأييدها و نحو ذلك ، و هذا باب واسع لا يَعُدُّ ما فيه إلا من كلّف نفسه العناء و التعب ، و يختصر رسولنا صلى الله عليه و سلّم ذلك كله في بلاغة و إيجاز حيث قال : (عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله -تعالى- عليه : تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة ............. ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله. فأخذ بلسانه وقال: كف عليك هذا. قلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم ، أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ) رواه الترمذي .
رابعاً : الفكر و الهمّ ، فهو مبدأ الخير و الشر ، و منه تتولد الإرادات و الهمم ، فمن راعى ذلك ملك زمام نفسه و قهر هواه ، و من غلبه فكره إلى الشر ، قاده إلى المهلكة قهراً ، فلا يزال يَرْدُ على القلب حتى تصير الفكرة أمنية ( كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً و وجد الله عنده فوفاه حسابه و الله سريع الحساب ) .
و ضرر الفكرة السيئة يكون من وجهين :
الأول : أن تكون الفكرة غير مؤثرةٍ في الواقع ، أو لا تؤدي إلى عمل مباح ، فهذه تُورث العجز والكسل ، و تؤدي إلى الحسرة و كثرة التمني ، فقد فاته من الحقائق الحسية للصور التي تعلّق قلبه بها فأصبح يتوهم الخيال حقيقة ، فربما ضمّ الصورة إلى قلبه و عانقها ، فعاش ،لم يذُق لذة الحقيقة ، ولم ينجُ من هواجس الخيال ، ولم يسلم من التبعة ، و أسأل الله له العفو و العافية .
الثاني : أن تكون الفكرة السيئة مؤثرةٌ في الواقع ، فهذه أخطر و أشدّ ، فشرّها وضررها تعدى إلى غيره ، فهنا أصبحت مدخلاً إلى المعصية ، و صاحبها مستحق للإثم .
فتأملوا ـ بارك الله فيكم ـ هذه النفس الأمارة بالسوء كيف خططت و نظرت و همّت ، ثمّ أقدمت ، جمعت حواسها و لملمت خواطرها و أشجانها ، فمكثت الساعات بل الأيام و ربما الشهور لتحقق ما في هواها ، كل ذلك و لم يقم فيها واعظ الخير ، و لم يتحرك وازع الإيمان لردعها ، حتى تحقق لها ما أرادت ، بينما هي في طريق الخير و الصلاح لا تجد لها أثراً و لا تأثيراً ـ إلا ما شاء الله عزّ و جلّ ـ فالله المستعان .
و لعل سائلاً يسأل علاجاً ناجعاً ، و حارساً أميناً لهذه الثغور و المنافذ ..... فأقول سيأتي لها بيان قريب ـ بإذن الله تعالى ـ .
__________________
الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة....
الله يغفر لنا ياارب
الشيطان يجري من بني ادم مجرى الدم
ولابد ان نجاهد انفسنا و جميع ما ذكرته نتعرض له في مسار حياتنا اليومي
الله يهدينا و يهدي الضالين من المسلمين
جزاك الله خير و نفع بك
إذا كثُر الاستغفار في الأمة وصدَر عن قلوبٍ بربّها مطمئنة دفع الله عنها ضروباً من النقم، وصرَف عنها صنوفًا من البلايا والمحن، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}
التعديل الأخير تم بواسطة انتظار الفرج ; 08-06-2012 الساعة 04:33 PM
ماشاءالله موضوع جدا قيم والله إني فتحت الموضوع وانا بحاجة إلى مثل هذه المواضيع والله إنه ترك في نفسي أثر لأنل دااااائما نغفل جزاك الجزاء وجعله في موازين حسناتك ياارب