قصة حقيقية
أخف شعورا بالدهشة لما عرضت زوجتي علي في صبيحة العرس أن نزور والدتي، فنحن قد رأيناها بالأمس، فما الداعي إلى زيارتها اليوم!
لكن زوجتي واجهت اعتراضي بلطف، وأبدت رغبتها في أن نبارك أول صباح في حياتنا الزوجية ببر والدتي والإحسان بزيارتها، فلم أملك إلا أن نذهب
وعند أمي، شعرت بما يشبه الغشاء ينقشع من أمام عيني، فسلام زوجتي الحار عليها، والدعوات الصالحة تنهال من فيها بالبقاء والصحة والعافية، والسؤال عن الحال والأبناء، ومجاذبة أطراف حديث ساحر لا يمل معها، وخدمتها المبادرة بنفس راضية لطيفة، كل ذلك علمني أي غفلة كنت أسدر فيها سابقا..
إنني لا شك أشعر تجاه أمي بكثير من الحب والاحترام، لكني لم أفكر يوما أن أترجمه إلى أفعال، بل كنت أعاملها كما أعامل صديقا قديما لا كلفة بيني وبينه، فمن السهل علي أن أعتذر عن مواعيدها بأني مشغول، وأن أنتقد بكل يسر طعامها وترتيبها، وأن أكلفها بضيافة أصدقائي دائما دون بذل أي معونة
لكن زوجتي، منذ تلك الزيارة المباركة وهي ما تفتأ تأخذ بيدي إلى جنان البر الراضية يوما فيوم، فقد علمتني أصول الترحيب الحار والسلام المشتاق على والديَّ جميعا، علمتني أنهما أحق الناس بالهدية وقضاء الحوائج، وأنا الذي كنت أبادر إلى فعل ذلك مع زملاء العمل؛ لأبدو رجلا كريما جوادا، وأتناسى والدي ببرود عجيب، وكثير من الناس في الحقيقة كذلك، تجده سباقا إلى قضاء حوائج زملائه وأصدقائه، حريصا على دعمهم والتواصل معهم، وإكرامهم وصلتهم، في حين إن علاقته مع والديه أقل من العادية، وليس ثمة وازع من الإخلاص أو نازع من التقى يدعوه إلى الإحسان إليهم والاعتراف بفضلهم، رغم أنه لا أحد أحق منهم بذلك قطعا..
كانت زوجتي تحثني على زيارة والديَّ كل يوم، بل وترفق معي إن استطاعت طبقا متقنا، وتحثني على كثرة السؤال عنهم والاتصال بهم، وألا نبدأ بالسلام على أحد في المناسبات والأعياد غيرهم، وتردد أن للبر بركة تشرق أنوارها على العمر والرزق والعمل، كما تتعاهد حاجاتهم فتخبرني بها، وتشجعني على التواصل مع إخوتي وأخواتي وحاجاتهم والسؤال عن حالهم برا بوالدتي
ولما فكرت في العمرة أنا وإياها، عرضت علي تلميحا أن أبادر بصحبة أمي وأبي معنا، وكان ذلك فعلا، ولم تتوان أثناء الرحلة في خدمتهما وبيان الأحكام لهما، وتعليمهما فضل الأذكار والسنن الواردة وأقرب الأفعال موافقة للسنة، كما أصبح هذا الفعل ديدننا كل عام، بل أصبحنا نأخذ معنا بعض أخواتي ممن تتعسر ظروفهن، ولا تسمح لهن بالعمرة مع أزواجهن
كل ذلك تفعله وترشدني إليه وهي تحسسني أني أنا المبادر، وكأنها مجرد مقترحة تود لو حازت أفكارها على إعجابي كرجل قوام عليها، وكشخص ناضج وشهم، كما كانت تمتدح بذكاء صفاتي الحسنة، ثم تعرج بإشارة خفية على اقتراح بمد يد البذل هذه إلى والدي، إتماما للمعروف وتتويجا للعطاء
وفي الحقيقة، لا أجد أي غضاضة في الاعتراف بالجميل الخالص لزوجتي العزيزة، بأن ربت في نفسي معاني الإحسان، وعلمتني أصول البر، ولفتت نظري إلى جنان الوالدين التي كنت غافلا عنها، مادا المعونة وباذلاً الخير إلى أناس غيرهم، قد يستحقون وقد لا يستحقون..
وبعد أن ذقت طعم الإحسان العذب، أجدني غير راضٍ عن نفسي حتى الآن، فما زالت طموحاتي ترتقي إلى أن أجعل والديَّ يمشيان في الأرض على أجنحة الذل التي سأخفضها لهم، وما زال لدي الكثير من الأفكار التي أوحت إلي بظلالها الساحرة زوجتي الصالحة، حتى ينعم والدي ببري لهما أيما نعيم..
وإني والله كلما سمعت دعاء العجوز لي في جوف الليل، أو رأيت بسمة الشيخ تشرق برضا بين جدب السنين، أيقنت أني لم أفعل شيئا بعد..