الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
فإن الله تعبدنا بأنواع العبادات الظاهرة والباطنة والفعلية والقولية والبدنية والمالية والعامة والخاصة فشرع هذا التنويع ليتحقق كمال التأله لله ويندفع السآمة عن المكلف ويتجدد الشوق والرغبة في العمل.
ومن هذه العبادات النافعة والمباركة عبادة التفكر التي تتعلق بالقلب ولا يستعمل فيها اللسان وباقي الجوارح فهي عبادة صامتة.
وقد ورد في التفكر فضل عظيم في الكتاب والسنة والآثار. قال تعالى في سياق مدح المؤمنين: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). وفي الإسرائيليات روي عن عيسى عليه السلام أنه قال: (طوبى لمن كان قيله تذكراً وصمته تفكرا ونظره عبراً).
واعتنى السلف بهذه العبادة الجليلة وكان لهم فيها أحوال. قال أبو سليمان الداراني: (إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمة ولي فيه عبرة). وقال الحسن البصري: (تفكر ساعة خير من قيام ليلة). وقال أيضا: (الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك). وقال سفيان بن عيينة: (الفكرة نور يدخل قلبك).
والتفكر معناه في الاصطلاح الشرعي: إعمال العقل في أسرار ومعاني الآيات الشرعية والكونية عن طريق التأمل والتدبر وملاحظة وجه الكمال والجمال ومشاهدة الدقة وحسن التنظيم والسنن الكونية والتماس الحكمة والعبرة من وراء ذلك.
وقد خاطب الله الكفار وحثهم على التفكر في ملكوت السماوات والأرض ليعرفوا تفرده واستحقاقه للحمد فيخلصوا العبادة له وتخبت قلوبهم وتخضع له وتكفر بما سواه من الشركاء العاجزين. قال تعالى: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ).
ومجالات التفكر في الأمور الآتية:
1- آيات الله الكونية. بأن يشاهد الانسان جمال روعة الجبال والبحار والأشجار والأنهار والسهول والطبيعة الخلابة ويلاحظ تعاقب الليل والنهار وجريان الشمس والقمر وفق نظام بديع لا يتخلف ولا يضطرب على مر الزمان. قال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا).
2- الآيات الشرعية في آي القرآن بأن لاحظ بلاغة القرآن وفصاحته وحسن تنظيم الكلام و مناسبته لأغراض الكلام ومقام السياق وإعجازه وحسن عرضه لقضايا التوحيد والتشريع والسلوك والآداب. قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
3- تكوين الانسان بأن يشاهد تنوع الأعضاء وحسن تنسيقها وبديع صنعها ودقتها وكبير فائدتها وانسجامها في العمل فيتأمل في القلب والشرايين والأعصاب ووظائف العقل وإعجاز حاسة النطق والسمع والبصر واللمس والذوق وما يجري في هذه النفس من الدم والماء والإنزيمات التي تضمن حياته وتؤثر على تصرفاته. قال تعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ).
4- طبيعة النفس البشرية بأن يتأمل في نزعات النفس والرغبات التي خلقه الله عليها من حب الدنيا والرئاسة والتملك وحب الاعتداء والاستيلاء على ملك الغير وحب الخلود. ويتأمل في غريزة حب العمارة فلو كان جميع الخلق زاهدا لما عمرت الأرض. قال تعالى: (وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا).
5- الكائنات الحية حيث خلقها الله وجعلها تعيش وفق نظام دقيق وعام وشامل حيث أنشأها على اختلاف نوعها ولغاتها وطبيعتها وتكفل برزقها وتسييرها وهداها لمصالح عيشها وكفايتها فلم يعجزه ذلك مع كثرتها وتنوعها وكلما زادت أحدث الله سببا جديدا في الرزق. قرأ واصل الأحدب هذه الآية {وفي السماء رزقكم وما توعدون} فقال: (ألا إني أرى رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض ؟ فدخل خربة فمكث ثلاثا لا يصيب شيئاً, فلما أن كان اليوم الثالث إذا هو بدوخلة من رطب, وكان له أخ أحسن نية منه دخل معه فصارتا دوخلتين, فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق بينهما الموت). فلا تغتر ولا يهولنك كلام الكفار عباد الدنيا من نقص الأرزاق في الأرض ونفاد الماء وخشية هلاك العالم فهذا الكلام يصدر ممن لم يعرف عظم الخالق وتفرده بالرزق. قال تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ). فالله تكفل بالرزق ويعلم أين يأوي كل حيوان وأين يموت.
6- التأمل في نشأة خلق الكائنات على اختلاف طبائعها ووظائفها وتصنيفها وبيئتها سواء كانت كائنات دقيقة لا ترى بالعين أو ظاهرة أو بحرية أو بريه أو برمائية وسواء كانت أحادية الخلق أم مركبة. فيتأمل في نشأة النبات كيف ينمو والطير في أوكارها والحيوان في الغابات وهذا باب كبير التفكر فيه لا ينقضي ولا يحيط بعلمه مخلوق. قال تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). فيا سبحان الله ما أعظم عجائبه.
7- التفكر في حال الدنيا وسرعة زوالها وعظم فتنتها وتقلب أحداثها وتداول أيامها وحال أهلها اللاهثين وراء سرابها العابدين لها المفتونين بزينتها ثم تنكرها لهم وجحودها إياهم ومآلهم فيها إلى الخسارة والهوان والهم والحسرة في الحياة والممات فحالهم معها كرجل افتتن بعروس وأنفق في سبيلها وتعلق قلبه بها ثم لما زفت إليه وانكشف الغطاء رأى منها ما يهوله من النقائص والعيوب فانقبض منها ثم ولت عنه مسرعة وفي قلبه حسرة وندامة. قال تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
8- التفكر في أحوال الأمم السابقة والشعوب البائدة والحضارات المندثرة كيف وجدوا وتكاثروا ومكن لهم وعمروا الأرض واغتروا بعددهم وعدتهم وأموالهم وكيدهم ثم جاءتهم الرسل يدعونهم للحق فاستكبروا فنزل عليهم العذاب فأبادهم عن بكرة أبيهم وبقيت آثارهم شاهدة على كفرهم وعجزهم وزوالهم. والحديث عن هذا يطول وفي قصصهم عبرة للمتفكرين. قال تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
أما ذات الله وصفاته فيمنع التفكر فيها ويحرم لما جاء في الأثر: (تفكروا في آلاء الله ولا تتفكروا في الله). رواه الطبراني. لأن العقل يستحيل عليه إدراك كنه ذلك والإحاطة بعلمه. ولأن التفكر في هذا الأمر قد يفضي إلى الوقوع في مفاسد اعتقادية من التفويض والتشبيه والتمثيل والإلحاد وطروء الشك في المسلمات. ولذلك لما أعمل المبتدعة من معتزلة وغيرهم عقولهم في كنه ذات الله وصفاته فسد اعتقادهم وخرجوا عن منهج الني صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وكل ما يتخيله الانسان ويخطر عليه فيه فالله على خلافه سبحانه كما قال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
إن الانسان إذا قام بعملية التفكر في جميع خلق الله وآلائه استفاد أمورا:
1- سعة علم الله وخبرته بخلقه وأحوالهم وما يصلح لهم.
2- سعة قدرة الله ودقة إتقانه للمخلوفات.
3- سعة رحمة الله وإحسانه على خلقه.
4- عظيم حكمة الله وحسن تقديره للكائنات.
5- افتقار الانسان وتذلله وعجزه وقلة حيلته فهو أداة صغيرة في هذا الكون العظيم المسخر له.
6- عظم حق الله وفضله على خلقه.
وبتحقق هذه الأمور والمعاني تنتج فائدة وثمرة التفكر الكبرى في هدفين:
أولا: أن يستقر في قلبه عظم الخالق وغناه وتفرده بالخلق والتدبير وتكفله برزقهم ....فكل ذلك يجعله يقر ويعترف بتفرد الخالق بالعبادة فيخضع له ويتأله له وينصرف له بالعبادة وحده دون ما سواه. قال قتادة: (من تفكر في خلق نفسه عرف أنه إنما خلق ولينت مفاصله للعبادة).
ثانيا: أن يحدث ذلك له زيادة الإيمان فإنه إذا تعرف على كمال صفات الرب وجماله وجلاله من علم وقدرة وحكمة وحسن عادته ورحمته بالخلق وقيامه بمصالحهم وحلمه عليهم على مر الزمان وإنزال الرحمة عليهم مع كونهم يعصونه بالليل والنهار زاد إيمانه في قلبه لمشاهدته عظم الخالق فكلما زاد اليقين زاد الإيمان ولهذا كان العلماء أخشى الله من عباده. قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ).
ومن التفكر المحمود النظر والتأمل والتدبر في مقاصد الشارع في أحكامه وعلل التشريع والتماس الحكمة التي بنيت عليه الأوامر والنواهي الشرعية فإن هذا الباب عظيم النفع ومن أعمل فكره فيه واستفرغ جهده وكان أهلا تكون لديه ملكة فقهية وقدرة على الاستنباط وإعمال القياس الصالح في موضعه وزال عنه كثير من إشكالات العلم واعتراضات الجهال.
ومن أعظم ما يعين العبد على التفكر الخلوة عن الخلق واعتزالهم والبعد عن شواغل الدنيا وعلائق الترف ومجالس اللهو بحيث يكون القلب مستجمعا للفكرة محلا صالحا للعبرة تؤثر فيه الحكمة.
ومع بيان فضل هذه العبادة وعظيم أثرها في زيادة الإيمان واليقين والتأله إلا أن كثيرا من الناس اليوم غافلا عنها معرضا عن العمل بها لشغله بالدنيا وقلة علمه وطول أمله ودخوله في الأماني الكاذبة قال تعالى: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ).
إذا كثُر الاستغفار في الأمة وصدَر عن قلوبٍ بربّها مطمئنة دفع الله عنها ضروباً من النقم، وصرَف عنها صنوفًا من البلايا والمحن، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}