الرحيل .. (مشاركتي في مسابقة أنا بين السطور) - منتدى عالم الأسرة والمجتمع
logo

الملاحظات

مساحة فكر خواطر وقطع أدبية تربوية واجتماعية.

 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 10-02-2015, 04:57 PM
  #1
أميرُ البيَان
قلم وفي
 الصورة الرمزية أميرُ البيَان
تاريخ التسجيل: Jul 2004
المشاركات: 847
أميرُ البيَان غير متصل  
الرحيل .. (مشاركتي في مسابقة أنا بين السطور)



قنديل: أشكر جزيلاً الأديبة المبدعة الأستاذة " أحجية " على أن عرّفتني بهذه المسابقة، وذلك في تعليقها على مشاركتي المتواضعة في موضوعها " اللقاء الخامس: الخاطرة ".




الرحيل




تقفُ أمام المرآة المُكبِّرة في مكتبتك. تتأمل وجهك النحيل. تحدّق فيه طويلاً. ترى كيف مرّت عليه عجلات الزمن، وكم عبثتْ فيه أيادي العمر، رغم أنك لا تزال تحوم حول الثلاثين!. تتجاهل بقية الملامح، وتركّز على عينيك الواسعتين. عيناك، يا رجل، قلاعٌ شمّاء من الأسرار، ومحيطاتٌ عميقةٌ من التجارب. ويطوف في ذهنك الرحيل. تشعر أنه يقترب منك أكثر، وأنه يلحق بك في كل مكان، وأنت تابثٌ في حياتك لا تستطيع الهروب. تتذكر عمّك الذي ابتلعه طوفان الموت في فورة حياته. مات قبل أن يموت شبابه، وتوفي دون أن تقول له "وداعاً"، ورحل قبل أن يلوّح لك بيده.

تتذكّر عندما كنتَ خارج الوطن، في ليل "فيينا" الكئيب، في شهر العسل البائس، أتتك من شقيقك رسالة هاتفية فاجعة تقول: "عَظّم الله أجرك في عمّك". فزعتَ بآمالك إلى الكذب، كما حاول، قديماً، صاحبك المتنبي. ولكن هيهات! كان الصدق عاصفةً رمليةً من الكآبة، والعواطف لهيباً حارقاً من الألم. وأخذتَ تستخرج من صندوق حياتك ذكرياتك معه، وتزيل عنها غبار الماضي، وتغسلها بماء دموعك، وتنشرها في خيالك الواسع.

أوّاه! كم فرشتَ أضواء القمر، وسهرتَ معه في ليالي الأُنس. أوّاه! كم حفّتٓك معه مشاعر الود، كنسائم الربيع، في أحاديث السمر. كم كنتَ قاسياً حين ترتب له المقالب، وتجعله مصيدةً للضحك. فلا يجيبك إلا بكلامٍ ساخرٍ وابتسامةٍ صافيةٍ، كمياه الغمام.

عدتَ إلى الوطن عبر رحلةٍ طويلةٍ مُعقّدة. لم تُتح لك فرصة تغسيله أو تكفينه، ولا الصلاة عليه أو قبره. تلك ليست مهمتك، تلك مهمة الشجعان الذين يدفنون قِطَعاً من قلوبهم مع موتاهم، وجزءً من أرواحهم مع أحبابهم. أما الجبناء، أمثالك، فمهمتهم البكاء وراء الأبواب المغلقة في الغرف المظلمة، وكتابة الخواطر والأشعار، والتسلّي بالذكريات.

عمّك كان رجلاً عصامياً. بنى نفسه بنفسه. وتمحورت حياته كلها حول أبنائه. وزّع روحه في ابنته الكبرى وأولاده الثلاثة. كان يعطيهم دون كلل، ويجود لهم دون ملل. حرم نفسه من أشياء كثيرة، كي لا يحرمهم منها، وقد تركها لهم. كان يتحدث عنهم كثيراً. وقلّما تراه وحيداً، دون أن يصحبَ أحداً منهم. كان صبوراً جداً. اتخذ من الصبر رفيقاً، ومشى عليه طريقاً. يعاني في حياته معاناةً كبيرة، لكنه لا يشكو. لم يكن يشكو كثيراً، ونادراً ما تراه يتضجر أو يتأفّف. كانت جِرَاحه تولد في أعماقه، وتنزف في أعماقه، وتبرىء في أعماقه، دون أن يظهر على السطح شيئاً. وانعكست بريقاً حزيناً تراه، دون غيرك، في نظراته بين الحين والحين. كان اجتماعياً ودوداً. تجده يلاطف الأطفال ويمازحهم، ويشاركهم اللعب بألعاب الفيديو. يحب أهله ومعارفه، ويصل رَحِمَه وأقاربه. يفرح بسفر أحدٍ منّا إليه. كان بيته مفتوحاً لنا، كما كان قلبه.

عمّك لم تنساه. والله لن تنساه. كيف تنساه، وهو الذي أهداك سيفاً في زواجك؟ ستظل تحتفظ به ما تردّدتْ أنفاسُك ونبض قلبُك. كيف تنساه وأنت تحمل ذكراه في فؤادك؟ تصحبك ظلاً في نهارك، وحُلُماً في منامك. تصير لك منزلاً في حِلّك، ووطناً في سفرك. تراها فرحاً في ضحكك، ودمعاً في حزنك. تتخيّل ملامح وجهه في أفق ليلةٍ مظلمة، فترى ابتسامته الكبيرة على السماء بحيرةً من الضياء، تحرّض الليل على الشروق. تدعوه أن يعود للحياة، لتقبّل رأسه ثم تشاركه الرحيل!.



التعديل الأخير تم بواسطة أميرُ البيَان ; 10-02-2015 الساعة 05:05 PM
رد مع اقتباس
 

مواقع النشر


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:57 AM.


images