والصَّلاة والسَّلام على أَشرف خلْقِ الله، محمَّد بن عبدالله، وعلى آلِه وصحْبِه ومَن والاه، والتابِعين وتابِع التابِعين ومَن سار على نهْجِه وهُداه.
وبعدُ؛ فكثيرًا ما نقرأ سورة لُقمان - أو على الأقلِّ آيات قصَّة لُقمان الحَكيم مع ابنه - ونَستمْتِع بتَرتيلها؛ لكنْ دون أن نُحاول استِنباط الطُّرُق التي نهَجها لُقمان مع ابنه لِتَعليمه وتَربِيَته، ودون أن نُحاول تَطبيق ما ورَد فيها مِن وصايا، ولا حتَّى أن نَستخلِصَ العِبَر منها، بل تَجدُنا نتعامل معها - كما هو الشأن مع باقي سور القرآن - على أنها قَصص حدَثتْ لِقَوم في غابِر الأزمان، ولا يُمكِن أن تَتكرَّر أو أنْ تَحدُث في زماننا هذا، ناهيك أن نُسقِطها على حياتنا اليوميَّة، فتَجدنا نتعامل بـ (بُرودَة) مع هذه القَصص، وإنْ حدَث وتوقَّفْنا عِندها وتأمَّلْناها وتأثَّرْنا بها، فإنَّ هذا التأمُّل وهذا التأثُّر سرعان ما يَنتهي بطيِّ سجلِّ "الكِتاب"، فما أحوجَنا إلى أن يتحوَّل هذا التأمُّل والتأثُّر إلى عَمل ملموسٍ، وفعْلٍ مَحسوس، وما أحْوَجنا إلى أن تَصير هذه العِبَر سُنَّةً تُتَّبع، ونهجًا يُقتَفى ويُطبَّق في حياتنا اليوميَّة.
هذا، ولمَّا كانتْ ما تَحمِله وصايا لُقمان مِن مَناهِجَ تربويَّةٍ وتعليميَّة إسلاميَّة، وتقويم للسُّلوك؛ كان هذا البحث كإطلالة على ما انتهَجه "الأب" لُقمان مع ابنه؛ لِيَجعل منه رجلاً صالحًا، نافعًا لِمُجتَمعه، مِن أسلوب تربويٍّ رفيع، والله نسأل أنْ يُوفِّقنا لما فيه الخَير كلُّه، وبالله سبحانه التوفيق.
إنَّ أوَّل ما نَستهلُّ به هذا البحث هو أن نُورد الآيات التي نحن في صدَدِ دراستها واستِخلاص الدروس منها.
إنَّ هذه الوصايا التي سمَّاها القُرآن مَوعِظةً، لَتُعدُّ بحقٍّ أعظم المواعظ وأرقاها، والتي يُمكِن أن تُتَّبع كمِنهاج لإرشاد الأبناء إلى الطريق السويِّ، إلى سبيل النجاة الدينيَّة والدُّنيويَّة؛ لاشتِمالها على دروس يجب تلقينها لنا ولناشئتنا؛ ففيها صلاحهم وصلاح مجتمعهم، وبتطبيق هذه الدروس نكون بحقٍّ خيرَ أمَّة أُخرِجَت للناس.
انتهَج لقمان مِنهاج التدرُّج في التَّلقين، وابتدأ بأصول المسائل وأهمِّها، فوضَع بَرنامجًا، وسَطر أولويات - شأنُه في ذلك شأن أيِّ عالم تربية يَعرف كيف يبدأ، ومِن أين يبدأ، وأين ينتهي، والثِّمار المراد جنْيُها مِن وراء هذا - وقد قال ابن خَلدون في هذا: "اعلم أنَّ تلقين العلوم للمُتعلِّمين إنما يكون مُفيدًا إذا كان على التدريج شيئًا فشيئًا، وقليلاً قليلاً، يُلقى عليه أولاً مسائل مِن كل باب مِن الفنِّ هي أصول ذلك الباب، ويُعرب له في شرْحِها على سبيل الإجمال، ويُراعى في ذلك قوَّة عقْلِه، واستِعداده لقَبول ما يَرِد عليه، حتى يَنتهي إلى آخِر الفنِّ، وعِند ذلك يَحصُل له ملَكة في ذلك العلم "[1]، وهذا ما فعله لُقمان الحَكيم.
لقد بدأ وصاياه بكلمة استِعطاف، وهي كلمة تَرِقُّ بسماعها الأفئدةُ، وتَرتاح لها النُّفوس، وتُلطِّف أجواء الحوار بين الأب وابنه، فتَلتقِطها أُذُن السامع - وهو الابن - وتَصِل إلى قَلبِه، فيُحسُّها في صدْرِه دفئًا وحبًّا، وسعادةً وصِبًا، وتتوطَّد بها أواصِر الأُلفة، وتَنعقِد بنُطقِها حِبال الودِّ بين الأب والابن، إنها كلمة ﴿ يَا بُنَيّ ﴾، والتي تَجعَل مِن العُقوق أمرًا مُستحيلاً، ومِن البرِّ أمرًا لازِمًا وحتميًّا.
إنها كلمة استِعطاف وأسلوب رحمة ورأفة، قد انتهَجها إبراهيم - عليه السلام - في دعوته لأبيه؛ لِيَتبعه ويَترُك ما كان يَعبُد مِن أصنام، ويُنقِذه مِن غِوايَة الشَّيطان، ويَهديه الصِّراط السويَّ، فقال له: ﴿ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ﴾ [مريم: 42 - 45].
فما زال إبراهيم يكرر كلمة ﴿ يَا أَبَت ﴾؛ استِعطافًا وطمعًا في أن يَلين قلب والِده، ويَكون مِن الذين يَتبعونه، غير أنَّ الله ختَم على قلْب آزَر؛ فكان للشَّيطان وليًّا.
وانتهَجها أيضًا مع ابنه إسماعيل عِندما أُوحِيَ إليه بأنْ يَذبح ابنه الوحيد، وهذا يتجلَّى في قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الصافات: 102]، فما كان لهذا الابن البار بأبيه إلا أن يُبادله هذا الحب والاستعطاف، فيقول: ﴿ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ﴾ [الصافات: 102].
وهذا ما فعَله نُوحٌ أيضًا في دعوته لابنه بأن يركب معه في السَّفينة، قال تعالى: ﴿ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ﴾ [هود: 42]، لكنَّ عُقوق الابن وضَلاله كان أقوى مِن أن تؤثِّر فيه هذه الكلمات الاستِعطافية، التي تُحرِّك قلبَ أيِّ ابنٍ بار.
وهذا هارون نجده أيضًا يَستعطِف أخاه موسى عندما لامَه على اتِّخاذ بني إسرائيل العجْل، فيقول: ﴿ قَالَ يَا ابن أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ﴾ [طه: 94].
كما أننا نجد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو مُعلِّم البشريَّة انتهَج هذا الأسلوب وهو يَعرِض الإسلام على عمِّه عِندما حضرَتْه الوَفاة، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا عمِّ، قلْ: لا إله إلا الله، كلمة أَشهَد لك بها عِند الله... ))[2]، لكنْ صرَف الله قلْبَه عن سَماعها والنُّطق بالشهادتَينِ؛ فكان مِن الهالِكين.
وها هو لقمان الحكيم يِسلُك نفْسَ المسلك، ويَنتهِج نفْسَ المنهَج؛ منهَج الاستِعطاف، وتحريك مَشاعِر الابن وإيقاظها، وبعْثِ الرِّقَّة في قلْبِه، وإحياء الرأفَة في فؤاده؛ لِيَحضُر بفكْرِه وقلبه، لِيُصغِيَ ويُنصِت لما يُريد أن يَقوله الأب.
هذه أول وصيَّة ودرْس يُلقِّنه الأب لابنه، كيف لا وعلى وحدانيَّة الله قامَتِ السموات والأرض، وعلى أساسها خُلق الإنسُ والجنُّ؟ فأمَّنهُم ورزَقهُم وأنعَم علَيهِم ومكَّن لهم في الأرض، وبعد هذا يُشرَك به، ويُعبَد سِواه، ويُجحَد حقُّه عليهم؟، وقد قال الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لِمعاذ بن جبَل: ((هل تدري ما حقُّ الله على عِباده؟))، قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: ((حقُّ الله على عِباده أن يَعبُدوه ولا يُشرِكوا به شيئًا))، ثمَّ سار ساعةً، ثم قال: ((يا مُعاذ بن جبل))، قلت: لبَّيك رسول الله وسعْدَيك، قال: ((هل تدري ما حقُّ العباد على الله إذا فعلوه؟))، قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: ((حقُّ العِباد على الله أن لا يُعذِّبهم))[3]، فما يَفعل الله بعَذابنا إن نحن عَبدناه ووحَّدْناه، ولم نُشركْ به شيئًا؟
لقد وصَف لقمانُ الشِّركَ بالله بأنه ظُلم عَظيم، وهو بحقٍّ أعظَمُ أنواع الظُّلم، ظُلم لله؛ فيَخلق ويَرزق، ويَمنَح ويُعطي، ويُعبَد غيرُه، وظُلم للنَّفس؛ بأن يَسلُك بها طريق الضَّلال والهلاك، فكل ظالم لله ظالم لنفْسِه، وكيف لا وهو ذنب غير مغفور؟ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 116].
إنَّ الشرك بالله مِن أعظم الذنوب، وأكبر الكبائر، التي تؤدِّي بالإنسان إلى عدم الاهتداء؛ فقد قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 50]، فيَعيش هذا الظالم في ضَلال وعمًى وعدَمِ اهتداء وضنْكِ عَيشٍ؛ فلا تَستقيم له حياة، ولا تَطمئنُّ له نفْسٌ، ولا يَرتاح له بالٌ؛ لأنه خالف فطرته، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كلُّ مولود يولد على الفِطرَة، فأبَواه يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانه، كمثل البَهيمة تُنتَج البهيمةَ، هل ترى فيها مِن جدْعاء؟))[4]، ففِطرَة الإنسان هي على وحدانية الله، ومَن أراد أن يُخالِف فِطرتَه، سقَط في يمِّ التَّعاسَة والشَّقاء.
فتَرسيخ عقيدة التوحيد هو أول درس يلقِّنه لقمان لابنه، فهو كالأساس للبُنيان، وبتحقيقه يَسعَد الإنسان.
لقد اقترنَت وحدانيَّة الله تعالى ببرِّ الوالِدَين في القرآن الكريم في أكثر مِن مَوضِع؛ مما يدلُّ على أنَّ هذا الاقتران جاء لِيُنبِّه إلى قدْر الوالدَين ومكانتهما، وإلى أنَّ عُقوقهما هو أكبر جُرم يُقترَف بعد الشِّرك بالله، ويُمكن أن نَعزِيَ سبب هذا الاقتِران إلى أنَّ الوالِدَين هما سبب وجود الإنسان، ولأنَّهما تكبَّدا عَناء التربية والتَّنْشئة، والنَّفَقة والتَّطبيبِ، والسَّهَر على راحة الابن والعطْف علَيه، وأقلُّ ما يتمنَّيانِه أن يَكون أفضل منهما، ويُحقِّق ما لم يَستطيعا تَحقيقه، فكيف - والحال هاته - يُقابِل الإنسان هذه المُعامَلة، وهذا السهر، وهذه الرعاية على راحته، بعُقوقهما بَدَلَ صُحبَتِهما وطاعَتِهما وبرِّهما؟!
لقد خصَّ الله تعالى ذكر الأمِّ في قوله سبحانه ﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ... ﴾ بعد أنْ ذكَر الوالِدَين معًا في قوله تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ ﴾؛ لِتَحمُّلها مشاقَّ زائدةً، وأعباء إضافيَّةً على مشاق وأعباء الأب؛ وذلك كالحمْل والوضْع والإرضاع، وفي حديثِ "حُسنِ الصُّحبة" يتَّضح استِحقاق الأمِّ البرَّ وحُسنَ الصُّحبة ثلاثة أضعاف الأب؛ ففي الحديث: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، مَن أحقُّ بحُسنِ صحَابَتي؟ قال: ((أمُّك))، قال: ثمَّ مَن؟ قال: ((أمُّك))، قال: ثم مَن؟ قال: ((أمُّك))، قال: ثمَّ مَن؟ قال: ((ثمَّ أبوك))[5]، وفي حديث آخَر يُبيِّن فيه الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ عُقوق الوالِدَين يُعدُّ مِن أكبر الكَبائر، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ألا أُنبئكم بأكبر الكَبائر))، قُلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله وعُقوق الوالِدَين…)) الحديث[6].
ولأجْل فضْلِ الله عليك؛ اشكُر الله على نِعَمه، ولأجْل فضْل الوالِدَين عليك وجهادهما في سبيل سَعادتك؛ اشكُرهما على ما قدَّماه لك؛ لأنَّ مصيرك إلى الله مهما امتدَّ الزمن، فيُجازيك على بِرِّك أو عُقوقك، يَقول الطبَري:" ﴿ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ يقول: إلى الله مصيرك أيها الإنسان، وهو سائِلُك عما كان مِن شُكرِك له على نِعَمه عليك، وعمَّا كان مِن شُكرك لوالِدَيك وبرِّك بهما على ما لَقِيَا منكَ مِن العَناء والمشقَّة في حال طفولتك وصِباك، وما اصطَنعا إليك في برِّهما بك وتَحنُّنهما عليك"[7]، وهذا الدرْس مِن أهمِّ الدروس التي يجب تَلقينها للأبناء بعدَ وَحدانيَّة الله والعمَلِ على تَرسيخ العقيدة.
قال ابن كثير: "يَعني المؤمِنين"[8]، وفي "صفوة التفاسير": "أيْ واسلُكْ طريق مَن رجَع إلى الله بالتوحيد والطاعَة والعمل الصالح"[9]، واقتفِ أثر الصالِحين، واقْتدِ بعمل الفالِحين، وسرْ على طريقتِهم، وصاحب مَن سلك طريق التوبة إلى الله، واجتنبْ رُفقاء السوء والغافِلين، واحذرْ رُفقتَهم، واجتنِبْ مجالسهم، وأَعرِض عن مُجالَستِهم؛ فالمرء على دين خليله؛ فانظرْ مَن تُخالل.
فهذا عُقبة بن أبي معَيط، الذي أضلَّه صاحِبُه عن سبيل الخير والإيمان، يقول الله تعالى فيه: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ﴾ [الفرقان: 27 - 29].
فبعد أنْ جاءه الحقُّ وآمَن بمُحمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - أضلَّه صاحِبه وأغْواه، ويوم القيامة يتحسَّر على اتِّباعه له، ويَندم أشدَّ الندَم على فِعله، وعلى تلك الصُّحبة السيِّئة، وسيَعَضُّ على يدَيه؛ حرقةً وألمًا وندمًا، فـ "عضّ اليدَين كناية عن النَّدم والحسْرة"[10].
فلا بدَّ إذًا مِن توجيه الأبناء إلى هذا الدرْس المهمِّ؛ لأنَّ اختيار الصُّحبَة للأبناء هو اختيار للقِيَم التي نُريد غرْسَها فيهم، وتَحديدٌ للطَّريق الذي نُريد أنْ يَسلكوه؛ لذا فإن مَسؤوليَّة اخْتيار الصُّحبة الصالِحة، وإبعاد الأبناء عن رُفَقاء السُّوء - مُلقاة على كاهِل الآباء.
يُعيد لقمان الحَكيم على مَسامِع ابنه تلك الكلمةَ؛ ليُرهِف السمْعَ، ويُجدِّد استِحضار البال، ولِيُنبِّه الابن إلى ما يُريد قوله، ولِيُهيئِّ نفْسَ الابن ويَفتَح قلْبَه لِيَستعدَّ لاستِقبال وصايا أُخرى، فيقول له: ﴿ إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ... يَأْتِ بِهَا اللَّهُ... ﴾ وهذا دليل على عظَمة الخالِق، وتَنبيه إلى عجْز المَخلوق، فمَهما يَكنِ الأمر صغيرًا، ومَهما يَكن دقيقًا وحقيرًا، ثمَّ يكُ في صخْرة صمَّاء، أو أرض أو سماء، أو في جبَل أو صحراء، فإنَّ الله قادرٌ على أنْ يأتي به متى شاء، قال الطبري: "إنَّ الأمْرإنْ تكنْ زنة حبَّة من خردل مِن خير أو شرٍّ عملْتَه، فتكنْ في صخرة أو في السموات أو في الأرض، يأتِ بها الله يوم القيامة؛ حتَّى يُوَفِّيكَ جَزَاءَهُ"[11]، وهذا بُرهان واضِح على دقَّة عِلم الله، وعِظَم قُدرتِه، وعِلمه بالكُلِّيات كعِلمِه بالجُزئيَّات، فعِلمُه مُحيطٌ بكلِّ شيء، وهذا التعبير القُرآني المُعجِز لا يَبلُغه أيُّ تعبير، فكما قال سيد قطب: "وما يَبلُغ تَعبير مُجرَّد عن دِقَّة عِلم الله وشُموله، وعن قُدرة الله سُبحانه، وعن دقَّة الحِساب، وعَدالة الميزان - ما يَبلُغه هذا التَّعبير المُصور"[12].
فلْنَنظُرْ إلى هذه الحبَّة مِن الخرْدَل وهي ضائعة في صخْرة قاسية، يَستحيل الوصول إليها ولو شُقَّتْ هذه الصخرة، أو لِنَنظُرْ إليها وهي ضائعة في هذه الأرض الواسِعة، أو في هذه السماء الشاسِعة، ثم لْنَنظُر إلى أنَّ الله قادِر أنْ يأتي بها؛ "فعِلمه يُلاحِقها، وقُدرته لا تُفلِتها"[13]، فكيف بالإنسان الذي يأتي المعصية ثم يَظنُّ أنه ناجٍ مِن حِساب الله وعِقابه؟
إنها وصيَّة ودَرسٌ يَقتضي بموجبه استِحضار مُراقَبة الله لأعمالنا، فكلُّ فعْلٍ وكل تصرُّف، وكلُّ عمَل يأتيه الإنسان، بلْ وكل نجوى، وكلُّ همْس، وكلُّ خائنة عَين إلا وقد عَلِم الله هذا الفِعل، ومَن فعَله، ولِمَ فعَله، ومتَى فعَله، وأين فعَله، وكيف فعَله، ويوم القيامة يُجازيه عليه ويُنبِّئه به، فإنْ كان خَيرًا فخيرًا، وإن كان شرًّا فشرًّا، قال تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47].
فراقبْ نفسك أيُّها الإنسان، وحاسِبْها قبل أن تُحاسَب، وقبْلَ أن تأتي أيَّ فعلٍ اعْلمْ أنَّ الله يَعلم ما تريد القيام به، وأنك ستُجازى عليه حسب ما اقترفْتَ مِن ذنب، ولا تُظلم نَقيرًا.
فوجوب تَلقين هذا الدرس لأنفسنا أولاً، ثم لأبنائنا ثانيًا - أمانة مُلقاة على عاتِقنا، فهذا لُقمان قد فعل ذلك مع ابنه، فيا حبَّذا لو سِرْنا على درْبِه.
يَتكرَّر نداء الاستعطاف؛ ليَنتقِل لقمان مِن باب العقيدة والتوحيد، وبرِّ الوالِدَين، والتذكير بعظَمة الله وقُدرتِه، وعِلمه المُحيط، وبدقَّة الحِساب، وحتميَّة الجَزاء، إلى الدَّعوة لإقامة الصَّلاة والحِفاظ عليها "بحُدودها و بفُروضِها وأوقاتها"[14]، وآدابها وخُشوعِها؛ فهي تَنهى عن الفَحشاء والمُنكَر، وتروض النفْس، وتُهذِّب الرُّوح، وتَمنعُها مِن إتيان المُنكَرات، وتَحضُّها على فعْل الخَيرات، وهي صلة بين العبد وربِّه، مَن حافظَ عليها كان الله حافِظًا له، ومَن أهملَها كان الله مُهمِلاً له، ومَن أهمله الله، تَعِس وشَقِي في حيَاته.
وقد سُئل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أيُّ العمَل أحبُّ إلى الله؟ قال: ((الصلاة في وقتها...))[15] الحديث.
ثم يَدعو ابنه أن يأمُر بالمعروف ويَنهى عن المُنكَر، وهو "انتِقال إلى دعوة الناس وإصلاح حالهم، وأمْرِهم بالمعروف ونهْيِهم عن المُنكَر، والتزوُّد قبل ذلك كله للمَعركة مع الشرِّ بالزَّاد الأصيل، زادِ العبادة لله والتوجُّه إليه بالصَّلاة"[16]، وهي دعوة للناس مِن أجل التمثُّل بالخَير والفضيلة وقِيَم الأخلاق الحميدة، وتذكيرهم بالله، وصَرفِهم عن كلِّ شرٍّ ورَذيلة، وإثْمٍ وخَطيئة، ولا يكون هذا إلا بالصبْر، فكلُّ داعٍ إلى الله لا بدَّ أن يجد في طريقِه مِن المُعوِّقات ما تحوجه إلى الصبر، وإلا تسلَّل اليأس إلى قلبه، وفقَد الأمل في الناس، وكانت نهاية طريقه مع أول عثْرَة، وكما قال ابن كثير: "علم أنَّ الآمِر بالمعروف والناهي عن المُنكر لا بدَّ أن يَناله مِن الناس أذى؛ فأمره بالصبر"[17]، فهو صبْر على أذى الأَيدي والأَلسِنَة، وإعراض القُلوب والأفئدة، فالصبْر على كلِّ ذلك هو مِن عزْمِ الأُمور.
إنَّ إقامة الصَّلاة والاصطِبار عليها، ثمَّ الدَّعوة إلى المعروف والأمْر به، والنَّهى عن إتيان المُنكَر والتَّنفير منه، والصبر على الأذى فيه- لا يَكون جزاؤها إلا أن يكون صاحبها مِن الذين يَنالُهم الله برحمته ومَغفِرَته، ويَجزيه عن صبْرِه جنَّةً ونَعيمًا.
انتقَل لقمان بعد هذا إلى مجال الأخلاق والأدب في التعامُل، فنجده يَنهَى ابنَه أنْ يَكون مِن المتكبِّرين المُتعالين المُختالين، ويَحثُّه على التواضُع والاتِّصاف بحُسنِ الخلق، فلا يُستساغ أن يَكون العبد داعيةً إلى الله يَأمُر بالمعروف ويَنهى عن المُنكر، وهو متَّصِف بمثْل هذه الصِّفات السيِّئة، فكَما قال سيِّد قُطب: "الدَّعوة إلى الخير لا تُجيز التَّعالي على الناس والتطاوُلَ عليهم باسم قيادتِهم إلى الخير، ومِن باب أولى يكون التعالي والتطاوُل بغير دعوةٍ إلى الخير أقبَح وأرْذل"[18].
ومِن علامات الكِبْر والتطاوُل والتعالي على الناس: صَعَرُ الخدِّ للناس تَحقيرًا لهم، قال ابن جرير: "أصل الصَّعَر داء يأخُذ الإبلَ في أعناقها أو رؤوسها، حتى تَفلتَ أعناقها عن رؤوسها، فشُبه به الرجل المتكبِّر"[19]، وجاء في البُخاريِّ: "لا تُصعِّر: الإعراض بالوجه"[20]، وقال مُجاهِد في شرْحِه لقوله تعالى: ﴿ ثَانِيَ عِطْفِهِ ﴾ [الحج: 9]: "مُستكبِر في نفْسِه، عِطفه: رقبته"[21].
ومِن علامات التكبُّر أيضًا المشْي في الأرض مرَحًا وخُيَلاء وعجبًا بالنفْس، وهذا مرَضٌّ نفسِيٌّ يصيب الكثيرَ مِن الناس، سواء كانوا فقراء أو أغنياء، حتى إنك تَستشِفُّ الكِبر والتَّعجْرُف في أعينهم، ناهيك عن تصرُّفاتهم وأفعالهم، فوقانا الله جميعًا مِن هذا المرض، فما سبب خسْفِ الله بقارون داره إلا هذا التكبُّر في الأفعال؛ ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ﴾ [القصص: 79]، وهنا نجد لقمان الحكيم يُقدِّم لابنه البديل الأمثل؛ إذ لا يَكفِي أن نَنهى أبناءنا ونَحرِمَهم مِن بعض الأمور التي يُمكِن أن يَميلوا إليها بدون تقديم بديل مُناسِب، فلا يُمكِن أن نتحدَّث عن تَخلِيَة قلبٍ مِن الرذائل دون أن يَقترِن هذا بتحلِيَته بالفضائل، فيقول لقمان: ﴿ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ﴾، فبدَل أنْ يَمشي الإنسان مُختالاً مُتكبِّرًا، وفي مِشيَته تَبختُر وتَعجرُف، وجَب عليه أن يَمشي مُقتصِدًا مُتواضِعًا، لا بطيئًا مُتبختِرًا، ولا سريعًا مُتجبِّرًا، ولا "بالبطيء المُتثبِّط، ولا بالسريع المفرط؛ بل عدلاً وسطًا بينَ بَين"[22]، فهذه الآداب يجب أن يَتشربها المسلم، وتكون صَوب عينَيه، ويَتمثَّلها في حياته.
ومِن الأدب أيضًا غضُّ الصوت؛ فلا يَرفَع الصَّوت إلا مَن كان خُلقه سيِّئًا، وأدَبُه ناقصًا أو مُنعدِمًا، فغضُّ الصَّوت كما قال سيد قطب: "فيه أدب، وثِقةٌ بالنفْس، واطمئنان إلى صدق الحديث وقوَّته، وما يزعق أو يُغلظ في الخطاب إلا سيِّئ الأدب، أو شاكٌّ في قيمة قوله أو قيمة شخْصِه، ويُحاوِل إخفاء هذا الشكِّ بالحِدَّة والغِلظَة والزعاق"[23].
وأنكَرُ الأصوات وأقبَحُها صَوتُ الحمير، فـ "غاية مَن رفَع صوته يُشبَّه بالحمير في علوِّه ورفعه، ومع هذا هو بغيض إلى الله تعالى، وهذا التَّشبيه في هذا بالحَمير يَقتضي تَحريمَه وذمَّه غاية الذمِّ "[24]، فمِن الأدب إذًا خفْض الصَّوت وغضُّه، فلا يَنال المرْء احتِرام الناس له بالصُّراخ والجلَبة وإعلاء الصوت.
لقد كان أول درس يُدرِّسه لقمان الحكيم لابنه هو توحيد الله تعالى وعدم الشرك به؛ فبِصَلاح العقيدة يَصلُح الإنسان، وبفَسادها يَفسد الإنسان، ثم كان آخِر درس في حُسن الخلُق والأدب والتواضُع للناس، وعدم التكبُّر ورفْع الصوت؛ فبحُسنِ الخلُق يَصل الإنسان إلى مرتبة الخيريَّة، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ خياركم أحاسِنُكم أخلاقًا))[25]، وبحُسنِ الخلُق يَكسِب الإنسان احترامَ غيره، وبحُسن الخلُق تكون مَنزلتُه في الجنَّة قريبةً مِن مَنزلة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم.
إنَّ درس حُسن الخلق الذي لقَّنه لقمان لابنه هو مِن أهمِّ الدروس وأجلِّها، خُصوصًا في هذا العصر الذي نجد فيه تدنِّيًا وانحِطاطًا وتفسُّخًا للأخلاق، فما أحوجَنا لآباء يُعلِّمون أبناءهم هذه الدروس التي علَّمها - الأب - لقمان لابنه، إنها دروس تَصلُح بتدريسها وتعليمها الأمم، وتصل بتطبيقها المجتمعاتُ إلى القِمَم.
فهذه إطلالة على ما خطَّه لقمان الحكيم مِن منهَج تَعليميٍّ سامٍ، وأسلوب تربويٍّ إسلاميٍّ؛ لِيُصلِح مِن حال ابنه، ويُنير له طريق الخير والفَلاح، ويسير على وَفقِه مِن أجلِ بلوغ سَعادة الدَّارَين، وإذ نَصِل إلى الخِتام ندعو الله العليّ القدير أن يُسدِّد خُطانا، ويَغفر ذنوبَنا، ويَتجاوز عن سيئاتِنا، ويوفِّقنا لما فيه صلاح دينِنا ودُنيانا، والحمد لله ربِّ العالمين.
ما اعتُمد في البحث:
• القُرآن الكريم.
1- تفسير "جامع البيان في تأويل آي القرآن"؛ لمحمد بن جرير أبو جعفر الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسَّسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
2- "تفسير القرآن العظيم"؛ لابن كثير الدمشقي. دون تاريخ.
3- "صحيح البخاري"، الزهراء للإعلام العربي، القاهرة.
4- "صفوة التفاسير"؛ لمحمد علي الصابوني، دار ومكتبة الهلال، بيروت لبنان، د. ت.
5- "في ظلال القرآن"؛ لسيد قطب، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان. ط: 7، 1971م.
6- "مقدِّمة ابن خَلدون"، دار القلم، بيروت - لبنان، ط: 4، 1981م.
[1] "مقدمة ابن خلدون"، (ص: 533).
[2] "البخاري": رقم الحديث (1360).
[3] "البخاري": رقم الحديث (6500).
[4] "البخاري": رقم الحديث (1385).
[5] "البخاري": رقم الحديث (5971).
[6] "البخاري": رقم الحديث (5977).
[7] "تفسير جامع البيان في تأويل آي القرآن"؛ لمحمد بن جرير الطبري (20: 138).
[8] "تفسير القرآن العظيم"؛ لابن كثير الدمشقي، (3: 445).
[9] "صفوة التفاسير"؛ لمحمد علي الصابوني، (2: 426).
[10] نفسه (2: 311).
[11] "تفسير جامع البيان في تأويل آي القرآن"؛ لمحمد بن جرير الطبري، (20: 141).
[12] "في ظِلال القرآن"؛ لسيد قطب، (6/20: 486).
[13] نفسه: (6/20: 486).
[14] "تفسير ابن كثير": (3: 446).
[15] "البخاري": رقم الحديث (5977).
[16] "في ظلال القرآن": (6/20: 487).
[17] "تفسير ابن كثير": (3: 446).
[18] "في ظلال القرآن": (6/20: 487).
[19] "تفسير جامع البيان في تأويل آي القرآن"؛ لمحمَّد بن جرير الطبري، (20/143).
[20] "صحيح البخاري": (2: 466).
[21] نفسه، (4: 174).
[22] "تفسير ابن كثير": (3: 446).
[23] "في ظلال القرآن": (6/20: 487).
[24] "تفسير ابن كثير": (3: 446).
[25] "البخاري": رقم الحديث (6035).
إذا كثُر الاستغفار في الأمة وصدَر عن قلوبٍ بربّها مطمئنة دفع الله عنها ضروباً من النقم، وصرَف عنها صنوفًا من البلايا والمحن، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}