اللقاء السابع من لقاءات السيرة العطرة
بداية النبوة ونزول الوحي : 
فلما كان في رمضان من السنة الحادية والأربعين وهو معتكف بغار حراء ، يذكر الله ويعبده ، فجئه جبريل – عليه السلام – بالنبوة والوحي ، ولنستمع إلى عائشة – رضي الله عنه – تروي لنا هذه القصة بتفاصيلها ، 
قالت عائشة – رضي الله عنها -:
أول ما بُدئ به رسول الله -  صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث – أي يتعبد – فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة ، فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك ، فقال : اقرأ . قال : ما أنا بقارئ  
قال : فأخذني ، فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ . قلت : ما أنا بقارئ . فأخذني ، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال  اقرأ . فقلت :  ما أنا بقارئ . فأخذني . فغطني الثالثة . ثم أرسلني فقال : } 
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ{1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ{2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ{3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ{4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )سورة العلق. 
فرجع بها رسول الله  صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد – رضى الله عنها – فقال : زملوني . فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة – وأخبرها الخبر  -: لقد خشيت على نفسي . فقالت خديجة : كلا ، والله ما يخزيك الله أبداً . أنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . 
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزي ، ابن عم خديجة ، وكان امرأًً تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخاً قد عمى . 	
فقالت له خديجة : يا ابن العم اسمع من ابن أخيك .  
فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى ؟ 
فأخبره رسول الله -  صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى . 
فقال له ورقة : هذا الناموس الذي نزل الله على موسى . يا ليتني فيها جزعاً – أي قوياً جلداً – ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك . 
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم  - : أو مخرجي هم ؟ 
قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً  
ثم لم يلبث ورقة أن توفى ، وفتر الوحي .      
تاريخ بدء النبوة ونزول الوحي :  
تلك هي القصة بداية النبوة ونزول الوحي على النبي -  صلى الله عليه وسلم - لأول مرة ، وقد كان ذلك في رمضان في ليلة القدر ، قال الله  تعالى -
  شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ { الآية 185 سورة البقرة  وقال : }إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) سورة القدر وقد أفادت الأحاديث الصحيحة أن ذلك كان ليلة يوم الاثنين قبل أن يطلع الفجر .
وحيث إن ليلة القدر تقع في وتر من ليالي العشر الأواخر من رمضان ، وقد ثبت علمياً أن يوم الاثنين في رمضان من تلك السنة إنما بدأت في الليلة الحادية والعشرين من رمضان سنة إحدى وأربعين من مولده - صلى الله عليه وسلم  - وهي توافق اليوم العاشر من شهر أغسطس سنة 610م وكان عمره -  صلى الله عليه وسلم - إذ ذاك أربعين سنة قمرية وستة أشهر واثنى عشر يوماً . وهو يساوي تسعاً وثلاثين سنة شمسية وثلاثة أشهر واثنين وعشرين يوماً ، فكانت بعثته على رأس أربعين سنة شمسية . 
 
فترة الوحي ثم عودته :   
وكان الوحي قد فتر وانقطع بعد أول نزوله في غار حراء – كما سبق – ودام هذا الانقطاع أياماً ، وقد أعقب ذلك في النبي -  صلى الله عليه وسلم - شدة الكآبة والحزن ، ولكن المصلحة كانت في هذا الانقطاع ، فقد ذهب عنه الروع ، وتثبت من أمره ، وتهيأ لاحتمال مثل ما سبق حين يعود ، وحصل له التشوف والانتظار ، وأخذ يرتقب مجئ الوحي مرة أخرى . 
وكان - صلى الله عليه وسلم - قد عاد من عند ورقة بن نوفل إلى حراء ليواصل جواره في غاره ، ويكمل ما تبقى من شهر رمضان ، فلما انتهى شهر رمضان وتم جواره نزل من حراء صبيحة غرة شوال ليعود إلى مكة حسب عادته . 
قال - صلى الله عليه وسلم - : فلما استبطنت الوادي- أي دخلت في بطنه – نوديت ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً ، ونظرت إلى شمالي فلم أر شيئاً ، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً ، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً ، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً ، فإذا الملك جاءني بحراْ جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فجئثت منه رعباً حتى هويت إلى الأرض ، فأتيت خديجة ، فقلت : زملوني ، زملوني ، دثروني ، وصُبوا على ماء بارداً ، فدثروني وصبوا على ماء بارداً ، فنزلت (
 يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ{1} قُمْ فَأَنذِرْ{2} وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ{3} وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ{4} وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) سورة المدثر. 
	وذلك قبل أن تفرض الصلاة ثم حمي الوحي وتتابع . 
وهذه الآيات هي بدء رسالته -  صلى الله عليه وسلم - وهي متأخرة عن النبوة بمقدار 
فترة الوحي ، وتشتمل على نوعين من التكليف مع بيان ما يترتب عليه : 
	أما النوع الأول فهو تكليفه -  صلى الله عليه وسلم - بالبلاغ والتحذير ، وذلك في قوله تعالى : } قُمْ فَأَنذِرْ { . فإن معناه : حذر الناس من عذاب الله إن لم يرجعوا عما هما فيه من الغي والضلال ، وعبادة غير الله المتعال ، والإشراك به في الذات والصفات والحقوق والأفعال . 
	
وأما النوع الثاني فتكليفه -  صلى الله عليه وسلم - بتطبيق أوامر الله – سبحانه وتعالى – والالتزام بها في نفسه ، ليحذر بذلك سخط الله ، ويصير أسوة لمن آمن بالله . وذلك في بقية الآيات ، فقوله : } وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ {. معناه : خصه بالتعظيم ، ولا تشرك به في ذلك أحداً غيره ، وقوله :  وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ  . المقصود الظاهر منه تطهير الثياب والجسد ، إذ ليس لمن يكبر الله ويقف بين يديه أن يكون نجساً مستقذراً ، وقوله  : 
 وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ   :معناه . ابتعد عن أسباب سخط الله وعذابه ، وذلك بطاعته وترك معصيته ، وقوله :  وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ  . أي لا تحسن إحساناً تريد أفضل منه في هذه الدنيا . 
أما الآية الأخيرة فأشار فيها إلى ما يلحقه من أذى قومه ، حين يفارقهم في الدين ، ويقوم بدعوتهم إلى الله وحده ، فقال : وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ .