تظلُّ المفاهيم والأفكارُ في حياة الإنسان هي أهمَّ عوامل نجاحه وتفوُّقِه وتميُّزه، وتظلُّ كذلك هي سببَ فشله وتأخُّره وضياعه، وكلُّ مَن يريد النجاح عليه أن يعملَ على تحسين مفاهيمه وآليات تفكيره، ويمكن بعدَ ذلك أن يَنفر من على ظهر الأرض كأنجح مخلوق.
الحياة فرصة، أحدُ المفاهيم المهمَّة التي نحن بحاجة إلى فَهْمه، وتحقيقه واقعًا في مسيرة الواحد منَّا، وهو مفهومٌ اعتنقه بعضُ الماضين، فرحلوا به إلى جِنان الخُلد عند ربِّ العالمين.
إنَّ هذا المفهوم يجعلنا نعمل في الدُّنيا، وأعيننا أكثرُ انفتاحًا على الدار الآخرة، وعقولنا أكثرُ إدراكًا لمعنى الفرصة في الحياة، وقلوبنا كذلك ينبغي أن تكون أكثرَ انفتاحًا لهذا المعنى، وإقبالاً على آثاره في الدُّنيا قبلَ الآخرة.
إنَّ مشكلتنا الحقيقيَّة أنَّ هذا المفهومَ غاب من حياتنا، لا لأنَّه غيرُ مهم، كلاَّ، وإنَّما لأنَّ الدنيا استحوذت على قلوبنا وأفكارنا، فلم تُبقِ فيها مجالاً للتروِّي في معنى الفرصة في الدار الآخرة، وأدلةُ هذا أكبرُ من أن تُحصى في ظلال هذا المقال.
أعظم قصَّة تدلُّنا على عظمة هذا المفهوم وأثره في الحياة: قصَّة عُكَّاشة بن محصن؛ ففي الصحيحين من حديث ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: خرج رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يومًا فقال: ((عُرضتْ عليَّ الأُمم، فجعل يمرُّ النبيُّ ومعه الرَّجل، والنبي ومعه الرَّجلان، والنبي ومعه الرَّهط، والنبي وليس معه أحد، فرأيتُ سوادًا كثيرًا سدَّ الأفق، فرجوتُ أن يكون أُمَّتي، فقيل هذا موسى في قومه، ثم قيل لي: انظر، فرأيتُ سوادًا كثيرًا سدَّ الأفق، فقيل لي: انظر هكذا وهكذا، فرأيتُ سوادًا كثيرًا سدَّ الأفق، فقيل: هؤلاء أُمتك، ومع هؤلاءِ سبعون ألفًا قبلهم يدخلون الجنة بغير حساب، هم الذين لا يَتطيَّرون، ولايَسترقون، ولا يَكتوون، وعلى ربِّهم يتوكَّلون))، فقام عُكَّاشة بن محصن، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: ((اللهمَّ اجعله منهم))، ثم قام رجل، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: ((سبقك بها عكَّاشة)).
فتأمَّلْ كيف كانت الفرصةُ في حياة عكَّاشة بن محصن، وأنَّها في لحظة واحدة رحلتْ به إلى دخول الجنَّة دونَ حساب أو عقاب؟! وتأمَّل كم كانت هذه الأمنية تَعتلجُ في نفوس الجالسين كلِّهم؟! ومجرَّد تأخُّرهم عن استثمار الفرصة فوَّت عليهم أعظمَ الأرباح في عَرَصات القِيامة، وحاول أحدُهم أن يَلحق بصاحبه، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: ((سَبَقك بها عكَّاشة)).
وأزيدك وعيًا بأثر الفُرص في حياة الإنسان، خُزيمة بن ثابت - رضي الله عنه - صحابيٌّ من صحابة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يُدرك أثر هذا المفهوم، ويعرف أبعادَه؛ ففي سنن أبي داود، وصحَّحه الألباني: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ابتاع فرسًا من أعرابي، فاستتبعه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليقضيَه ثمنَ فرسِه، فأسرع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - المشي، وأبطأ الأعرابيُّ، فطفق رجالٌ يعترضون الأعرابي، فيُساومونه بالفرس، ولا يشعرون أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ابتاعه، فنادَى الأعرابي رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: إن كنتَ مبتاعًا هذا الفرس، وإلاَّ بعتُه؟ فقام النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين سمع نداءَ الأعرابي، فقال: ((أو لَيسَ قد ابتعتُه منك؟))، فقال الأعرابي: لا، والله ما بعتُكَه، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بل قد ابتعتُه منك))، فقال الأعرابي: هلمَّ شهيدًا، فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهدُ أنَّك قد ابتعتَه، فأقبل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على خزيمة فقال: ((بِمَ تشهد؟))، فقال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - شهادة خُزيمة بشهادة رَجلين.
إنَّه لا يمكن لعاقل البتةَ أن يساوره الشكُّ أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يدِّعي ما لم يفعل.
وهذه القضية قضية قطعيةٌ عندَ مَن آمن بهذا الدِّين بالأمس زمنَ رفقة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الأرض، أو عند مَن آمن بعدَ ذلك بآلاف السِّنين، لكن على قَدرِ مفاهيمنا وتصوراتنا وإدراكنا يظلُّ استثمارُنا للفرص عجلاً في حياتنا أو بطيئًا.
إنَّ آثار هذا المفهوم على الإنسان أكبرُ من أن يُحيط بها قلمي في مساحة كهذه، ويكفي أنَّني أبرزتُه على السَّطح، ويمكن للقارئ أو الكاتب أن يُشارك في توسيعه بالقدر الذي يَزيد في تعميم فكرته، ونسأل الله أن يمدَّنا بتوفيقه وعونه، إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه.