الشيخ عبدالله الجار الله إن الحمدَ لله نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستغفرُهُ؛ ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهده اللهُ فلا مضلَّ له؛ ومنْ يضللْ فلا هادي له؛ وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى اللهُ عليه وعلى آله وصحبه وسلمَ تسليماً كثيراً.
أمَّا بعدُ:
فأُوصيكُمْ عبادَ اللهِ ونفسِي بتقوَى اللهِ عزَّ وجلَّ، قالَ تعالَى:﴿ وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281].
أيهَا المؤمنونَ:
أمرَنَا اللهُ سبحانَهُ أَنْ نقرأَ القرآنَ الكريمَ، ونفهَمَ معانِيَهُ، ونتدبَّرَهُ لِنُدرِكَ مرامِيَهُ، قالَ تعالَى:﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29] و يقول سبحانه: ﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24] فالمتدبر لآيات القرآن العظيم لهو في خير كبير؛ إذ يزداد إيمانه، ويتضح له الطريق الموصلة إلى الله وإلى جنته، وبأي شيء يطلبها، ويستبين له طريق النار وبأي شيء يحذرها، أما من أغفل كتاب الله وهجره فما له من ذلك الخير من نصيب.
ومن السور التي نقرؤها مرارا وتكرارا وأكثر الناس في غفلة عن معانيها سورة العصر والتي حَوَتْ فِي طياتِهَا كثيراً مِنَ المعانِي الإيمانيةِ، والفوائدِ التربويةِ والسلوكيةِ، ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر:1 - 3]. قال عنها الشافعي رحمه الله: "لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم"؛ وما ذلك إلا لما احتوته هذه السورة من بيان لأصول الدين وفروعه، وبيان لسبيل المؤمنين المؤدي للربح والفوز بالجنة والنجاة من النار, وكانَ الصحابةُ الكرامُ رضيَ اللهُ عنْهُمْ يقرؤونَهَا إذَا الْتَقَوْا أَوِ افترَقُوا. وقَدِ افتتحَ اللهُ عزَّ وجلَّ هذهِ السورةَ بِالقَسَمِ، فقالَ:﴿ وَالْعَصْرِ ﴾ وهوَ الزمنُ الذِي تقَعُ فيهِ أعمالُ بنِي آدمَ، وهذَا يدلُّ علَى عِظَمِ الوقتِ وأهميتِهِ، وشرفِ الزمانِ وعُلوِّ قيمتِهِ، فالوقتُ مِنْ أَنْفَسِ النِّعَمِ التِي أنْعَمَ اللهُ سبحانَهُ بِهَا علَى الناسِ؛ لأنَّهُ ميدانُ سعيِهِمْ، ومضمارُ سبْقِهِمْ، والرابحُ مَنِ اغتنمَ وقْتَهُ، وصانَ مِنَ الزللِ نفسَهُ، والخاسرُ مَنْ فرَّطَ فِي الزمنِ، فكُنْ يَا عبدَ اللهِ مِمَّنْ أحْسَنَ اغتنامَ وقتِهِ وعُمرِهِ بالخيرِ والعملِ، ولا تُضَيِّعِ الوقتَ وإِنْ كانَ قليلاً، فهُوَ إمَّا لكَ أَوْ عليكَ، قالَ اللهُ تعالَى: ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8].
وجاء أنه وقت العصر من النهار ولِمَكانةِ وقتِ العصرِ وشرفِهِ فضَّلَ اللهُ فيهِ بعضَ العباداتِ، فخَصَّ صلاةَ العصرِ مِنْ بينِ الصلواتِ، فأمرَنَا بالاهتمامِ بِهَا، والمحافظةِ عليهَا، قالَ تعالَى:﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ [البقرة: 238] وحذَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ ترْكِهَا، أَوِ التهاوُنِ فيهَا، أَوِ التغافُلِ عَنْ أدائِهَا، فقَالَ - صلى الله عليه وسلم - :«مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ».
فالإيمانُ هوَ الركنُ الذِي لاَ غِنَى عنْهُ للإنسانِ، وهوَ أساسُ الفرَحِ والأمانِ، وبابُ السرورِ والاطمئنانِ، ولاَ يقبلُ اللهُ تعالَى مِنْ إنسانٍ عملاً، ولا يُثبِتُ لهُ أجراً، مَا لَمْ يكُنْ عملُهُ نابعاً مِنَ الإيمانِ باللهِ تعالَى، وحقيقتُهُ التسليمُ والخضوعُ للهِ عزَّ وجلَّ، وامتثالُ أمرِهِ، والرضَا بقَسَمِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ذَاقَ طَعْمَ الإيمانِ مَنْ رَضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمَّدٍ رَسُولاً» ولا يكون الإيمان بالله إلا بمعرفته عز وجل بربوبيته، وأنه الخالق الرازق المدبر لهذا الكون، وبألوهيته وأنه المستحق للعبادة وحده دون سواه، وبأسمائه وصفاته، ومعرفة رسوله - صلى الله عليه وسلم - المعرفة التي تستلزم قبول ما جاء به من الهدى ودين الحق وتصديقه فيما أخبر وامتثال أمره فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر وتقديم حبه على النفس والمال والولد، ومعرفة دين الإسلام وذلك بتعلم أحكامه وتعاليمه ومن ثم العمل بها، فمن عرف ذلك فقد آمن وصدق، ومن خالف وأعرض فهو المتصف بالخسارة.
ومِنَ الإيمانِ باللهِ استثمارُ الجوارحِ فِي عملِ الطاعاتِ والقُرُباتِ، ولذَا أردفَ اللهُ سبحانَهُ وتعالَى عملَ الصالحاتِ بعدَ ذِكْرِ الإيمانِ فقالَ:﴿ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ [الشعراء: 227] فهو جوهر العبادة وأساسها، فالعمل الصالح شامل لأفعال الخير كلها الظاهرة والباطنة، المتعلقة بحق الله وحق عباده الواجبة والمستحبة. والعمل الصالح من لوازم الإيمان بالله، فكلما زاد عملك زاد إيمانك، وكلما قل عملك قل إيمانك، فالإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
وبعض الناس يظن أنه يكفي مجرد الإيمان في القلب ولا حاجة للعمل، وهذا باطل، بل الإيمان مقترن بالعمل، والعمل دال على الإيمان، فمن صلح باطنه بالإيمان صلح ظاهره بالعمل الصالح، ومن فسد باطنه ونقص إيمانه فسد ظاهره وترك العمل، فلا تجد الإيمان في القرآن إلا وهو مقرون بالعمل الصالح، وهذا كثير لمن تأمل وتدبر.
قال العلامة ابن سعدي رحمة الله تعالى عن وصايا سورة العصر : "فبالأمرين الأولين يكمل الإنسان نفسه - أي: بالإيمان والعمل الصالح -، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره - وهما التواصي بالحق وبالتواصي بالصبر -، وبتكميل الأمور الأربعة يكون الإنسان قد سلم من الخسار وفاز بالربح العظيم".
عباد الله إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا فاللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين يا ربَّ العالمين.